البابا ليون الثالث عشر والعصر الذهبي لطائفة الأقباط الكاثوليك – الأب/ يعقوب شحاتة الفرنسيسكاني
من الأحبار الرومانيين الذين سعوا بكل جهدهم لتعضيد ومساندة الأقليات الكاثوليكية في جميع أنحاء العالم وخاصة الشرقية منها، يعدّ البابا ليون الثالث عشر (1878-1903) أبرزهم في هذا المجال. فليس هناك جماعة أو طائفة كاثوليكية لا تدين له بالفضل سواء في وجودها أو في نموها وازدهارها وتطورها. ولعل طائفة الأقباط الكاثوليك مثال حيّ لما تمتعت به هذه الطوائف من دعم ومساندة من قبل هذا الحبر الروماني العظيم.
كانت الطائفة تعيش حالة محزنة منذ استدعاء أسقفها الأنبا أغابيوس بشاي إلى روما في 5 إبريل 1878، ليدافع عن نفسه ضد اتهامات وجِهَت إليه من خصوم له من بين الإكليروس والشعب. وقد صدر قرار مجمع انتشار الإيمان بإقالته في 22 نوفمبر 1878، بالرغم من إصراره على براءته من أيّة اتهامات، والتي برر دوافعها بالحسد والغيرة نحو شخصه، وسعى أعداؤه إلى الجلوس على كرسيه. وقرّر المجمع المذكور عاليه تعيين أحد كهنة البطريركية اللاتينية بالقدس الأب أنطوان مرقس زائراً عاماً على الطائفة. ورغم قرار الإقالة، إلا أن الأسقف المعزول لم يفُت في عضده ولم يتملكه اليأس، فقد استمر يدافع عن نفسه لمدة سبع سنوات، يجمع فيها بصبر عجيب أدلة براءته. حتى حصل أخيراً على حكم البراءة في شهر يوليو 1885، وتقررت عودته إلى كرسيه، فعاد في أوائل شهر يناير 1887، ولكنه لم يعش طويلاً، فقد انتقل إلى جوار ربه بعد أربعين يومٍ من عودته إلى وطنه وكرسيه. ولم تعين روما بعده أسقفاً على الطائفة، التي ظلت تُدار من قبل بعض الكهنة بصفة نواب منتدبين. وبسبب عدم وجود أسقف على رأس الطائفة، لم يكن في مقدورها أن تشارك في المناسبات الكبرى، التي جرت في بداية تسعينات القرن التاسع عشر: كمؤتمر القربان الأقدس الذي عقد في مدينة القدس سنة 1893، أو اجتماعات البطاركة الكاثوليك الشرقيين في روما سنة 1894 لبحث أحوال الكنائس الشرقية الكاثوليكية.
عموماً، وعلى الرغم من هذا الواقع التعس الذي كانت تعيشه طائفة الأقباط الكاثوليك، فإن أبناءها لم يرضوا بهذا الهوان. وإنما بدأت الدماء تعود إلى العروق المتجمدة بفضل نفر من الكهنة، كانوا قد عادوا حديثاً من بيروت بعد إنهائهم لدراساتهم وسيامتهم الكهنوتية، وكان على رأسهم الأب جرجس مقار الذي سيصبح فيما بعد الأنبا كيرلس مقار أول بطريرك على الطائفة.
في الجلسة الخامسة من اجتماعات البطاركة الكاثوليك الشرقيين بروما بتاريخ 8 نوفمبر 1894، نقرأ أن الأقباط الكاثوليك بعثوا برسالة إلى البابا ليون الثالث عشر، موقعة من الأب أنطون كابس النائب المنتدب في ذلك الوقت (1892-1895)، بالإضافة إلى ثمانية من الكهنة واثنين من الشمامسة الإكليريكيين، ملتمسين فيها أن يرجّع إليهم البابا كرسي الإسكندرية للأقباط الكاثوليك، قائلين أن عدد الأقباط الكاثوليك، بما فيهم كاثوليك الأحباش وآخرين مقيمين في القدس، يربو على خمسين ألفاً!.
