stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

روحية ورعويةموضوعات

الأنبا بطرس فهيم مطران ايبارشية المنيا —– هل من حياة قبل الموت؟ ——

683views

جاء يوما ما أحد الناس إلى يسوع ليسأله “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟” ومن خلال القصة نعرف أنه كان شاب غني وكان يتمتع بحسن ديني متقدم فقد حفظ الوصايا منذ حداثته ولكن كان ينقصه شيء واحد بحسب ما أشار إليه يسوع ونصحه بأن يذهب ويبيع كل ماله ويعطيه للفقراء ويتبع يسوع (مرقس 10 : 17 – 27). ليس هدفي شرح قصة الشاب الغني هذا. ولكن التوقف عند سؤاله الذي يهتم به الكثير من الناس الذين يدعون التدين والرغبة في الكمال، فيهتمون بالحياة الأبدية، أي بالحياة بعد الموت.

لأنهم يريدون أن يخلدوا في حياة الهناء والراحة والسعادة الأبدية والنور الدائم. وهذا لا شك امر جيد وإيجابي ومطلوب. فبلا شك الإنسان غير مخلوق هذه الحياة الأرضية فقط. وكل الروحانيات والتدريبات الروحية والمدارس الروحية تركز كيف تعلم الناس أن يعيشوا ونظرهم موجه للسماء، وآفاقهم مشرعة على الأبدية. وكما قلت هذا امر طيب ومحمود ولا يجب أبدا أن نهمله.

ولكن السؤال الذي لا يقل أهمية هو: هل من حياة قبل الموت؟ لأن هناك خطر داهم، ووهم واهم، يستحوذ على أذهان الكثيرين، خدع به بعض الدراويش، من دعاة التروحن والروحانية، عامة الناس. هذا الخطر وهذا الوهم يدَّعي أنه لا أهمية لحياتك على الأرض. فالأهمية، كل الأهمية، هي لحياتكم الأبدية وحياة المجد والسلام والنور الدائم في شركة المجد مع الملائكة والقديسين.

وقللوا من أهمية الحياة الأرضية البشرية العادية التي نعيشها على هذه الأرض في هذا العالم، مع الناس أخوتنا الذين نعيش بينهم ومعهم. لدرجة أن فرّغ الناس كل حياتهم وعلاقاتهم ببعضهم البعض وبالطبيعة وبالكون وبالبيئة من كل معناها واهتماماتها الأساسية، وكأن الإنسان هو ملاك أو مخلوق روحي، وليس مخلوق مزدوج التركيب من تراب الأرض وروح الله. إن إي تقليل من قيمة وكرامة وأهمية الحياة الأرضية لهو تزييف للإيمان وللروحانية ولمشيئة الله. الذي خلق الكون وزينه بكل ما فيه من معطيات الجمال والخير والحب، وأعطاه مسكنا للإنسان ليعمره وليكمله ويطوره وينميه، فيمارس فيه كل ملكات عقله، ومشاعر قلبه، ويبدع ويعبر عن ذاته ومحبته لله وللناس أخوته من خلال كل نشاطاته الإنسانية التي هي جزء من عبادته التي تقوده إلى الله.

الزهد في الحياة الدنيا فضيلة والنسك واختيار الفقر كأسلوب حياة هو دعوة إنجيلية، وقد عاشها يسوع نفسه قبل الكل. وقد عاشها يسوع بكل نزاهة وكرامة وبساطة وفرح وانطلاق وحرية، ولذلك فهو قدَّر، بل كرَّم وقدس الحياة الأرضية وكل ما فيها من نشاطات ومن أعمال وخيرات وخدمات، انتبه وفرح بكل عناصر الطبيعة وبكل نشاطات الإنسان، مهما كانت بسيطة، واتخذها مادة ووسيلة لتعليمه، بل أعطى الكثير منها كأمثلة تشبه ملكوت السماوات (راجع أمثال يسوع في متى 13 مثلا). ويسوع لم يدع أبدا إلى ازدراء الحياة الأرضية وكل ما فيها، كما يعلم “مهاويس” الروحانيات المزيفة. بل قال يسوع صريحا: “إنما أتيت لكي ما تكون لهم (للناس) الحياة وتكون لهم ملء الحياة” (يوحنا 10 : 10). فلو كانت الحياة الأرضية شرا لما تجسد فيها ابن الله، ولما كانت طريقا لكل أبناء الله يعبرون عليها ومن خلالها إلى ملكوت أبيهم، بل إن ملكوت الله يبدأ من هنا على الأرض، ومن لا يقبل ولا ينجح في تقديس اسم الله هنا على الأرض فلا ولن يستطيع أن يقدسه هناك في السماء مع الملائكة والقديسين. فلا انفصال بين الحياتين، فإن كانت حياة السماء هي الخاتمة، فإن حياة الأرض هي المقدمة، بل ومجمل فصول الكتاب أيضا.

وهنا تأتي أهمية السؤال الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال، هل من حياة قبل الموت؟ هل نحن واعون لحياتنا حقا؟ وهل نعيشها ونستمتع بها؟ ونتفنن في جعلها حياة تستحق أن تعاش؟ حياة تليق بالبشر أبناء الله؟ هل نستطيع أن نلتقي فيها ومن خلالها أخوتنا ونساعدهم على أن يجدوا فيها كل معني وقيمة وعمق ومسرة وهناء؟ هل نستطيع أن نلتقي فيها الله في كل تفصيلة من تفاصيها، وفي كل دقيقة من دقائقها؟ هل نحيا حياتنا حقا؟ هل نحيا لنصنع من حياتنا قيمة ورسالة ومعنى؟ هل نيحا لنترك خلفنا ذكرى طيبة؟ هل نحيا لنشارك ونساهم في إنجاز حضارة السلام والمحبة؟ حضارة تليق بالإنسان؟ أم نعيش منذ مولدنا وحتى مماتها ونحن نجر نفسنا جرا؟ ونجتر آلامنا وجراحنا ونحول حياتنا إلى مأساة ومرثاة ودراما لا تنتهي فتتجدد فصولها مع كل يوم جديد؟ رغم كل الظروف ورغم كل التحديات ورغم كل الصعوبات إلا أن الحياة تظل اختيارنا الحقيقي لكل يوم؟ فماذا نختار؟ نحن ولدنا لنحيا حياتنا قبل أن نموت، فإن متنا دون وقبل أن نحيا، فسوف لا نحيا بعد أن نموت. ولمن يبحثون عن حياة بعد الموت أقول: هل من حياة قبل الموت؟ تضمن لكم حياة ما بعده؟ نعم ولدنا للخلود، لكن لا تنسوا أن الخلود يبدأ من هنا ومن الآن.

++ جوزيف مكرم … المنسق الأعلامى لأيبارشية المنيا + +