الانفصال بين كنيسة القسطنطينية وكنيسة روما سنة 1054 – القمص/ إسكندر وديع
بعد حرم فوتيوس في المجمع المسكوني الثامن سنة 869، وإرجاعه إلى الكرسي البطريركي سنة 879، بموافقة البابا يوحنا الثامن رجعت العلاقات بين روما والقسطنطينية، في عهد البابا يوحنا التاسع 897-900، إلا أن العلاقات بقيت نادرة ومتقطعة وقد توقفت منذ 1025 حيث لم يرسل البطريرك القسطنطيني يوستاسيوس رسالة الشركة البابا، كما كانت العادة جارية بين الكراسي الكبرى، وكذلك فعل البطريرك ميخائيل كارولاريوس مما يدل على سوء العلاقات بين الطرفين. إلا أن الظروف السياسية كادت تقربهما إلى بعض، حيث أن الغزاة النورمانديين أجروا غارات متواصلة على ممتلكات البابا وعلى إيطاليا الجنوبية الخاضعة للحكم البيزنطي. فأراد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين التاسع أن يوحد الجهود ضد الغزاة وأرسل رسالة إلى البابا لاون التاسع في هذا الصدد. ليحقق معه وحدة سياسية وفي الوقت نفسه وحدة دينية. وهذا ما كان يخشاه البطريرك ميخائيل كارولايوس حفاظاً على استقلاله. فأخذ يدبر الخطط لإحباط هذا الاتفاق.
بدأ بإغلاق كنائس الجاليات اللاتينية الموجودة بالعاصمة وأوعز لأحد أساقفة لاون أسقف أكريدا ببلغاريا بإرسال خطاب إلى يوحنا أحد أساقفة اللاتين في إيطاليا الجنوبية. ففعل منتقداً بعض العادات اللاتينية وحثّه على الامتناع عنها مثل استعمال الفطير بدلاً من الخمير في سرّ الإفخارستيا، كذلك الصوم يوم السبت، الامتناع عن ترتيل “ألليلويا” في الصوم الكبير وكذلك أكل المخنوق.
رد روما
وصلت الرسالة إلى البابا لاون التاسع وهو أسير النورمانديين فكلّف الكاردينال همبرتو رئيس الديوان البابوي بالردّ على رسالة لاون أسقف أكريدا والبطريرك ميخائيل كارولاريوس. ولقد كان همبرتو عالماً وفاضلاً ولكنه كان ذا طباع حادة محباً للجدال والخصام. وأخذ الكاردينال المذكور يرد على رسالة لاون بأسلوب شديد اللهجة، وزاد الطين بلة. فهو يرد على الاعتراضات السابقة ويبرز سلطة البابا وعصمتها من الخطأ، بينما ظهرت تسعون هرطقة في الشرق ومعظمها من بطاركة القسطنطينية. ويلوم هذه الكنيسة لنكرانها لجميل كنيسة روما التي رفعتها إلى المركز البطريركي. ولغطرسة بطريركها لطلبه لقب”البطريرك المسكوني” ولإغلاق الكنائس اللاتينية الموجودة في العاصمة بينما نحن لم نغلق الكنائس والأديرة البيزنطية الموجودة في روما نفسها أو خارجها. ويهددهم باللعنة الإلهية ثم يختتم الرسالة بالدعوة إلى الوحدة.
عندما وصلت هذه الأخبار إلى الحاكم البيزنطي في جنوب إيطاليا، أرسل خطاباً إلى الإمبراطور يرجوه أن يمنع الخصومات الدينية في هذه الأوقات الحرجة.
فأرسل الإمبراطور رسالة إلى البابا لاون التاسع كما أنه أوعز إلى البطريرك أن يعتذر للبابا ووصلت الرسالتان. وسرّ بهما البابا وأرسل هو بدوره رسالتين واحدة إلى الإمبراطور وواحدة للبطريرك مع وفد مكوّن من ثلاثة أشخاص يرأسه الكاردينال همبرتو ذو الطبع العنيف، رغم علمه وقداسته. فقابلهم الإمبراطور بكل حفاوة ثم ذهبوا إلى البطريرك محاطاً بأساقفته ووضع الوفد البابوي في مرتبة تلي مرتبة الأساقفة بينما كان الوفد يطمح إلى مرتبة تقدمهم على الأساقفة بصفتهم مندوبين عن البابا. وعندما لم يستجب إلى طلبهم سلّموا رسالة البابا وانسحبوا. وبفحص الرسالة تبيّن للبطريرك أن الأختام مكسورة وأن الرسالة مزورة ونسبها إلى الحاكم البيزنطي عدوه الخاص. ووصل خبر وفاة البابا لاون التاسع في ذلك الوقت وبوفاته تبطل صفة المرسلين لذلك فق قصد البطريرك أن يتجاهلهم وأن يرفض اللقاء بهم.
فاغتاظ همبرتو من هذه المعاملة وأخذ يردد بين الشعب الردود التي كان قد جاوب بها على لاون أسقف أكريدا ورد عليه راهب من الستوديون اسمه نيقيتا بكتب ردد فيها اتهامات لاون وأضاف إليها مسألة إلزام الكهنة بالعزوبية والقيام بالقداس العادي أثناء الصوم الكبير. وكان أسلوب الكتاب هادئاً ويدعو إلى الحوار.