بالطبع كان الآباء المجتمعون في شك من هذه الإحصائية. وقد طلبوا من بطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس يوسف أن يعلِّق على هذا الطلب. وفي تعليق بطريرك الروم الكاثوليك لم يؤيّد بالطبع الإحصائية المبالغ فيها من الأقباط الكاثوليك، لكنه قال إذا أمكن إمدادهم بكهنة ومساعدات مادية ليبنوا الكنائس في الصعيد، لاستطاعوا أن يقفوا أمام المد البروتسانتي الزاحف بين أبناء الأقباط. ويضيف البطريرك يوسف أن الحال أصبح مهيأ لكي تعاد إليهم الرئاسة الكنسية، إذ أنهم بحاجة لأسقف كي يحوزوا احترام الشعب والحكومة…وهكذا بعد مناقشات مستفيضة تقرر أن يُعين أسقف لطائفة الأقباط الكاثوليك، وأن يؤجل موضوع إعادة الكرسي البطريركي الإسكندري، إذ تبين أن الوقت لم يحن بعد للقيام بمثل هذه الخطوة. [1]
على الفور بدأت إجراءات اختيار الأسقف. فطُلِب من البطريرك الملكي الكاثوليكي غريغوريوس يوسف أن يرشح مَن يجده مناسباً لهذه الدرجة. ومن خلال وثائق أرشيف مجمع الكنائس الشرقية، يتبين أن البطريرك المذكور بعث بترشيحاته في 5 يناير 1895، حيث زكّى 3 من الآباء الأقباط، وتركز وثائق أرشيف المجمع المذكور على اثنين منهما: الأب أنطون كابس النائب المنتدب، والأب جرجس مقار. أما الثالث فاسمه لا يظهر في الوثائق.
في محضر جلسة مجمع انتشار الإيمان بتاريخ 4 فبراير 1895 لمناقشة ترشيحات البطريرك غريغوريوس يوسف، تقرّر أن يُطلَب من القاصد الرسولي بمصر في ذلك الوقت مونسنيور كوربيللي، أن يبدي رأيه في تلك الترشيحات، خاصة حول كل من الأب أنطون كابس والأب جرجس مقار. وقد وصل تقرير القاصد الرسولي إلى روما في أواخر شهر فبراير تقريباً. وفي جلسة مجمع انتشار الإيمان المنعقدة في 4 مارس 1895، تقرّر أن يُطلَب من قداسة البابا ليون الثالث عشر أن يعين الأب جرجس مقار أسقفاً على طائفة الأقباط الكاثوليك.[2]
وبالفعل فقد تفضل قداسة البابا ليون الثالث عشر، وأصدر قراره بتاريخ 15 مارس 1895، بتعيين الأب جرجس مقار أسقفاً شرفياً على كرسي قيصرية فيلبس للأقباط الكاثوليك .[3]
على الفور بدأت الاستعدادات لتنفيذ هذا الأمر البابوي. لذلك كتب الكاردينال ليدوكوفسكي رئيس مجمع انتشار الإيمان، إلى الكاردينال غايتانو دي روجّيرو سكرتير مكتب الوثائق البابوية، ليعلمه بهذا الأمر ويطلب منه أن يعد الوثائق المطلوبة ويرسلها في أقرب وقت.
وبتاريخ 22 مارس 1895، أرسل رئيس مجمع انتشار الإيمان للقاصد الرسولي بمصر المونسنيور كوربيللي، يعلمه بأن قداسة البابا ليون قد قبل طلب الأقباط الكاثوليك لإعادة الرئاسة الكنسية لكنيستهم، واختيار الأب جرجس مقار أسقفاً عليهم، ويطلب منه أن يخبر الأب المذكور باختيار البابا له، وأنه ستصل قريباً جداً إليه الوثائق البابوية الخاصة بهذا التعيين.[4]
وكتب رئيس المجمع رسالة أخرى إلى الأب أنطون كابس النائب المنتدب على طائفة الأقباط الكاثوليك، يعلمه بقرار البابا بتعيين الأب مقار أسقفاً، كما يبلغه بشكر البابا والمجمع له على مجهوداته وحكمته، في تدبير شئون الطائفة أثناء ولايته عليها.[5]
وبالفعل تم تكريس الأسقف الجديد الذي اتخذ اسم كيرلس في 17 أبريل 1895 على يد القاصد الرسولي بمصر المونسنيور كوربيللي حسب الطقس اللاتيني.
كان تأثير تلك الخطوات كبيراً في نفوس أبناء الطائفة. ويصف المؤلف صالح ميخائيل مقار ذلك التأثير قائلاً: ” أني لا أظنني في حاجة لأن أصف السرور الذي عم القبط الكاثوليك في ذلك الحين فقد بلغ أشده وكان له أحسن تأثير في جمع الأفراد النافرة ولمّ شعث المتفرقين فلم يكن هناك إلا وجوه باسمة وألسنة تلهج بالشكر للمولى القدير على هذه النعمة العظيمة”[6].
