الإفخارستيا والتنشئة المسيحية- الأب د./ كرمي وليم سمعان
لقاؤنا في هذا العدد مع سر الإفخارستيا (القربان المقدس) ودوره في التنشئة المسيحية، حيث إن الاحتفال بهذا السر يجعل ذبيحة المسيح الفصحية حاضرة ومن خلالها “يندمج المؤمنون، وقد وُسموا بالمعمودية والتثبيت، اندماجاً كاملاً في جسد المسيح” (المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، مرسوم في خدمة الكهنة وحياتهم بند5).
1) الإفخارستيا والمخطط الخلاصي
توجد الإفخارستيا على قمة التاريخ المقدس بأكمله، وفي قلب المخطط الإلهي، وهي بهذا تسبق الحقائق المستقبلة وتحتل المكان المركزي في الطقوس (الليتورجية) وكل الأسرار تتجه إليها ومنها تنهل فعالياتها. ونجد مركزية سر الإفخارستيا في الموضوعات الكتابية الكبرى: الفصح والعهد والوليمة.
يُعد العشاء الفصحي الأخير ليسوع فصحاً جديداً حيث يحل محل الفصح اليهودي. والفصح المسيحي يذكرنا بعبور المسيح من هذا العالم إلى الآب (يو 1:13) من خلال تضحية موته.
وموضوع العهد يركز على العلاقة الواحدة للأمانة والمحبة التي بتها الله مع شعبه ومن خلاله مع الشعوب الأخرى. إنه عهد المشاركة والالتزام المتبادلين والذي من جهته لم يستمر إسرائيل في أمانته معرضاً نفسه للهلاك، ولهذا كان دور الأنبياء في إعلان عهد جديد (ار 31:31-32).
أما الإفخارستيا فتظهر على أنها رتبة (طقس) العهد الجديد (لو20:22، مت 28:26-29، مر 24:14-25). وموضوع الذبيحة يجد كماله في الإفخارستيا، فكلمات يسوع “هذا هو جسدي يُبذل من أجلكم… هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُراق من أجلكم…” إنما هو تسبيق لذبيحته على الصليب.
أخيراً موضوع الوليمة فالإفخارستيا تظهر جلياً على أنها وليمة تذكّرنا بالولائم المذكورة في الكتاب المقدس (من وليمة الخروج إلى وليمة هيكل أورشليم). يسوع يقدم عشاءه كوليمة الملكوت الذي بدأ وسوف يتم في الوليمة الإسكاتولوجية (راجع لوقا 17:22، 19:22).
2) إفخارستية الحياة
أحد المعطيات التي لا تقبل الجدال هو أن الكثير من المسيحيين رغم مشاركتهم في الإفخارستيا فإنهم يشعرون بأنها بعيدة عن حياتهم وأنها رتبة روحانية وشخصية، منفصلة عن الالتزامات الفعلية لحياتهم، ولهذا وحسب الباحث البلجيكي J.Gevaert فإن من الواجب على التربية الدينية أن تُلقي الضوء وبشكل عاجل ومناسب على العلاقة القائمة بين الإفخارستيا والحياة وأن تحاول التغلغل في معنى الجوانب الإنسانية في هذه الرتبة (الطقس)، ويرى J.Gevaert أن ما نحتفل به في الطقوس لا نعيشه في الواقع ولذا يبقى فقط مجرد تعبير رمزي لما نعيشه، وبدون إفخارستية الحياة فإن إفخارستية الكنيسة تبدو رتبة طقسية فارغة، سحرية وغريبة عن الواقع. (*)
إن التربية الدينية في مجال الإفخارستيا تبدأ بتكوين حياة المسيحي المليئة بالخيرات الإنسانية (البحث الدائم عن الإخوة من خلال تحقيق العدالة والحب في وسط عالم علامته المميزة هي الحروب والصراعات والبغض والموت) بجانب الجوانب الأساسية لعبادة الله والصلوات الشخصية.
أ- الخبرات الإنسانية:
* الجماعة:
إن المؤمن المسيحي يدرك جيداً بأنه ينتمي لجماعة مسيحية مكونة من رجال ونساء منغمسين في عجينة الحياة الواقعية، حيث يعيشون في عبادة الله من خلال المشاركة الأخوية حسب المبادئ الإنجيلية، يجمعهم لقاء ديني واحتفالي متذكرين موت يسوع ومكررين ما فعله على الخبز والخمر ومنتظرين عودته.
