الأنبياء والمسيا المنتظر- د. الأب/ كميل وليم
كتب العلامة الفرنسي H.Cazelles كتاباً عنوانه “المسيا في الكتاب المقدس” تناول فيه تطور مفهوم الأنبياء عن المسيا. ويكتب: “لقد اعتدنا أن نرى في الأنبياء أبطال المسيا والمبشرين به وسنرى الآن صحة ذلك”. لقد كرّس كازل جزءاً كبيراً من الكتاب لدراسة شهادة الأنبياء في هذا الصدد. وسنلخص هنا أهم ما يرد فيه وخاصة عن ميخا وأشعيا، حيث مجد أهم النبوات التي اعتبرتها الكنيسة نبوات مسيحانية. إن كلمة “مسيح” مشتقة من الفعل “مسح”،وهي تشير إلى “المسموح/المسيح” (اسم المفعول) بنوع عام وليس فقط إلى، الملك الذي كان يمسح بالزيت أثناء تجليسه على العرش، وبذلك يشترك في قداسة الله نفسه ولا يمكن لأحد أن يرفع يده عليه (1صم 6:24-7و 11-12؛ 9:26و16و23). ولهذه الكلمة “مسح” استعمالات مختلفة: ترد الكلمة 4 مرات في كتب الشريعة؛ 18 مرة في الكتب التاريخية (بنوع خاص بالنسبة لشاول وداؤد) ومرتين فقط في كتب الأنبياء: حبقوق 13:3. حيث تعود الكلمة على إسرائيل نفسه، وفي أش 1:45 حيث تعود الكلمة على قورش)؛ وترد 14 مرة في “الكتب” منها 10 مرات في المزامير ولا ترد إطلاقاً في الكتب الحكمية. ويقول سوجين J.A.Soggin: “تدل هذه الكلمة على العلاقة الوثيقة بين يهوه والملك. فالمسحة تمنح الملك حق الحصانة وسكب الروح (1صم 13:16). ويعتقد أن المسيح في العهد القديم لم يكن قد اكتسب بعد المفهوم الاسكاتولوجي.
آراء مختلفة حول المسيحانية
تختلف أراء المتخصصين حول مفهوم المسيحانية في الكتاب المقدس. فإنهم لا يتفقون لا على التعريف ولا على أهمية ظاهرة المسيحانية لدى بني إسرائيل ولا على أهم خصائص المسيح. يرى موفينكل S.Mowinckel (1951و1956): في المسيح شخصاً اسكاتولوجياً، بمعنى مستقبلي ويعتقد أن هذا المفهوم ظهر عند اليهود متأخراً (بعد العودة من السبي). ويرى آخرون مثل انجنيل J.Engnell (1962، 1970)، ورينجريني Ringgren (1965، 1966) وكوبنس J.Coppens (1968) أن المسيح لقب يشير إلى المالك على إسرائيل انذاك والذي منه ينتظر الشعب الرخاء، لأنه بالمسحة نال النعم التي تجعله شخصاً مميزاً مكرساً. وهنا تختلط المسيحانية بتجديد ملكية يهوه لدى الشعب. وتكسب ملكية يهوه أهمية قصوى ابتداء من زمن داود. يربط كازل H. Cazelles (1977) المسيحانية بالأمل الذي تولّده مواهب الزعيم/ الملك لدى القبيلة والسبط. ففي الحضارات الأكثر عراقة- في مصر مثلاً- “المسيا” هو ما ترجوه الأمة وتنتظره من الملك. ويؤدي البلاط الملكي طقوساً خاصة تقوم على قدسية هذا المفهوم. ويشارك بنو إسرائيل بطريقة ما في هذه العقلية. فالملك هو مختار يهوه. تقوم رسالته في ضمان رخاء الشعب والحكم بالعدل. فالملك هو ممثل يهوه وسط شعبه وينال- بالنيابة- جزءاً من سلطانه. ولم ينشأ هذا المفهوم في حضن الأنبياء الكتبة، بل نشأ البلاط بين كبار موظفي الدولة والكهنة والأنبياء المقربين من الملك. ونجد صدى ذلك في المزامير (مز 2؛ 18؛ 20؛ 21؛ 45؛ 72؛ 89؛ 101؛ 110؛ 132) وفي بعض مقاطع كتب الشريعة (تك 8:49-12؛ عدد 15:45-16). وسيكون لهذه النصوص شأن كبير في التقليد المسيحاني المتأخر. ويعتبر الأنبياء في أوج زمن النبوة المصفاة التي مرت بها هذه المفاهيم. فقد فحص ومحص الأنبياء هذا المفهوم وأجروا عليه التعديلات التي رأوها مناسبة قبل أن يقروها.
