الأعمى المستنير/البصير (يو 9)-إكليريكي جوزيف منير
الأعمى المستنير/البصير (يو 9)-إكليريكي جوزيف منير
• أسطورة الكهف لــــ أفلاطون
– تخيل رجالاً قبعوا في مسكنٍ تحت الأرض على شكل كهف، تطل فتحته على النّور، ويليها ممر يُوصل إلى الكهف. هناك ظل هؤلاء الرّجال منذُ نعومة أظفارهم، وقد قُيدت أرجلهم وأعناقهم بأغلالٍ، بحيثُ لا يستطيعون التحرك من أماكنهم، ولا رؤيّة أي شيء سوى ما يقع أمام أنظارهم، ومن ورائهم تضيء نارٌ اشتعلت عن بعدٍ في موضعٍ عالٍ، وبين النّار والسّجناء طريقٌ مرتفعٌ، على طول هذا الطريق جدارٌ صغيرٌ فيه رجالاً يحملون شتى أنواع الأدوات الصناعيَّة، وطبيعي أن يكون بين جملة هذه الأشكال مَنْ يتكلم ومَنْ لا يقول شيئًا.
– هؤلاء الرّجال لا يرون من أنفسهم ومن جيرانهم شيئًا غير الظّلال الّتي تلقيها النّار على الجدار المُواجه لهم من الكهف. هؤلاء الرّجال لا يعرفون من الحقيقة في كلِّ شيءٍ إلاَّ الأشياء المصنوعة، ولذلك فهم حقًّا سجناء.
– فلنتأمل الآن ما الّذي سيحدث إذا أطلقنا سراح واحد من هؤلاء السّجناء، وأرغمناه على أن ينهض فجأةً، ويدير رأسه، ويسير رافعًا عينيه نحو النّور. فعندئذٍ تكون كلُّ حركةٍ من هذه الحركات مؤلمةً له، وسوف ينبهر إلى حدٍّ يعجز منه عن رؤيّة الأشياء الّتي كان يرى ظلالها من قبل. وإذا أنبأه أحدٌ بأنَّ ما كان يراه من قبل وهمٌ باطلٌ، وأنَّ رؤيّته الآن أدق، لأنَّه أقرب إلى الحقيقة، ألاَّ تظنه سيشعر بالحيرة، ويعتقد أنَّ الأشياء الّتي كان يراها من قبل أقرب إلى الحقيقة من تلك الّتي يراها الآن ؟
– وإذا أرغمناه على أن ينظر إلى الضوء المنبعث عن النّار، ألاَّ تظن أن عينيه ستؤلمانه، وأنَّه سيحاول الهرب إلى الأشياء الّتي يمكنه رؤيتها بسهولةٍ، والّتي يظن أنَّها أوضح بالفعل من تلك الّتي يراها الآن ؟ وإذا ما اقتدناه رُغمًا عنه ومضينا به في الطريق الصاعد الوعر المتجه إلى ضوء الشّمس، إلاَّ تظنه سيتألم وسيثور لأنَّه اُقتيد على هذا النّحو، بحيثُ أنَّه حالما يصل إلى النّور تنبهر عيناه من وهجه إلى حدّ لا يستطيع معه أن يرى أي شيءٍ.
– في البداية يكون أسهل الأمور أن يرى الظّلال، ثم صور النّاس وبقية الأشياء منعكسةً على الماء، ثم الأشياء ذاتها. وبعد ذلك يستطيع أن يرفع عينيه إلى نور القمر والنّجوم، فيكون تأمل القمر في اللّيل أسهل له من تأمل الشّمس في وهج النّهار، وآخر ما يستطيع أن يتطلّع عليه هو الشّمس، حيثُ يعي أنَّ الشّمس هي أصل الفصول والسّنين، وأنَّها تتحكم في كلِّ ما في العالم المنظور، وأنَّها علة كلّ ما كان يراه هو ورفاقه في الكهف.
– إذا ما عاد بذاكرته إلى الكهف، وإلى رفاقه السّجناء، ألاَّ تظنه سيفرح بذلك التغيّر الّذي حلَّ عليه، ويرثي لحالهم ؟ لنتصوّر أيضًا ماذا يحدث لو عاد صاحبنا واحتل مكانه في الكهف، ألن تنطفئ عيناه من الظّلمة حين يعود فجأةً من الشّمس ؟ ألن يسخر رفاقه منه إذا حاول أن يُحرّرهم من أغلالهم، ويقولوا أنَّه لم يصعد إلى أعلى إلاَّ لكي يفسد أبصاره ؟!!!
– على كلِّ شخصٍ عاقلٍ أن يتذكر أنَّ العين تضطرب لأمرينِ: إمَّا الانتقال من النّور إلى الظّلمة، وإمَّا الانتقال من الظّلمة إلى النّور. فإذا رأى المرء نفسًا مضطربةً عاجزةً عن تأمل شيءٍ ما، عليه أن يتساءل إنْ كانت تلك النّفس قد اضطربت أبصارها، لأنَّها أتت من حياةٍ نورها أبهر ولم تعتد الظّلمة بعد، أمّ لأنَّها أتت من ظلمات الجهل إلى النّور، فبهرها الضوء الشّديد. ففي الحالة الأوّلى ينبغي أن نسعد لحالتها، أمَّا في الحالة الثّانية فينبغي أن نرثي لها.