هذا يعني أن الذي يهم إذاً- ليس الطقس في حد ذاته- ولكن أن يعرف كل واحد أنه مرتبط بالآخرين أثناء القداس بنفس الارتباط الذي يرتبط به في الحياة من خلال المعايشة الحقيقية في وسط العالم، حيث يعيش كل واحد في مشاركة خاصة ويجتهد في البحث لتقوية العلاقات الإنسانية من خلال القيم وتعاليم الإنجيل.
* المشاركة الفعلية:
إنه لفي غاية الأهمية أن التركيز على أن الجماعة المسيحية ليست جماعة دينية منغلقة على نفسها، ولكنها تعبير عن الجماعة البشرية التي تريد تحقيق العلاقات المختلفة (علاقات عائلية، فنية وتقنية، اقتصادية…الخ). إنها خبرة مسيحية معاشة في قلب جميع أبعاد الحياة الإنسانية.
ب- الخبز والخمر
يتم الاحتفال بالإفخارستيا بتقديم الخبز والخمر، فهما تعبير عن الالتزام اليومي للحياة: هما رمز للالتزامات المتعددة التي نلتزم بها للحصول على القوت (الخبز اليومي). ولكن ومن زمن ليس بقليل توقف الخبز والخمر عن أن يكونا رمزاً للحياة الزراعية، ولذا وجب علينا أن نعتبرهما انطلاقاً من الحياة الثقافية والإنسانية. ولهذا فعلى التربية الدينية أن تأخذ في عين الاعتبار ثلاث أشياء:
1- كون الخبز والخمر رمزاً للكيان، فهما يذكّران بالجهاد من أجل العيش. وكيفية الحصول على وسائل الحياة وجعلها حياة إنسانية وهذا يكلفنا ثمناً باهظاً، وهكذا فقد دفع المسيح دمه على الصليب ثمناً غالياً لكي يعيد لنا الحياة.
2- إن الخبز والخمر كتعبير رمزي للالتزام البشري، محملان بالمجهول المبذول لبناء معايشة كريمة وإنسانية ولهذا فالاشتراك في الإفخارستيا يجب أن يخلق عدالة وأخوة ومحبة أكبر.
3- كون الخبز والخمر رمز لكياننا البشري فلا يمكن أن نفصلهما عن اختلال التوازن في العالم، فهناك الملايين من البشر يموتون جوعاً وفي أنحاء أخرى هناك من يدمر المحاصيل الغذائية لرفع سعرها، ومن هنا فإنه ليست هناك مشاركة حقيقية في الإفخارستية دون الالتزام لمحاربة الظلم ودون الالتزام لبناء أخوة إنجيلية حقيقية.
3) المعنى الشخصي للإفخارستيا
كما قلنا عاليه أن الكثير من المسيحيين يشعرون ببعد الإفخارستيا عن حياتهم لأنها تبدو وكأنها مفرغة من معناها لأنها تقتصر على الرتبة (الطقس) وعلى وجوب ممارستها (الوصية الكنسية بالتناول على الأقل مرة في السنة)، والاشتراك فيها الناتج عن العادات والتقاليد العائلية دون الوصول إلى النضج اللازم للإيمان والمحبة. ولكنها متأصلة في الوجود البشري للأفراد والجماعة المسيحية، إنه السر الذي يسمح بالمثابرة والنمو، إنها توصل ممارسيها إلى تمام المشاركة والاتحاد مع الله ومع البشر. حقاً إننا نصبح مسيحيين بالعماد ولكن أيضاً نحن نظل مسيحيين بالإفخارستيا. وهذه هي الإفخارستيا التي نريد التكلم عنها:
* إفخارستيا مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحياة:
إن القداس الإلهي هو طقس يقيمه خص ما ولكن الاحتفال بالإفخارستيا ليس معزولاً عن باقي حياة الإيمان، ولا يجب أن يكون تعبيراً عن الإيمان فقط، فلا يجب أن تُفهم وتُعاش كشيء مستقل ومكتفي بذاته من حيث القيمة الداخلية لما يتم في هذا الاحتفال، ولكن يجب أن يكون هذا الاحتفال كجزء من كل.
