الأنبا بطرس فهيم مطران ايبارشية المنيا — عيد الصعود —
الصعود هو عودة المسيح إلى السماء، عودته إلى يمين الآب، من حيث جاء. ولكن هل عاد كما جاء فعلا؟ هل تغير شيء؟ ما معنى صعود المسيح إلى السماء؟
في يوم من الأيام أرسل الله الملاك جبرائيل من السماء ليحمل البشارة إلى العذراء مريم بالحبل الإلهي، بأن ابن الله الكلمة سيتجسد فيها ويأخذا منها طبيعته البشرية، بأن الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس سيحل في بطنها، ويظل تسعة أشهر ليأخذ طبيعتنا البشرية، ويصير إنسانا من أجلنا ومن أجل خلاصنا. وهكذا صار. تجسد المسيح بالروح القدس في أحشاء مريم العذراء البتول، وولد بعد تسعة أشهر، وعاش على الأرض كواحد من البشر لمدة من الزمن تساوي تقريبا 33 سنة، عاش كطفل يهودي عادي، ومارس ما تنص عليه الشرائع والفروض اليهودية، عمل نجارا في قرية بسيطة، وكان يمارس حياته بشكل بسيط لم يلاحظه أحد، ولم يكن مميزا، في الظاهر عن أحد بشيء، يأكل ويشرب ويعمل ويعيش مثل كل الناس، وهو لم يزل ابن الله وكلمة الله المتجسد. وفي سن الثلاثين تقريبا نال العماد على يد يوحنا المعمدان. وبعدها انطلق في رسالته العلنية فصار يجول يبشر بملكوت الله، ويعلن قرب الله من شعبه من خلال تعاليمه ومعجزاته ومحبته العملية للجميع. وأخيرا مات بحكم جائر ظالم اتفق فيه عليه اليهود والرومان معا وصلبوه. ومات ودفن في قبر جديد في بستان وحده، وختم القبر ووضعت عليه حراسة مشددة، ولكنه قام في اليوم الثالث كما في الكتب، وظهر لتلاميذه القديسين ليشددهم ويثبت إيمانهم وبعد أربعين يوما صعد إلى السماء.
هذه هي القصة باختصار شديد. ولكن السؤال هو: هل صعد المسيح إلى السماء كما جاء من السماء بلا زيادة وبلا نقصان؟ والإجابة هي لا بكل تأكيد. فمسيح البشارة، حين كان نازلا من السماء، كان ابن الله، وكلمته الأزلية، وأقنومه الثاني، ومن نفس طبيعة الآب، ومساو له في الجوهر، كل هذا صحيح. ولكنه لم يكن بعد تجسد، فهو أخذ جسده وطبيعته البشرية من مريم العذراء، ففي أحشاء مريم العذراء أضيفت الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهية، واتحد بها اتحادا كاملا بلا اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا ذوبان. وستطل هاتان الطبيعتان الإلهية والإنسانية في يسوع المسيح إلى الأبد، فهو إله كامل وإنسان كامل منذ لحظة التجسد وإلى الأبد. هكذا عاش على الأرض، وهكذا مات، وهكذا قام، وهكذا صعد إلى السماء، وهكذا جلس عن يمين الآب كما يقول الكتاب المقدس وكما نعلن في قانون الإيمان. وهذا لا يعني أن يسوع المسيح كان نصفه إله ونصفه إنسان كما تعتقد بعض الأساطير القديمة في البشر الملوك أبناء الإلهة في الحضارات القديمة. بل إن يسوع المسيح كان كله إله وكان كله إنسان، فهو إنسان كامل وإله كامل. فإذاً تغير شيء جوهري في كيان المسيح، فالإله الذي نزل من السماء إلها فقط، عاد إلى السماء إله وإنسان معا في نفس الوقت، متحدان اتحاد لا تنفصم عراه. وهكذا هو الآن عن يمين الآب في السماء متحد بالآب، وجالس عن يمينه كإله وإنسان معا. وهذا هو المكسب العظيم والهدف الرائع من سر التجسد والفداء. أن يضع يسوع المسيح الإنسان في مكانه الطبيعي، في السماء، في حب الله وفي قلب الله، الذي من أجله خلقه، على صورته ومثاله، ونفخ فيه من روحه، عند الخلق، ولكن الإنسان ضيعه بخطيئته وتمرده على الله وعدم طاعته. فالله حين خلق الإنسان على صورته ومثاله، ونفخ فيه من روحه ساعة خلقه، وضع فيه أيضا الشوق إلى الألوهة، وهذا هو العنصر الذي لعبت عليه الحية في إغواء حواء، فقالت لها إن الله منع عنكم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر لأنكما يوم تأكلان منها تنفتح أعينكما وتصيران مثل الله (تكوين 3 : 5). فجاء هذا على هوى ورغبة حواء وآدم، في الألوهة التي وضعها الله فيهما، وما كانا ليرغبان فيها أو يشتاقان إليها لو لم يضعها الله ذاته في أعماقهما، لأنه لو لم يردها لهما لما وضع الشوق إليها في أعماق كيانهما. وفي خطته الإلهية كان الله قد أعدها لهما ولذريتهما في المسيح يسوع مسبقا، وهذا ما يحققه السيد المسيح في عيد الصعود من أجل كل البشر، فهو عربون وباكورة أبناء الله المدعوين أن يشاركوه في مجده إن شاركوه في آلامه وفي بنوته وفي اختياراته الحياتية الجذرية التي تترجم هذه البنوة وهذه الدعوة الإلهية.