ما أوجه الشّبه بين معجزة شفاء المولود أعمى (يو9)، أسطورة الكهف لأفلاطون ؟
• مُقدّمة
– يُقرأ نص معجزة شفاء المولود أعمى (يو9) مرتين خلال السّنة الطقسيَّة، مرةً في الأحد السّادس من الصوم الكبير (أحد التناصير)، والمرة الثّانية في الأحد الرّابع من طوبة (بعد عيد الغطاس)، وذلك ارتباطًا بسرِّ المعموديَّة الّذي يظهر في الاغتسال من بركة سلوام: “… اذهب إلى بركة سلوام واغتسل. فمضيتُ واغتسلتُ فأبصرتُ” (11).
– لا ترد هذه المعجزة في الإزائيّات (مت، مر، لو)، فالقدّيس يوحنَّا ينفرد بذكر هذه المعجزة
• تفسير آيات النّص
– ” وفيما هو مجتازٌ رأى إنسانًا أعمى منذُ ولادته” (1). نجد هنا انتباه يسوع للآخرين ولاسيما الضعفاء والمحتاجين، كما نجد مُبادرته في مساعدة هذا الإنسان من خلال صنع معجزةً معه وشفائه الجسديّ، الّذي هو استباقٌ إلى شفاء الرّوحيِّ بمعرفة أنَّ يسوع هو ابن الله.
– لم ينتظر يسوع من المولود أعمى أن يؤمن حتّى يمنحه نعمة البصر، وهذا على خلاف المعجزات الأخرى. فلم يكن الإيمان بشخصه شرط شفائه. ولكن يسوع منحه نعمة البصر (وُلد أعمى) ليقتاده في مسيرةٍ نحو الإيمان به.
– “… مَنْ أخطأ هذا أمّ أبواه حتّى وُلد أعمى” (2). يُعبّر سؤال التلاميذ عن الفكر السّائد وقتئذٍ عند اليهود، وهو أنَّ المرض/العلّة سببه/ــــا الخطيئة سواء أكانت خطيئة الشّخص أو خطيئة آبائه (ولادته أعمى ثمرة خطيئة والديه): “… الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضُرست” (حز18: 2).
– كما يُعبّر هذا السّؤال عن أنَّ العقاب والثّواب يتمّ على الأرض في حياة الشّخص: ” وكان… قومٌ يخبرونه عن الجليليّين الذّين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم. فأجاب يسوع وقال لهم أتظنون أنَّ هؤلاء الجليليّين كانوا خطاةً أكثر من كلِّ الجليليّين لأنَّهم كابدوا مثل هذا. كلاَّ أقول لكم. بل إنْ لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون. أو أُولئك الثّمانية عشر الّذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم أتظنون أنَّ هؤلاء كانوا مُذنبين أكثر من جميع النّاس السّاكنين في أورشليم. كلاَّ أقول لكم. بل إنْ لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” (لو13: 1-5).
ما سبب نكبات/اضطهاد المسيحيين؟ هل هي بسبب عدم توبتهم وخطاياهم ؟
– يجب عدم الرّبط بين الأمراض والكوارث، وبين علاقة الإنسان بالله.
– ” أجاب يسوع لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه” (3). يرفض يسوع الفكر السّائد، ويُصحح المفاهيم، موضحًا أنَّ هذا المرض سيكون لمجد اسم الله الأعظم. وهذا هو هدف معظم معجزات الإنجيل الرّابع وهو إظهار مجد الله وقدرته.
– “… تفل على الأرض وصنع من التفل طينًا وطلى بالطّين عيني الأعمى” (6). كان هناك اعتقادٌ بأنَّ للتُّفال/الطين خصائص شفاء. تُعتبر هذه المعجزة ليست شفاءً من مرضٍ، بل عملية خلق تصحيحيَّةٍ، فالإنسان وُلد من الطين: ” والآن ياربُّ أنتَ أبونا. نحن الطّين وأنتَ جابلنا وكُلُّنا عمل يديك” (إش64: 8). فيسوع خلق عيون روحيَّة جديدة للأعمى، حتّى يرى بها نور الله ونور الحياة الأبديَّة.
– “… اذهبِ واغتسل في بركة سلوامٍ. الّذي تفسيره مُرسلٌ (sent). فمضى واغتسل وأتى بصيرًا” (7). يشير الاغتسال هنا إلى سرِّ المعموديَّة (الاستنارة)، حيثُ التوبة ومغفرة الخطايا.