شهادات الأنبياء
لا نجد شهادات مسيحانية في رسالة عاموس الأصلية (عا 11:9-15 إضافة لاحقة) ولا في رسالة هوشع. وفي كتاب ميخا شهادة غير واضحة قد تناولها النبي نفسه بالتعديل، وفيها إشارة إلى تجديد سلالة داود الملكية (1:5و 2و3و4-5). ويولي أشعيا أهمية أكبر لمستقبل بيت داود ومدينته؛ فترتكز رسالة أشعيا النبي على الاختيار الإلهي المزدوج لملك إسرائيل ولصهيون (أش 1:7-17؛ 23:8ب- 6:9؛ 1:11-9). ويلتزم صفونيا الصمت التام تجاه هذا الموضوع، بينما يلعب هذا الموضوع دوراً ثانوياً في رسالة إرميا وحزقيال (إر 5:23-6؛ حز 23:34-34؛ 24:37-25). ويؤكد كازل بخصوص المسيحانية أن إرميا لا ينفي الوعود السابقة بل يكملها مركزاً على حياة المدينة والشعب. وبخصوص حزقيال يكتب: “أدى سقوط ذرية داود إلى اتجاه حزقيال ومدرسته لإعطاء طابع أبدي للعهد المقطوع لذرية داود.. و أدى هذا إلى تغييرات عديدة في المسيحيانية، فسحبت المهام الكهنوتية من الملوك وأعطيت للكهنة. ويعتبر نزع هالة القداسة عن السلطة الملكية مركز ما يسمى “توراة حزقيال” (حز40-48). وبذلك أصبح الطريق ممهداً لمسيحانية الكهنوتية للاويين”. وفي أشعيا الثاني ينال قورش الملك الوثني لقب “مسيح”، لأنه أداة استعملها يهوه ليخلص شعبه من السبي. ويركز كاتب أشعيا الثاني على دور “عبد يهوه” (أش 1:42-4؛ 1:49-6؛ 4:51-9أ؛ 13:52-12:53). ولهذا “العبد” العجيب دور أساسي في مصير إخوته بني إسرائيل والبشرية كلها. ولكن المفسرون يتساءلون عن طبيعة شخصية هذا “العبد”، هل هي كهنوتية أم ملوكية، وإلى أي مدى يمكن ربطها بالتقليد المسيحاني. وتحظى شخصية زروبابل- بعد العودة من السبي- بانتباه كل من حجّاي وزكريا (حجاي 23:2؛ زك 8:3؛ 6:4؛ 12:6). ولكن يشوع كبير الكهنة يحتل المكانة الأولى (زك 10:4ب-14؛ 11:6-14). بذلك تزايدت أهمية المسيحانية الكهنوتية، نجد آثار ذلك في كتابات قمران. وبدأ الكهنة يحتلّون مكانة سياسية مرموقة. كما أن الأدب الرؤوي لدى اليهود أعطى صورة جديدة للاسكاتولوجية- صورة “ابن الإنسان”- التي يذكرها كتاب دانيال (9:7-10و11ب-14). وهي لا تشير إلى شخص فرد بقدر ما تشير إلى “شعب القدوس المتعالي” الذي أعطي حق السيادة على جميع الشعوب. وبالتالي نقول: كانت أزمة السبي وأزمة المكابيين سبباً في تغيير الكثير من مفاهيم الشعب اليهودي بخصوص المسيحانية لدرجة أن انتظار المسيح في زمن يسوع المسيح لم يكن يمثل إلا جزءاً محدداً من رسالة كبار الأنبياء. لقد تردّد اليهود في القرون 8-6 ق.م قبل إحاطة الملكية بهالة من القدسية. ولذلك لم ترد كلمة “مسيح” في كتاباتهم، بينما ترد حوالي 40 مرة في نصوص العهد القديم العبرية”. إنه صمت بليغ. ولا يتردد ميخا وأشعيا في تبشير معاصريهما بأن يهوه سيعطيهم ملكاً حسب خطة خلاص يرسمها يهوه نفسه، انطلاقاً من الوعود التي قطعها لداود (2صم 7؛ 5:23؛ مز 4:89-5و 4:20). لقد أراد الأنبياء تفادي أي نوع من الخلط بين يهوه ومختاره، بين سلطان الله الأعلى، والسلطان الذي يستمده منه ممثله على الأرض (الملك). إن إسباغ الكرامة على ذرية داود لا يجب أن يلقي الظلال على صاحب حق الملك، على يهوه (أش 1:6-6).