فعيد الصعود هو تتويج لهذه المسيرة التي بدأت في الخلق، والتي رعاها الله بحكمته ومحبته ونعمته بصبر كبير، وبأسلوب تربوي رائع ليصل إلى أن يحقق مخططه، رغم كل ضعف الإنسان وسقطاته الكبيرة والعديدة، إلا أن الله لم يتركه ولم يتخل عنه أبداً، فمشروع الله لا يفشل أبدا. ومشروع الله على الإنسان هو أن يقدسه ويشاركه في المجد، وها هو السيد المسيح اليوم يحقق هذا المشروع بقوة. يعلمنا عيد الصعود إذا أن مكان الإنسان الحقيقي، ومصيره الأبدي، هو هناك مع الله، بل في قلب الله، وليس على الأرض معجونا في ترابها مع النباتات والحيوانات، وأحيانا حتى مع الحشرات في القبر. وهذا ما يقول الشاعر اللبناني الأصل جبران خليل جبران في كتابه النبي وفي نشيد المحبة حين يقول: “أما أنت إذا أحببت فلا تقل الله في قلبي، لكن قل أنا في قلب الله”. وهذا ما قاله القديس أوغسطينوس في كتابه الاعترافات: “خلقتنا لك يا الله وقلوبنا ستظل حائرة إلى أن تستريح فيك”.
وبعد عشرة أيام نحتفل بعيد العنصرة، الذي فيه نحتفل بحلول الروح القدس الذي يحيي الكنيسة ويشعلها بنعمه ومواهبه ويعطيها طاقة وانطلاقة لتحقق ما من أجله أقامها وأرسلها فاديها معلمها ومخلصها يسوع، لتحقق، بالاتحاد مع رأسها يسوع، مشيئة الآب في أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. فالروح القدس هو الذي يقود الكنيسة على طريق تحقيق دعوتها وتتميم رسالتها، بالأمانة لكيانها وهو أن تكون ابنة الآب بالاتحاد مع رأسها الابن الوحيد الجنس، وتجعل العالم كله يتحول إلى هذه البنوة، ويشارك هذه الدعوة السماوية للمجد الذي يتجلى في أبناء الله، لأجل العالم الذي يعاني آلام المخاض، ليصل إلى ولادته للملكوت، خليقة جديدة في المسيح يسوع.
