لجأ المسيح في تعاليمه إلى الأمثال. ولم يفعل ذلك لولعه بالتشابيه، مثل كل العباقرة، ولا لتوضيح تعاليمه وهو المعلم الحاذق. لقد استعمل الأمثال لأنه لا يمكن الحديث عن الله وعن ملكوته بطريقة مباشرة وبدون أمثال. فالله يتسامى ويتعالى عن أفكارنا ومداركنا وكلماتنا؛ وللتحدث عنه يجب اللجوء إلى الخبرات الملموسة المتاحة لنا: لكي يوضح لنا حب الله وغفرانه، يلجأ يسوع إلى خبرة يستطيع الجميع إدراكها: “كان لرجل ابنان…” (لو11:15).
ولا يمكن تهميش الأمثال في الإنجيل، فإنها تحتل منه المركز. فهي أكثر من غيرها من النصوص، قادرة أن تقربنا من يسوع الناصري: من شخصه، وطريقة كلامه، من مفهومه عن الله وعن ذاته وعن الإنسان، من المواقف التي تعرّض لها والجدالات والحوارات التي خاضها. وبين سطور الأمثال ما يساعد على اكتشاف مشاكل الجماعات المسيحية الأولى وطريقة فهمها لكلمات يسوع وطريقة اتباعها لتعاليمه، وتساؤلاتها حول ملكوت يدّعي البعض أنه موجود، وتكذب الأحداث اليومية هذا الادعاء.ومع ذلك فللأمثال قوة جذب أخرى، فهي وإن كانت متأصلة ومرتبطة بالسياق الذي قيلت فيه، إلاّ أنها تبدو غير مؤرخة. لذلك فقوة تأثيرها وقدرتها على بعث الدهشة والتساؤلات مازالت فتيّة فعّالة، لم يستطع أي تفسير حتى الآن أن يقول كلمته الأخيرة فيها.ومن المعروف أن اللجوء إلى الصور البلاغية هو أحد خصائص السرد الشعبي. وهدف “الصور البلاغية” هو التعليم. ويلجأ المرء إلى الصور البلاغية لكي يوضح الفكرة ويشدّ انتباه المستمع. والصور تنقل الحرارة والدفء بالإضافة إلى ما فيها من معلومات. ومن الواضح أن نجاح يسوع لم يكن قائماً فقط على “ما قال” بل أيضاً على “الطريقة” التي بها قال. ولقد سبق وأشرنا أن الحديث الرمزي ينبع أساساً من احتياج لاهوتي، لأنه لا يمكن الحديث عن الله مباشرة إنما “بأمثال” وتشابيه مستمدة من الحياة ومن خبرات البشر ينطلق الحديث عن الله.
ومن هنا تأتي خصائص “الأمثال” الثلاثة:
1. إنها حديث “مستعار”: لأنها متخذة من الحياة اليومية وتشير إلى أشياء وحقائق أعمق.
2. وهي “مفتوحة” لأنها تشير إلى ملكوت اله ولكنها لا تستطيع أن تُعبّر عنه.
3. وهي أخيراً طريقة تجبر على “التفكير”: تدعو إلى التفكير فالمثل هو قصة تُظهر علاقة الإنسان بالملكوت وموقفه منه.
إنه لا يحدد حقائق، إنما يشير، يستثير ويدعو إلى تخطي البديهي.ومن هنا تعقيد المثل إذ يجمع بين النقيضين: بين النور والظلام، الوضوح والغموض الكشف والتستر. لذلك يتطلب فهمه مجهوداً ملحوظاً. إنه يكشف ملكوت الله لذوي البصيرة الحادة والقلب المستعد، وتظل معانيه غامضة مظلمة للمشتتين غير الواعين ذوي القلوب المثقلة بالمشاغل والهموم.ولا يتم توصيل معنى الأمثال عن طريق نور قوي يعمي العينين، ولكن عن طريق ومضات تكشف وفي ذات الوقت “تستر”. وذلك ليس فقط لأن “التعليم” الذي تحتويه هو بمثابة “سر عظيم” لا يمكن التعبير عنه بطريقة أخرى، ولكن لأن استقبال هذا التعليم هو واجب الإنسان الذي يسمعه وهو رده عليه.