نبوات أشعيا آية عمانوئيل (أش 14:7)
لقد اهتم أشعيا بالتمييز بين إله إسرائيل ومسيحه. ففي أش14:7 يعلن النبي أن “صبية تحبل وتلد ابناً ويكون اسمه عمانوئيل”. وسوف يتناول القديس متى هذا الإعلان في إنجيله (مت20:1-25). وقد تكون هذه أول نبوه مسيحانية لأشعيا، ولا يرى أشعيا في هذا المقطع الغني والمعقد (10:7-17)، في “عمانوئيل”: الله معنا نوعاً من المخلص، بل ضامن ومنفذ الوعود (1:7-9) التي تركز على اختيار يهوه لبيت داود ومدينة أورشليم: “من يؤمن يخلص” (أش9:7). فعمانوئيل هو مجرد علامة أي تأكيد النبوة وليس أكثر. ولهذه العلامة معنى مزدوج كما يتضح من باقي النص (16:7-17): فهو يضمن خلاص البعض (الذي يصغون إلى الكلمة الإلهية) وهلاك البعض الآخر (الذين يتبعون سياسة آحاز).
المسيا نور وعدل (أش 23:8ب-6:9)
قد تكون مناسبة هذه النبوة ضم تجلت فلآصر الثالث لثلاثة مناطق من مملكة الشمال إلى امبراطوريته سنة 732ق.م. ويبشر أشعيا إخوته المنكوبين بالنور والخلاص والفرح: سوف ستحطم نير أشور. ويضمن يهوه الحفاظ على وعده وينفذه، وذلك بمولد طفل ملكي قد يكون على الأرجح ملك يهوذا المستقبل (ربما يكون حزقيا) وستسود السعادة فترة ملكه (5:9). لا يقوم دور المسيح إذاً في إنقاذ يهوذا وإسرائيل- فهذا عمل يهوه ذاته- إنما يقوم دوره في توطيد السلطان الذي ناله من الله لصالح شعبه وذلك عن طريق ممارسة العدل (6:9).
مملكة السلام (أش 1:11-9)
قد تعود هذه النبوة إلى نهاية حكم حزقيا (أي حوالي 703-701). وهنا يعد النبي ببعث ذرية داود وذلك عن طريق ظهور ملك يقرّ العدل (3:11-5) ويعيد السلام والاتزان لعناصر الطبيعة (6:11-8). وجدير بالملاحظة أن هذا الملك سينال- كما نال سلفه داود من قبله- مواهب الروح التي تسمح له بممارسة مهامه؛ فيلبس الحكمة والرحمة (2:11 قارن 1صم 13:16). وعمل المسيح هنا أيضاً هو نتيجة تدخل إله إسرائيل. ويهتم النبي في كل نبواته بإعلان أن الملك الذي يبشر به ينال كل شيء من يهوه ويدخل في إطار خطة خلاصه. هذا لا ينفي دوره الهام ولكنه يعود في النهاية إلى يهوه.