* افخارستيا كشهادة حية للمسيحية:
إن الإفخارستيا تتم باسم الآب والابن والروح القدس، مع العلم بأن المشتركين فيها يجب أن يكونوا على دراية واعتراف بالله الحي والحق الذي تجلى لنا من خلال ما صنعه لنا والذي نكتشفه من خلال طاعة الإيمان.
هذا الإيمان يغذيه ويجدده سماع كلمة الله والتأمل فيها: هذه الكلمة تشهد على تدخلات الله في تاريخ البشر، تاريخ بشر وأحداث تتكلم جميعها عن الله لأولئك الذين يبحثون عنه بقلب طيب ونية صافية.
هذا الإيمان يتعرف على وجود المسيح في وسط أولئك المجتمعين في محبته ليعلنوا موته ويعترفون بقيامته ليس فقط بالكلام ولكن من خلال الاتحاد الأخوي والمشاركة في كل شيء، في الصداقة والتضامن مع المشتركين في تلك المائدة الإفخارستيا هي سر المشاركة والاتحاد.
4) الإفخارستيا والتنشئة المسيحية
في الترتيب التقليدي تختتم الإفخارستيا أسرار التنشئة المسيحية وتبقى اللحظة المركزية واللقاء الاعتيادي لحياة المسيحي.
إن مسيرة الإيمان لأسرار العماد والتثبيت تقودنا إلى الإفخارستيا والتي حسب الترتيب التقليدي والمتبع في كنائسنا الشرقية تعتبر الإفخارستيا الختام المنطقي للتنشئة المسيحية، لأنه فقط بعد العماد والتثبيت نحل على الحق التام والمقدرة على المشاركة مع الأخوة في عشاء السيد المسيح.
للأسف في كثير من المرات، عندما نتكلم عن الإفخارستيا في مجال التنشئة المسيحية، فنحن نقصر كلامنا عن المناولة الأولى، أو المناولة الاحتفالية، أو قداس المناولة الاحتفالية، هذه التعبيرات تعتبر تعبيرات غير كاملة لأنها تركز على الغذاء الإفخارستي على حساب باقي لحظات الاحتفال، أو نركز على ما شخصي متناسين الجماعة المسيحية.
إن المعمد الذي نال الروح القدس بالتثبيت بمشاركته في الإفخارستيا يدخل دخولاً كاملاً في سري المسيح والكنيسة، وفقط هنا يمكن أن ينال لقب “مسيحي”، ولها ليس بكاف أن نعامل الإفخارستيا فقط من منطق “المناولة الأولى أو الاحتفالية”، ولكن على أنها مشاركة كاملة وجماعية في فصح المسيح ودخول كامل في الجماعة الإفخارستية.
* الإفخارستيا قمة التنشئة المسيحية:
تعتبر الإفخارستيا قمة التنشئة المسيحية، فالسران اللذان يسبقانها يمنحان وسماً: العماد يعطي “كيان حسب إرادة الله”، والتثبيت يحدد واجبات كل من نال هذه الكينونة بقبوله الروح القدس. سرا العماد والتثبيت هما سران لا يعادان على عكس سر الإفخارستيا حيث من طبيعته التكرار “اصنعوا هذا لذكري” (لوقا 20:22).
5) التنشئة المسيحية استعداداً للإفخارستيا
يقول المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني: “يظهر سر القربان (الإفخارستيا) كينبوع وقمة للكرازة كلها” (مرسوم في خدمة الكهنة وحياتهم بند5)، ولذلك فالإفخارستيا هي قمة التنشئة المسيحية. إن كل معمد يصبو للوصول إلى الاشتراك فعلياً في هذا السر وذلك بوضعه كمركز لحياته الخاصة أو في وسط الجماعة. وإذا كنا نصبح مسيحيين بالعماد فلا نستطيع أن نبقى مسيحيين (أي أمناء على دعوتنا) بدون المشاركة في مائدة جسد ودم المسيح المقدمين ذبيحة لخلاصنا. وإذا كانت هذه هي قيمة ومعنى الإفخارستيا في حياة الكنيسة والمسيحي تكون نتيجة ذلك أن التنشئة المسيحية لهذا السر إحدى الواجبات الأساسية للتربية في وإلى الإيمان ومن هنا فعلى التربية الدينية أن تقدم سر الإفخارستيا على حقيقته فالإيمان الحي في السر الإفخارستي يعلن وعلى أعلى الدرجات عقلية المسيحي الحقيقية.