ويخبرنا الدكتور مارك حبشي، أن باغوص باشا أحد أحفاد المعلم غالي الكبير، وكان يرأس الطائفة في ذلك الوقت، قرر أن يقوم على رأس وفد من وجهائها بالذهاب إلى روما، للتعبير لقداسة البابا ليون الثالث عشر عن شكر وعرفان الطائفة للمحبة التي أظهرها نحو كنيسة الإسكندرية.[7]
وفي 25 أبريل 1895، أرسل الأسقف الجديد برقية باللغة اللاتينية إلى قداسة البابا ليون يعبر له فيها عن شكره وتقديره.[8]
في الجلسة الثانية عشرة، للجنة الكرادلة للعمل على مساندة الوحدة مع الكنائس المنفصلة، والمنعقدة بتاريخ 5 مايو 1895 برئاسة البابا ليون، جري الحديث عن الأثر الإيجابي لسيامة الأسقف مقار في نفوس الأقباط الكاثوليك. وقد أخبر البابا الآباء المجتمعين أن الأسقف المذكور قد كتب قبل تعيينه أسقفاً كتاباً بالفرنسية، عنوانه تاريخ كنيسة الإسكندرية منذ القديس مرقس حتى عصرنا الحالي.[9]
وأخذ البابا بنفسه يقرأ بصوت عالٍ بعضاً من فقرات هذا الكتاب. وعندما انتهى من القراءة قال: “في الجلسة الخامسة لهذه اللجنة بتاريخ 8 نوفمبر 1894 رأينا أن الوقت لم يكن مناسباً لإرجاع الكرسي البطريركي الإسكندري، وعلى الرغم من هذا فقد وصلتنا عدة توسلات سواء من الأسقف مقار أو من عدد كبير من وجهاء الأقباط الكاثوليك كي نرجع لهم كرسيهم البطريركي”. وقد ثار نقاش طويل في هذا الأمر حول قانونية وامتيازات وحدود ولاية هذا الكرسي البطريركي. وكان البابا قد تحدث في بداية الجلسة عن أن ترتيب كرسي الإسكندرية مازال تالياً بعد كرسي روما، إذ أن ليس للقسطنطينية كرسياً كاثوليكياً. ومع نهاية النقاش تقرر أن يُطرَح أمر إحياء الكرسي الإسكندري للأقباط الكاثوليك لمزيد من الدرس. وعهد بهذا الأمر للأب بيرناردينوس القديسة تريزا، الرئيس العام السابق لرهبنة الآباء الكرمليين الحفاة، بمساعدة أحد الكهنة للقيام بهذه الدراسة.[10]
في الجلسة الثالثة عشرة للجنة الكرادلة بتاريخ 9 يونيو 1895، أبدى البابا رغبته في الحديث عن الأقباط الذين يبدون متحمسين للدخول في الكنيسة الكاثوليكية، وأظهر للآباء المجتمعين تقريراً إيجابياً من رئيس الآباء اليسوعيين بالقاهرة حول هذا الموضوع، كما أطلعهم على نيته في توجيه رسالة بابوية للأقباط، ورسالة أخرى للرئيس العام للآباء اليسوعيين بروما، يحثه فيها على أن تبذل رهبنته مزيداً من الجهد في مساندة الأقباط الكاثوليك.[11]
وقد وجه البابا بالفعل رسالته إلى الأقباط (Ad Coptos) بتاريخ 11 يونيو 1895، ونشرت في صحيفة “أوسرفاتور رومانو (L’Osservatore Romano) في عددي 17 و18 يونيو 1895.
أحدثت الرسالة البابوية إلى الأقباط ردود فعل إيجابية، وقد علقت عليها كثير من الصحف والمجلات نذكر منها: مجلة “الحضارة الكاثوليكية”[12] و مجلة “الدراسات الدينية، الفلسفية، التاريخية والأدبية”[13].
وبخصوص تلك الرسالة، ذكر الأب يوسف حجار أن السفير الفرنسي لدى الكرسي الرسولي، قد بعث بتقرير إلى وزير الداخلية هانوتو قال فيه:” أن (البابا) تحدث عن الروابط التاريخية التي تجمع بين كنيسة القديس مرقس وكرسي روما. وألح على اهتمامه شخصياً بهذه الطائفة المتحدة مع روما بتعيين أسقف من هذا الطقس. وأيضاً من خلال المناشدات الدينية والأدبية بتشجيع بناء المزيد من المدارس ودمج الحماس الكاثوليكي بالروح الوطنية…”[14]
وقد اعتبر المؤلف روزاريو إسبوزيتو أن تلك الرسالة تعد حجر الزاوية في البناء الروحي لتلك الكنيسة.[15]
وكما قرأنا سابقاً عن نية البابا ليون الثالث عشر بتوجيه رسالة بابوية إلى رهبانية الآباء اليسوعيين، ليشجعهم على بذل المزيد من الجهود لمساعدة الأقباط الكاثوليك، والتي أعلن عنها في الجلسة الثالثة عشرة للجنة الكرادلة، فقد صدرت تلك الرسالة بالفعل في 31 يوليو 1895.