فالحقيقة التي تبهر لدرجة الإعماء تشلّ الحركة، أما المثل فإنه يترك مجالاً لتجاوب حر اختياري، ويحفز عقل وقلب المستمع أو القارئ ليفهم ويستمر.ويجمع المثل كما سبق ورأينا في العدد الماضي عناصر روائية قصصية حول نقطة أساسية هي هدف المثل وقمّته. وبذلك يدفع المثل القارئ أو السامع إلى التركيز على ذاته ويدفعه بكلّيته إلى الهدف الأخير الذي يخصه والذي يصبح بدوره هدف وجوده. ولا يمكن تحويل المثل إلى نظرية أو “موضوع” حتى، وإن كان لكل مثل موضوعه، لأن للمثل ملامحه التي يجب أن نحترمها.نكتفي بهذا القدر، لأنه واضح أن قراءة وفهم المثل يتطلبان أكثر من مجرد براعة بلاغية وفن تفسيري وتأويلي للنصوص، إنه يقتضي حدساً شاملاً أقرب إلى الحس الفنّي منه إلى الاستنساج العلمي.
والعبارة التي كثيراً ما ترد في نهاية المثل “من له أذنان سامعتان فليسمع” تحطم سلسلة الاستنتاجات لأنه يمكن سرد أشياء كثيرة كلها صحيحة حول مثل ولكن بدون الوصول إلى معناه الحقيقي.
إعلان أم حوار
لا يدور الحديث فقط حول معنى كل مثل على حدة، بل عن معنى المثل في ذاته، كطريقة تعبير. ويرى كثيرون أن تحديد طبيعة الأمثال شرط أساسي لقراءة صحيحة لكل مثل. ونحن نرى أن نسير في الاتجاه العكسي: فالسؤال عن طبيعة الأمثال يُطرح في نهاية المطاف، بعد أن نكون قد قرأنا الأمثال كلها بفرض قراءة كل مثل في فرادته. بخلاف ذلك تقع في خطر تجريد المثل من خاصيته ولونه على حساب وضعه في إطار عام أو تصنيف خاص.
يلجأ يسوع للأمثال لكي ينقل سامعيه من “طريقة نظر” إلى “طريقة أخرى مختلفة”، وبعبارة أخرى يُخرجهم من عقليتهم ويُدخلهم في عقليته هو. وتقوم قوة المثل في “بداهة” تصرف مخالف للتصرف المعتاد. إنها “بداهة” جديدة ضد “بداهة” سائدة. ويتطلب الحصول على هذا التغيير قوة خاصة، ويقتضي نقطة ارتكاز قوية. وهذه القوة، في أمثال كثيرة، هي “الخبرة” العامة، رأس مال حكمي عام، وقيم وتصرفات تفرض نفسها على الجميع: مثلاً الآب الذي يقيم وليمة لعودة ابنه ويريد أن يشاركه الجميع في هذه الوليمة وهذا “الفرح” (راجع لو 11:15).وكنبع وطريقة للتعبير عن أفكاره وتعاليمه يلجأ يسوع للاختبار البشري –اختبار أصيل، بسيط، شعبي تقولب في “حكم”-، أو إلى “الفعل التلقائي للإنسان عندما يمس أو يستثير شيء ما إنسانيته (شعور الأب عند عودة الابن). وذلك لحمل الإنسان على اتخاذ “مواقف” جديدة تجاه الله والبشر. وقد يصبح هذا الحضور المكثّف للمشاعر الإنسانية هو الطريق أمام التجديد “جِدّة الإنجيل”، مما يساعد الإنسان على تخطي القوالب اللاهوتية الجامدة.
