الأنبا بطرس فهيم مطران ايبارشية المنيا — عايز أتناول —
في هذا الزمن، زمن أزمة كورونا، والكنائس مغلقة أمام الشعب، لاحظنا شوق الناس للكنيسة وللطقوس وللأسرار المقدسة، وخصوصا للتناول. وكثيرون يأتون للآباء الكهنة ويقولون “عايز أتناول”. وهذا أمر طيب بلا شك، شوق الناس للتناول أمر جيد، ولكن أثار فيّ التساؤل الجوهري: هل يدرك الناس مكان ومكانة التناول في فعل العبادة والإيمان المسيحي، على حقيقته؟
في الحقيقة التناول ليس مفصولا عن القداس، والقداس ليس مفصولا عن الحياة. فإذا أردنا أن نفهم المعنى الحقيقي للتناول يجب أن نعود إلى حياة المسيح، ونلاحظ أين ومتى كان القداس الأول في حياته. سنرى أن السيد المسيح صلى قداسا واحدا في حياته، في العشاء الأخير له على الأرض. ولم يصل المسيح أي قداس قبل ذلك، بالمعنى الطقسي الليتورجي. ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن السيد الرب أراد أن يكون القداس الطقسي تتويجا لقداس حياته الممتد منذ مولده وحتى مماته، معنى ذلك أن حياة يسوع ورسالته كانت كلها قداسا واحدا ممتدا، كل أعمال محبته وخدمته ورسالته كانت كلها تمثل قداسا واحدا ممتدا، توَّجها يسوع بالقداس الليتورجي الطقسي في العشاء الأخير. وختام العشاء، وختام القداس يتوج بالتناول. فالتناول إذا هو تاج وقمة اللقاء الإفخارستي والقداس الطقسي، الذي هو تاج وقمة الحياة المسيحية العملية المعاشة في الواقع اليومي. وهذا ما كان يعيشه الرهبان الأوائل في البرية حيث كان عدد الكهنة بين الرهبان قليلا جدا، وأحيانا في بعض الأديرة لم يكن بينهم كهنة.
فكان يأتي أحد الكهنة من الرعايا القريبة ويسهر مع الرهبان كل ليلة الأحد ويحتفل معه عند الفجر بالذبيحة الإلهية، هذه المرة الوحيدة في الأسبوع، وكان الرهبان يعلقون على الاحتفال الإفخارستي هذا بقولهم: الإفخارستيا والتناول يمثل الحدث الأهم في الأسبوع وقمته فنحن نظل نصلي في الأيام الثلاثة السابقة استعدادا له والإيام الثلاثة التالية له شكرا عليه، فالقداس والإفخارستيا هي ينبوع حياتنا الروحية وقمتها. وهي ما يمهدنا للسماء ويجعلنا نتذوقها مسبقا في حياتنا الأرضية.
← الحيــــــــــــــاة ← القـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداس ← التنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاول ← السمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء
المسيحي هو كاهن الخليقة. فهو الذي بحياته وشهادة إيمانه، المترجمة في أعمال محبة وخدمة الآخرين، وبالتزامه العملي والأدبي والإنساني والروحي يعطي معنى وقيمة لكل ما يعيشه هو، وما يعيشه الناس إخوته. وهو الذي بفعل الصلاة والعبادة يقدس كل النشاط والعلاقات البشرية. وقمة هذا الالتزام، وقمة هذه العبادة تكون في القداس، الذي يحتفل به مع الكاهن ومع إخوته، في الكنيسة صباح أو مساء كل أحد. ففي القربانة (الحمل) التي تُكرس وتُرفع كحمل الذبيحة، يجمع ويدمج الكاهن كل آلام وآمال البشرية، ويقدمها لله الذي يتقبلها بعد أن يباركها ويوحدها بذبيحة ابنه يسوع المسيح، من خلال الصلاة وحلول الروح القدس عليها. لتكون للمؤمنين علامة وحدة وفداء وخلاص وقداسة، لهم ولحياتهم بكل زخمها وبكل نشاطاتها، وبكل علاقاتها وبكل تشابكاتها وبكل تعقيداتها وبكل غناها.