وفي الجلسة الخامسة عشر لتلك اللجنة، جرى الحديث عن تلك الرسالة ورد الرئيس العام للرهبانية اليسوعية عليها. وذكر أيضاً أن البابا قد أرسل إلى الرئيس العام المذكور مبلغ 30 ألف فرنك، ليتم الصرف منها على المشروعات المخصصة للأقباط. ورد الأب مارتان (رئيس اليسوعيين العام) في رسالة قُرئت في تلك الجلسة، عبّر فيها لقداسة البابا عن شكر الرهبانية لتوجيهه تلك الرسالة في عيد القديس أغناطيوس مؤسسها، ويعلمه أنه أرسل عدة نسخ من الرسالة المذكورة والمبلغ المرسل إلى المرسلين اليسوعيين في مصر، مؤكداً أن المبلغ سيتم صرفه حسب رغبة قداسته فيما يعود بالفائدة على أمة الأقباط الكاثوليك.[16]
وكما ذكرنا سابقاً عن نية الطائفة في إيفاد بعثة من وجهائها إلى روما، لتقديم الشكر والعرفان بالجميل لقداسة البابا ليون الثالث عشر لمحبته واهتمامه بالأقباط الكاثوليك، فقد توجه بالفعل وفد مكوّن من ثلاثين شخصاً، على رأسهم الأنبا كيرلس مقار وباغوص باشا غالي رئيس الطائفة. وقد تقابل قداسة البابا مع الوفد مقابلة خاصة وذلك في 16سبتمبر 1895.
وقد أفردت مجلة “الحضارة الكاثوليكية” مساحة كبيرة للتعليق على هذه المقابلة: حيث ذكرت أن باغوص باشا قرر أن يتحمل شخصياً جميع تكاليف رحلة هذا الوفد؛ وأن أعضاء الوفد جدّدوا طلبهم لقداسته كي يعيد تأسيس بطريركية الإسكندرية للأقباط الكاثوليك. ونزولاً على رغبتهم طلب قداسته من الأنبا مقار ألا يترك روما قبل أن يتم دراسة هذا الموضوع.[17]
عن مجلة صديق الكاهن
——————————–
[1] راجــــــع Sacra Congregazione per la Chiesa Orientale., Verbali delle conferenze patriarcali sullo stato delle chiese Orientali e delle adunaze della commissione cardinalizia per promuovere la tiunione delle chiese dissidenti tenuta alla prezenza del S.P. Leone XIII ( 1894-1902 ), Tipografia poliglotta vaticana 1945. p. 52 ss.
2 أرشيف مجمع انتشار الإيمان، سجل القصاد الرسوليون – البطاركة – الأساقفة رقم 4 للمدة من 1890-1921، وثيقة رقم 3525 – البطاركة .
3 راجع نفس السجل المذكور عاليه.
4 راجع نفس السجل، وثيقة رقم 3550.
5 راجع نفس السجل.
6 راجع صالح ميخائيل مقار, الصحيفة الخالدة، ترجمة حياة المثلث الرحمة الأنبا كيرلس مقار بطريرك الأقباط الكاثوليك، القاهرة 1922، ص 10.
[7] HABACHI M., L’Eglise d’Alexandrie et sa Béatitude le Patriarche Kyrillos Macaire, le Caire 1921, p. 16.
8 راجع أرشيف مجمع الكنائس الشرقية ، السجل المذكور سابقاً، وثيقة رقم 3796.
[9] Histoire de l’Eglise d’Alexandrie depuis Saint Marc jusqu’à nos jours, le Caire 1894.
[10] Sacra Congragazione per la Chiesa Orientale., Verbali…, p. 116.
11 راجع نفس المصدر السابق ص 137 وما يليها.
[12] La Civiltà Cattolica
[13] Etudes Religieuse, Philosophiques, Historiques et Littéraires
[14] J, HAGGAR, Le Vatican, la France et le Catholisime Oriental (1878-1914), Paris 1979, p. 186.
[15] R, ESPOSIO, Leone XIII e l’Oriente Cristiano, studio storico sistematico, Roma 1960, pp. 330,331.
[16] Sacra Congregazione per la Chiesa Orientale, Verbali…,p. 179.
[17] La Civiltà cattolica, quaderno dell 19 ottobre 1896, pp. 226,227.