من الملك الجالس على العرش إلى المسيح المنتظر
كان أنبياء القرن الثامن ق.م يحلمون بملك يجلس على عرش أورشليم في المستقبل القريب. وقد يكون أشعيا فكر في لحظة من اللحظات أن حزقيا هو المسيح، وبالفعل قد حقق هذا الملك بعض ما كان ينتظره لأشعيا من المسيح. ولكن الأحداث أطاحت بهذا الحلم الجميل: تتويج الملك المسيا، وأجبرت بني إسرائيل على إرجاء تحقيق هذا الحلم (الاسكاتولوجي). لقد ظلت النصوص المسيحانية تغذي إيمان ورجاء بني إسرائيل، ولكن كان عليهم أن يتعلموا الصبر. فذلك اليوم لا يعرفه إلا يهوه. وعندما يحل هذا اليوم، سيعطي يهوه شعبه هذا المسيح الذي تنبأ عنه مرسلوه. وهكذا تطور الرجاء المسيحاني في إسرائيل وبنوع خاص في القدس قبل الميلاد بفترة قصيرة وخلال السنين الأولى للمسيحية. الشعب ينتظر أحداثاً معينة تميز الأيام الأخيرة التي يمتد فيها ملك إله إبراهيم واسحق ويعقوب إلى العالم كله. ومن هذه الأحداث مجيء المسيح. ونشأت هذه الفكرة كما قلنا في البلاط الملكي في أورشليم. وقد تناولها الأنبياء في رسالتهم. واتخذت أشكالاً مختلفة في كتابات اليهود في الفترة ما بين 170-63ق.م. وفجأة ارتفع صوت ينادي بتحقيق هذا الحلم. إلا أن المفاهيم المترسخة لم تستطع استيعاب هذا الأمر لغرابة طريقة تحقيقه. أدى هذا إلى إسكات هذا الصوت. ومعجزة القيامة وحدها هي التي دفعت بعض اليهود إلى الاعتراف مع الكنيسة بأن يسوع المسيح هو المسيح المنتظر. لقد اتخذت المسيحانية في الفترة الهللينية- الرومانية أشكالاً مختلفة، كما اختلفت أهميتها من حركة إلى أخرى. إلا أنها لم تلخص وحدها آمال اليهود في تلك الفترة. وتتخذ المسيحيانية أحياناً مسحة كهنوتية، في قمران مثلاً، ثم تتطور إلى انتظار مسيحاني مزدوج: مسيح من ذرية داود (ملكي) ومسيح ذرية هارون (كاهن). ويكتب جريلو Grelot: “إن الاسينيين انتظروا، بدون أدنى شك، بفارغ الصبر تحقيق الوعود النبوية بتحرير إسرائيل وإقامة المملكة المثالية. ونظرية المسيح المزدوج الطابع: كهنوتي، ملوكي قد غلب عليها الطابع الكهنوتي في كتابات قمران؛ الملك من ذرية داود سيخضع للكاهن الاسكاتولوجي وستكون حياة الشعب كلها متجهة ومتمركزة في أورشليم، في الهيكل، في العبادة. ثم تطورت هذه النظرة في “وثيقة دمشق” حيث اقتصر الانتظار على “مسيح هارون وإسرائيل”. وقد ترك هذا الاتجاه آثاره أيضاً في وصية الأسباط. وكان للأدب الرؤوي وجهة نظره الخاصة في المسيح: فقد أسبغوا على “ابن الإنسان” طابع متسام، طابع سماوي لا يتفق مع المسيحانية التقليدية. وكان للفريسيين وجهة نظرهم الكلاسيكية في المسيحانية، فهي ذات طابع قومي ديني. إنهم ينتظرون مسيحاً يخلص شعبه من العبودية. إلا أن نشاطه يتركز في الإصلاح الاجتماعي الأخلاقي مما يساعد على إقرار العدالة.