البطريرك بيتسابالا في خميس الأسرار : أشكر الله لكل الذين يشهدون في كنيستنا المحلية
نقلا عن موقع أبونا
نشر الخميس، ١ ابريل / نيسان ٢٠٢١
كتب : فتحي ميلاد – المكتب الأعلامي الكاثوليكي بمصر .
أشكر الله، لكل الذين يشهدون في كنيستنا المحلية بخدمتهم المتواضعة والمتفانية. أرجو أن نتعلم من هؤلاء الإخوة ألا نخاف من أن نصبح ضعفاء، لكي نلتقي بمن هم ضعفاء وعُزَّلٌ في مواجهة المعاناة الإنسانية. نرجو أن نكون قادرين على غسل أقدامهم والتغلب على أنانيتنا. بهذه الطريقة نصبح حقًا أيقونة للمسيح، خادم البشرية.
أبونا :
ترأس البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، القداس الإلهي أمام قبر الخلاص في كنيسة القيامة بمدينة القدس، بمناسبة خميس الأسرار بمشاركة لفيف من كهنة الأرض المقدسة. وخلاله تم مباركة الزيوت المقدسة وجُدّدت مواعيد الكهنوت.
وفيما النص الكامل لعظة البطريرك بيتسابالا:
إخوتي الأساقفة والكهنة
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء
سلام الرب معكم جميعًا.
يسرُّني أن أكون معكم اليوم في هذا الاحتفال المقدس. أحيّي كهنةَ أبرشيتِنا، وجميعَ الذين انضموا إلينا في هذا اليوم البالغ الأهمية لنا. الاحتفال بالعشاء الرباني في بداية الثلاثية الفصحية هو لحظة مناسبة للتفكير في بعض العناصر الأساسية التي تكوِّنُنا، كشعبِ الله، وكنيسةِ المسيح.
أوّدُّ أن أتحدَّثَ أولَا عن البعد الأسراري للكنيسة. تقول الوثيقة المجمعية عن الكنيسة “نور الأمم”، من المجمع الفاتيكاني الثاني، إن الكنيسة هي، في المسيح، بطريقة ما “سر”، أي علامة وأداة للاتحاد الوثيق مع الله ولوحدة الجنس البشري بأسره (LG 1). بعبارة أخرى، عهد المسيح إلى الكنيسة بمهمة تقديس جميع الناس والسير بهم إلى الخلاص.
احتفالنا هذا الصباح ليس فقط ذكرى للعشاء الأخير، وللكهنوت الأسراري، ولكنه يشير أيضًا إلى الكهنوت العام الذي تمنحه المعمودية. تذكرنا بركة الزيوت المقدسة بالبعد الأسراري للكنيسة. فهي ترافقنا، من المهد إلى اللحد، برسالتها التي تقدِّسُنا، لكي ننال الخلاص من خلال الأسرار، أدوات النعمة. وإذ نحمل الزيوت المقدسة إلى رعايانا، فإننا نواصل رسالة يسوع المسيح، النبي والكاهن والملك، للمساعدة في بناء الكنيسة، بالكلمة والأسرار وخدمة المحبة للجميع.
أدعوكم جميعًا لتذكروا هذا البعد البالغ الأهمية في حياتنا المسيحية: الأسرار ليست نوعًا من الصيغة السحرية للتقديس، بل هي بالأحرى علامة على قوة المسيح الشافية، والتي يجب أن تمر أيضًا من خلال إعلان الكلمة وشهادة الحياة. أرجو أن تنمو كنيستنا المحلية في هذا الوعي، حتى تصل الكلمة إلى جميع مستويات مجتمعنا، إلى أبنائنا وشبابنا، وإلى المتزوجين والعائلات، وأفراد المجتمع المسنين والمرضى. أرجو أن يبدأ رعاتنا، وأنا أولهم، فيكونوا شهوداً أحياء ذوي مصداقية لاتحادنا بالمسيح! وبهذه الطريقة ستصبح الأسرار حقًا لحظة لقاء مع المسيح، ومناسبة للتقديس والشفاء الروحي.
الموضوع الثاني الذي يجمعنا هنا اليوم يتعلق بكهنوتنا الأسراري، وبالتالي بدعوتنا كخدام لسر الإفخارستيا، التي أسَّسها المسيح في مساء هذا اليوم، الذي فيه خانه أحد رسله. لهذا السبب أود أن أوجه جزءًا من عظتي إلى إخوتي الكهنة الحاضرين هنا.