ونعود مرة أخرى إلى مثل الآب الرحيم الذي سبق وأشرنا إليه (لو 1:15). يُرجع يسوع السامعين إلى حقيقة وواقع الحب الأبوي، القادر على استقبال وقبول الابن التائب. وهكذا من خلال الخبرة البشرية المتميزة بالقوة والحق، والتي يقبلها ويشترك فيها أغلب الحاضرين إن لم يكن معظمهم، يحمل يسوع سامعيه على تخطي المفهوم الجامد أو المتجمد للعدالة الإلهية.ففي المثل تتحول الخبرة الإنسانية إلى قوة تسمح باكتشاف سر الله وبالتالي تساعد على الانفتاح على “جِدّة ” الإنجيل بعيداً عن الرؤية الروحية الضيقة المتزمتة خاصة عندما تكون عميقة كما هو الحال في الحب الأبوي. فالمثل هو عبارة عن حوار للتوضيح وليس للجدال أو الدفاع أو الهجوم، ويهدف أساساً “للكشف”.
ومن يلجأ للحديث أو الكتابة “بالأمثال” يبحث عن أرضية مشتركة مع المستمع أو القارئ. لا تهدف المثال إلى إظهار أن يسوع على حق فحسب، بل تهدف أيضاً إلى توعية السامع أو القارئ بالمتناقضات التي يعتنقها ويعيشها.ولأن “المثل” متأصل ومتجذر في الخبرة الإنسانية فهو ذو شقين: فهو يعبّر عن حالة “الفرد” وفي الوقت ذاته يخاطب “الجميع”. وإذا ركزنا فقط على الطابع الجدلي أو البرهاني للأمثال فإننا نتعرض لخطر نسيان قدرتها على الكشف.
ولا يتخذ يسوع عندما يتحدث بالأمثال- مجرد صورة الحكيم ولكن صورة “الكاشف”. إنه “حكيم” لأنه يلجأ إلى الخبرة الإنسانية ليقود إلى الله و”كاشف” لأنه يتحدث عن “إله” غير ناتج عن خبرة الإنسان. بل عن معرفة شخصية مباشرة: إنه أبوه. وبهذا المعنى نقول: إن المثل ليس مجرد حوار، إنما طريقة خاصة للإعلان وللمثل- من حيث هو حوار- دور رئيسيّ في إعداد الطريق وإزالة الأحكام المسبقة والعقبات، وفي ذات الوقت يشير إلى “وجهة نظر” كاتبها. أي يشير إلى طريقة العمل المثلى لإدراك وفهم “جِدّة ” الإنجيل العجيبة ذات المنطق الخاص والاتساق التام والبداهة الكاملة.إن الإعلان في المثل لا يهدف إلى الحديث عن أشياء أُخر إنما يهدف دائماً- بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- إلى الإعلان عن الله. وحتى عندما يتوقف مثل ما على تصرف ملموس فإنه لا يفعل ذلك لكي يظهر أن ذلك هو نتيجة منطقية نابعة من الإنجيل، إنما ليؤكد أنه ترجمة ملموسة- قائمة على الخبرة- للإنجيل ذاته. وحتى في هذه الحالة ، فإن المثل ليس مجرد دعوة ” للسلوك ” إنما أيضاً لتعليم لاهوتي.
الخلاصة أن مجال المثل واتساعه هما المكان الذي نلتقي فيه “جدة” الحدث الكريستولوجي مع واقع الخبرة الإنسانية والحديث الكريستولوجي حر، مجافي ولا يُستخرج من خبرة الإنسان، إنه يلمس هذه الخبرة وهنا يمكن التعرف عليه. ويقوم المثل بخدمة الإعلان إنه يهدف لمساعدة السامع أو القارئ على اكتشاف خبرة واستمرارية وحي الله.