ما معنى صعد إلى السماء؟
لا نقصد هنا بالصعود الذهاب إلى فوق بالمعنى المكاني. ففي الأبدية لا يوجد لا زمان ولا مكان. فالزمان والمكان هما أُطر نحيا فيها هنا على الأرض، وفي هذا العالم. أما في العالم الآخر فلا زمان ولا مكان، وبالتالي لا يوجد فوق وتحت، ولا يوجد أمس واليوم وغد. كل هذه أمور لها معنى هنا، ولا معنى لها هناك، فطبيعة الحياة الأبدية لا تحتاج لقبل وبعد، ولا هنا وهناك، ولا فوق وأسفل، ولا أمس واليوم وغد. فالسماء هي حالة السمو وليس مكان فوق الأرض، هي حالة للتعبير عن الغبطة المطلقة، والسعادة التامة، والسلام الذي لا يوصف، والنهار الذي لا يتبعه غروب، والنور الذي لا تغشاه ظلمة. الصعود إلى السماء يعني الدخول في حالة سامية تختلف عن الحالة التي كان متواجدا بها معنا قبل آلامه وموته وقيامته، حاليه يدعونا للدخول فيها بحيث نتحد به اتحادا مطلقا لا انفصال بعده. حالة يعبر بها رمزيا بانه، سابقا، كان أمامنا وحولنا، وكنا نستطيع أن نلمسه، ونتعامل معه على مستوى جسدي، والان صار داخلنا، في أعماقنا، ونتعامل معه على مستوى كياني روحي عميق باطني وليس ظاهري، وهذا هو معنى قول يسوع لمريم لا تلمسيني (يوحنا 20 : 17). فإن كان المسيح قد غاب عن عيون تلاميذه ومن أمامهم، فإنما لكي يكون حاضرا في أعماقهم وفي كيانهم الباطني العميق، وفي كل موقف سمو يعيشونه. وهذا معنى ما يقوله القديس بولس في رسالته إلى أهل أفسس: “وما المقصود بقوله صعد سوى أنه نزل أولا إلى أعمق أعماق الأرض. وهذا الذي نزل هو نفسه الذي صعد إلى ما فوق السماوات كلها ليملأ كل شيء” (أفسس 4 : 9 – 10). في صعوده يسوع ملأ كل شيء، كل كيان، كل وجود، ليس فقط ذهب إلى الأعلى، بل ملك في كل تسام.
وخلاصة الكلام هي أن السماء هي شركة الإنسان مع الله، واتحاد كيان الإنسان بكيان الله. وهذا ما قاله يسوع في يوحنا 14 حين قال لتلاميذه: “أنا ذاهب لأهيئ لكم مكانا. ومتى ذهبت وهيأت لكم مكانا أرجع وآخذكم إليَّ لتكونوا حيث أكون” (يوحنا 13 : 2 – 3)، ليكونوا حيث يكون يعني لكي يشاركوه في هذا الكيان، وهذا الوجود، وهذا المجد. وهذه الشركة وهذه الوحدة التي صلى من أجلها يسوع في صلاته الكهنوتية في يوحنا 17 حين قال: “أجعلهم كلهم واحدا ليكونوا واحدا فينا، أيها الآب مثلما أنت فيَّ وأنا فيك، فيؤمن العالم أنك أرسلتني. وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا مثلما أنت وأنا واحد. أنا فيهم وأنت فيَّ لتكون وحدتهم كاملة ويعرف العالم أنك أرسلتني وأنك تحبهم كما تحبني. أنت وهبتهم لي، أيها الآب، وأريدهم أن يكونوا معي حيث أكون، ليروا ما أعطيتني من المجد…” (يوحنا 21 – 24)، هذه الوحدة وهذا المجد يبدأ هنا والآن للمؤمنين بيسوع ويكتمل في المجد. هذا هو معنى عيد الصعود، ولكي يتحقق هذا المعنى علينا أن نلتزم بكل معطيات وحياة الإيمان والرجاء والمحبة. وأن نعيش البنوة التي دعانا إليها يسوع، ويحققها فينا بروحه القدوس، من خلال اختبارات واختيارات كل يوم، في رسالة تجاه العالم، نشهد فيها عن محبة الله المجانية، وخلاصه الشامل لكل البشرية. على مثال مريم العذراء التي عاشت واتحدت بابنها وربها في كل شيء هنا على الأرض ولذلك هي تشاركه كل مجده هناك في السماء، وقد أعلنتها الكنيسة سلطانة السماء والأرض. فهناك حيث يكون الآب السماوي وحيث تكون الأم القديسة وحيث الابن البكر سيكون باقي الأبناء، وحيث يكون الرأس المسيح سيكون الجسد الكنيسة، في ملكوت الله، إن ملَّكنا الله هنا على أرضنا وفي قلوبنا، سنملك معه على عرشه وفي ملكوته.
++ جوزيف مكرم ….. المنسق الاعلامى لأيبارشية المنيا ++