– بركة سلوامٍ: تقع جنوب أورشليم، حفرها الملك حزقيّا تأمينًا لوصول المياه إلى المدينة أثناء حصارها، وتُسمى “مُرسلٌ” لأنَّ الماء يُرسل إليها من نبعٍ آخر. فإذا كان ماء بركة المُرسل ردّ البصر للأعمى، فهكذا أصبح الأعمى البصير مُرسلٌ للفريسيّين، وهكذا نكون نحن مُرسلين بنور الوحي لجميع البشر.
– تظهر هنا قدرة يسوع وأُلوهيّته، فهو ابن الله قادرٌ على صنع المعجزات. س ما موقف الجيران، الفريسيين، الوالدينِ من شفاء المولود أعمى ؟
– الجيران: تعجبوا واندهشوا وتسألوا كيف انفتحت أعينيه، وكأنَّهم اعتادوا أن يروه أعمى “أعمى مقبول”، ولا يريدوا أو يُحبّوا وضعه الجديد.
– الفريسيين: استنكروا وشجبوا ورفضوا ما فعله يسوع: “… هذا الإنسان ليس من الله لأنَّه لا يحفظ السّبت” (16)، وذلك بسبب مُخالفة الشّريعة وكسر وصيّة السّبت: تزمت حرفيّ للشّريعة يظهر في كالجمارا: ” إنَّه تُحسب خطيّةٌ لكلِّ مَنْ يضع دواءً داخل العين”، كذلك عجن الطين بالماء يوم السّبت يُعدّ خطيئةً، واستخدام الرّيق/اللّعاب لعلاج العين تعدّي.
ما الأهم: ميدان التحرير (الإنسان) أمّ الدّستور والقوانين والبرلمان (الشّريعة) ؟
– لقد أصبح النّاموس وحرفيَّة الشّريعة سبب عمى الفريسيين عن رؤيّة النّور الحقيقيّ، ورؤيّة ربّ السّبت.
– كان هناك انشقاقٌ حول يسوع؛ البعض يرى أنَّه ليس من الله (شيطان)، لأنَّه يُخالف الشّريعة، والبعض الآخر يرى أنَّ مَنْ يعمل هذه الآيات ليس إنسانًا خاطئًا: ” إنْ راعيتُ إثمًا في قلبي لا يستمع لي الرّبُّ” (مز66: 18).
– “… في الخطايا وُلدت أنتَ بجملتك وأنتَ تًعلّمنا” (34). يشعر الفريسيّ بامتلاك الحقيقة كاملةً، فهو لا يقبل تعليمًا من الآخرين، لأنَّه أهل الشّريعة. فكان بالأحرى لهم أن يؤمنوا بيسوع ويصدقوا عمله، ويدعوا النّاس للإيمان والتوبة.
– هناك تخوفٌ من أن يتحوّل المُكرّسين إلى مُنكري عمل الله في حياة النّاس. هل نحن نعيش في ظلمة الفريسيّين ؟
– الوالدينِ: “… نعلم أنَّ… ابننا… وُلد أعمى. وأمَّا كيف يُبصر الآن فلا نعلم… هو كامل السّن. اسألوه فهو يتكلّم عن نفسه. قال أبواه هذا لأنَّهما كانا يخافانِ من اليهود” (20-22). موقف غسل الأيدي مثل بيلاطس البنطي: “… أخذ ماءً وغسل يديه… قائلاً إنَّي بريءٌ من دم هذا البارّ. أبصروا أنتم” (24).
– المولود أعمى: تدرج في مسيرة الإيمان بيسوع المسيح من إنسان (11) إلى نبي (17) إلى ابن الله (38)، متحملاً اضطهاد طرده من المجمع “مُبصر منبوذ”.
– إنَّ أوّل ما رأى المولود أعمى هو قوّة الله الّتي أنارت قلبه قبل أن تنير عينيه، فلقد قبل الأعمى نور الجسد ونور الله معًا. ماذا تُمثّل لي شخصيًّا معجزة المولود أعمى ؟ ما ردّ فعلي أمام عمل الله الإعجازيِّ ؟
هل شعرتَ يومًا بأنَّك أعمى ؟ قارن بين حال المولود أعمى وهو فاقد البصر، وبين حاله وهو يرى ؟
– “… لو كنتم عُميانًا لما كانت لكم خطيَّةٌ. ولكن الآن تقولون إنَّنا نُبصر فخطيّتكم باقيةٌ” (41) يُوجّه يسوع هنا كلمةً قوّيّةً إلى الفريسيّين، عن طريق التضاد بين (البصر، العمى)، وأيضًا عن طريق التداخل بين (البصر الجسديّ، والبصر الرّوحيّ)، (العمى الجسديّ، والعمى الرّوحيّ). فما أصعب الإنسان الّذي يظن نفسه مُبصرًا. الخطيئة هي عمى روحيِّ… النّعمة هي بصر روحيِّ (بصيرة)
– يريد يسوع منَّا: ” أنتم نور العالم… فليضيء نوركم هكذا قُدّام النّاس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويُمجدّوا أباكم الّذي في السّموات” (مت5: 14، 16).