فأجاب همبرتو بأسلوب عنيف، ناعتاً الراهب بأسفل الصفات وختم الكاردينال رسالته بإلقاء الحرم على الراهب المذكور. وتفنّن في فتح النزاع حول عقيدة انبثاق الروح القدس من الآب والابن، مؤكداً في جهله أن هذا التعبير ليس إضافة من اللاتين ولكن حذفاً من الشرقيين.
موقف الإمبراطور قسطنطين التاسع
وقع الإمبراطور في حيرة عظيمة لهذه المشادة بين الطرفين وهو الذي كان قد أخذ مبادرة التسامح وإعادة الوحدة، وحاول أن يؤثر على البطريرك ميخائيل كارولاريوس ليقوم ببعض التنازلات وليلاقي الوفد ولكن ظل البطريرك على موقفه. كما أنه دعا الراهب نيقيتا إلى حوار مع الوفد اللاتيني في حضوره. واعتذر الراهب وطلب الصفح مقراً بخطئه. ولما تيقن الوفد أنهم لن يستطيعوا التفاوض مع البطريرك، قرروا الرحيل بعد إلقاء الحرم على البطريرك القسطنطيني وفي يوم السبت 16 يوليو سنة 1074، وضعوا الحرم على مذبح كاتدرائية أجية صوفيا أمام الإكليروس والشعب.
وكانت هذه الرسالة تذكّر بأولوية الكرسي الروماني وبحقه في إرسال وفد إلى القسطنطينية “صادوم الجديدة”. وقد تأكد الوفد من أرثوذكسية الإمبراطور والإكليروس والشعب أما ميخائيل الذي يدعى زوراً بطريركاً هو حليف كل الهرطقات ودعي للحضور لطلب الصفح والغفران ولم يحضر ولم يلاقي الوفد المرسل من البابا بل حرمهم من الاحتفال بالقداس الإلهي وهكذا أهان في شخصهم الكرسي الرسولي. ولم يتورع أن يأخذ لقب “البطريرك المسكوني”. لكل هذه الأسباب بسلطة الثالوث الأقدس والكرسي الرسولي وبسلطة كل أساقفة المجامع المسكونية السبعة، نعلن الحرم ضد ميخائيل وأعوانه منهم لاون الذي يدّعي أنه أسقف أكريدا ..”.
نلاحظ أن هذا الحرمان باطل أولاً بسبب وفاة البابا لاون التاسع الذي أرسل الوفد، ثانياً بسبب عدم موافقة روما على هذا الحرمان فيما بعد.
موقف ميخائيل كارولاريوس
لما علم البطريرك القسطنطيني بما حصل في كنيسة أجية صوفيا، أخذ صورة الحرمان وترجمه من اللاتينية إلى اليونانية وقدّمها للإمبراطور الذي استدعى أعضاء الوفد من جديد لمحاولة التفاهم مع البطريرك. ولكن ثار الشعب ضد الوفد واضطر الإمبراطور أن يلغي طلبه خوفاً على حياة أعضاء الوفد.
وجمع البطريرك أعضاء السينودس الدائم وألقى الحرم على رسالة همبرتو التي فيها حاول بعض الرجال الآتين من الغرب في المدينة المحبوبة من الله لكي يفسدوا الأرثوذكسية: ألم يتجرءوا في نقد العادات الشرقية من عدم عزوبية الكهنة والتحاء الذقن لرجال الدين وحذف إضافة (وبالابن) . واعتبر رسالة البابا كأنها غير أصلية ومزورة وأن كاتبها هو الحاكم البيزنطي بإيطاليا.
وقرّر الاحتفاظ بالنسخة الأصلية من الحرم للخزي الدائم والإدانة الثابتة للذين ألقوا مثل هذه التجاديف ضد إلهنا. ويلاحظ المؤرخون أنه لا يوجد شيء يمس البابا بل فقط أعضاء الوفد. ربما ليترك الباب مفتوحاً لمصالحة آتية.
وقد أرسل البطريرك المسكوني للبطاركة الملكيين بطاركة الإسكندرية وإنطاكية وأورشليم ليتبرأ من هذا الانشقاق ويحثهم على اتباع خطاه. لأن الإهانة لم توجه له فقط بل لكل البطاركة الشرقيين.
حاول بطرس الثالث بطريرك إنطاكية أن يثنيه عن الشقاق ولكن دون جدوى. كذلك تبعه بطاركة الإسكندرية والقدس في هذا الانشقاق. والسؤال الباقي من هو المسؤول وإلى متى؟.
النتيجة
رجعت العلاقات ولو متوترة أثناء رئاسة البابا أورياوس سنة 1089. وتكرّس الانشقاق فيما بعد بسبب الحرب الصليبية الرابعة حيث استولى الصليبيون على القسطنطينية ووضعوا عليها بطريركاً لاتينياً. وحصلت بعد ذلك مجامع لإرجاع الوحدة سنتكلم عنها في المقالات التالية.
والأمر المفرح هو أنه عقب المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1965، بجهد البابا بولس السادس والبطريرك أثيناغوراس، رفعت الحرومات بين الجهتين وبدأت صفحة جديدة بين الكنيستين الشقيقتين لعلها تقودنا إلى الوحدة الكاملة.
عن مجلة صديق الكاهن