ومن هنا يجب أن ننبه إخوتنا وأبناءنا المؤمنين الذين يأتون ليتناولوا القربان المقدس دون الاحتفال بالقداس، في الظروف الاستثنائية، أو أولئك الذين يأتون في الأيام العادية دائما متأخرين، أن الإفخارستيا ليست مجرد صلاة مثلها مثل بقية الصلوات، وليس التناول مثل لقمة البركة التي يأخذونها في آخر القداس. فالقداس هو امتداد لذبيحة المسيح على الصليب، وهو يحققها لنا هنا والآن في حاضرنا وواقعنا، ولا يجب أن نتعامل معه باستهتار ولا باستخفاف. الإفخارستيا هي حضور الله الحقيقي والحي بيننا بجسده ودمه الحقيقي. هو ليس مجرد رمزا أو ذكرى لما عمله يسوع يوم الخميس الأخير في حياته الأرضية. ونحن نؤمن أن الخبز والخمر يتحولان حقا وفعلا، بطريقة سرية وجوهرية، لجسد الرب ودمه. كما قال الرب نفسه: أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. من أكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أعطيه هو جسدي، أبذله من أجل حياة العالم” (يوحنا 6 : 51). ولما قال هذا، ولأنه كان يعني ما يقول حقا وليس على سبيل التشبيه والرمز، وقع جدال بين اليهود وقالوا: “كيف يقدر هذا الرجل أن يعطينا جسده لنأكله؟” (يوحنا 6 : 52). ولذلك أكمل يسوع حديثه مؤكدا نفس الحقيقة التي قصدها قائلا: “الحق الحق أقول لكم: إن كنتم لا تأكلون جسد ابن الإنسان ولا تشربون دمه، فلن تكون فيكم الحياة. ولكن من أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير. جسدي هو القوت الحقيقي، ودمي هو الشراب الحقيقي. من أكل جسدي وشرب دمي يثبت هو فيَّ، وأثبت أنا فيه. وكما أحيا أنا بالآب الذي أرسلني، فكذلك يحيا بي من يأكل جسدي” (يوحنا 6 : 53 – 57). ليس هناك حقيقة أقوى، ولا أوضح، ولا أكثر تأكيدا من هذه. أن خبز الإفخارستيا هو جسد الرب الحقيقي وأن عصير الكرم في الإفخارستيا هو دم الرب الحقيقي. وهذا ما فهمه الرسل منذ البداية وما عاشته الكنيسة منذ تأسيسها وحتى اليوم. وهذا ما أعلن عن الرسل في كل كتاباتهم في العهد الجديد (متى 26 : 26 – 30 //، لوقا 24 : 35 ، أعمال 2 : 46، 1 كورنثس 10 : 14 – 17 و 11 : 23 – 34) فالإفخارستيا تصنع الكنيسة، كما تصنع الكنيسة الإفخارستيا. هذا ما يقوم عليه تقليد الكنيسة الحي، والمتواصل في الكنيسة كلها على طول تاريخها وعرض جغرافيتها. ولذلك فمناولة واحدة، تكفي لخلاص العالم كله، ليس فقط لتقديس حياة شخص واحد.
فإن كانت الكنيسة في ظروف استثنائية، كالمرض أو السجن، أو الحرب، أو في زمن الأوبئة مثلا، تقبل أن يقبل المؤمنون المناولة بدون حضور القداس فهذا إجراء استثنائي ويجب أن يظل هكذا. ولكن في الظروف العادية يجب على الكنيسة أن تربي أولادها وتعلمهم أن القداس لا يأخذ معناه إلا إذا كان امتدادا وتتويجا لحياة يومية إيمانية عملية اجتماعية ملتزمة في المحبة والخدمة والمصالحة، فصلاة القداس تتوج صلاة والتزام الحياة وتقدسها، وأن المناولة هي تتويج لخدمة الصلاة الليتورجيا في القداس، حيث يعطي المسيح ذاته من خلال كلمته وجسده ودمه للمؤمن الذي تعلم من ربه ومعلمه أن يعطي كلمته وحياته ومجهوده وجسده ودمه لأخوته البشر في التزام الحياة والمحبة والخدمة والمصالحة في الحياة اليومية. هكذا يقدس جسد ودم الرب حياة المؤمن الذي بصلاته وحياته يقدس الحياة العادية واليومية. فتصير الحياة صلاة والصلاة حياة لحياتنا. والإفخارستيا توحد كل ذلك في محبة أبدية وتصهره في بوتقة إلهية، فتزرع في الأرض بذور الحياة، وتعطي الحياة طعم السماء.
++ جوزيف مكرم …. المنسق الأعلامى لأيبارشية المنيا ++