أيها الإخوة الأعزاء، نريد خلال هذا الاحتفال أن نجدد مواعيد كهنوتنا. ونقوم بهذا علنًا أمام شعب الله، فنحن لا نجدِّد ُبعضَ الوعودِ الخاصة بنا، أو ككهنة مجتمعين حول أسقفِهم الأبرشي. هذا البُعدُ العلني والكنسي لمواعيد كهنوتنا له أهمية بالغة. أنا أيضا، بصفتي أسقفًا، أفكر في مهمتي كراع لشعب الله في هذه الكنيسة المحلية، متحدًا معكم أنتم الكهنة، أولِ المعاونين لي في خدمتي، أفكر أنه لا يمكنني أن أنسى أننا جميعًا نتصرف أمام شعب الله الذي أُوكِلَتْ إلينا رعايته.
ولهذا فإن رتبة تجديد مواعيد كهنوتنا يتضمن أيضًا دعوة موجَّهة إلى شعب الله، للصلاة من أجل الأسقف والكهنة. فنحن أيضًا نحتاج إلى سنَدٍ في خدمتنا، ويجب أن نكون متواضعين بما يكفي للسماح لأنفسنا بمواجهة مؤمنينا، الذين لديهم الحق في أن يرَوْا فينا شهودًا أقوياء للإنجيل وعلاماتِ حياةٍ صادقة تشهد لنفسها، فلا تكون فقط كلمات فارغة أو مظاهر كاذبة. ككهنة، في الواقع، نحن نهتم بأشياء كثيرة، ونخاطر بفقدان الجوهر الحقيقي لدعوتنا. نحن رعاة للنفوس ونعتقد أننا المخلِّصون، وقد ننسى أننا نحتاج نحن أيضا إلى الخلاص. نعتقد أننا أطباء ومعلمون في المعرفة، ولكن كم مرة تصدمنا حكمة الناس البسطاء!
وهذا يقودنا إلى البعد الثالث والأخير لاحتفال هذا النهار، أي وصية المحبة والخدمة في الكنيسة. نقرأ في ليتورجيا قداس العشاء الرباني إنجيل غسل أرجل الرسل ووصية المحبة. في الحقيقة، موقف يسوع هذا يبيِّنُ المعنى الحقيقي للإفخارستيا، فهي سر الخدمة والمحبّة، في طاعة الآب، حتى الموت على الصليب. يسوع صار خادمًا للبشرية. إنه يخدم بتواضع ومحبة، ويريد من تلاميذه أن يقتدوا به.
ما يجذب انتباهنا في هذا المقطع من إنجيل يوحنا هو بلا شك الحوار الذي دار بين يسوع وبطرس. في مواجهة تواضع السيد، الذي ينحني ليغسل أقدام التلاميذ، لا يمكن لبطرس إلا أن يرفض هذا الانحناء، ولا يمكنه السماح لسيده بأن يتواضع أمامه بهذه الصورة. وهنا بالذات أكد له يسوع أنه إن رفض هذا التنازل من قبل سيده، لن يكون للرسول الصياد مكان في الملكوت. خيانة بطرس في ما بعد لن تكون مانعًا دون مشاركته في الملكوت، أما رفضه أن يغسل يسوع قدميه، فهذا عائق دون الملكوت. أن نسمح بأن يغسل يسوع أقدامنا يعني أن نقبل إلهًا يخدم، وأن نواجه العالم من غير خوف، ولا نهتم لحكم الآخرين، يعني أن نسمح لأنفسنا بأن نُحَبّ، بأن نكون محبوبين لدى الله.
في هذا العشاء الأخير، عرف يسوع ضعف ومحدودية تلاميذه، وهو يعرف فقرنا نحن الكهنة، نحن المكمِّلين لمبادرة حبه. وهذه المعرفة لا توقف محبة يسوع لنا. نحن أيضًا، في بعض الأحيان، مثل التلاميذ ومثل بطرس، يبدو أننا نرفض نعمة الله، ولا نقبل أن ندع يسوع يغسل أقدامنا. ولكن يمكن أن نكون أكيدين من شيء واحد، وهو أن يسوع يستمر في خياره ويجازف ويختارنا نحن الخطأة، الذين نرفض، في بعض الأحيان، النعمة التي تتدفق بين أيدينا. يسوع أمين لاختياراته، ويدعونا، بدافع حبه لنا، يومًا بعد يوم، إلى تجديد إرادتنا في أن نكون له.
يسوع لا يخاف من خطيئتنا، تمامًا كما أنه لم يخَفْ من خيانة بطرس، وكما أنه لا يزال غير خائف حتى اليوم من أن نَلمَسَه ونقبَلَه بين أيدينا. ما يمكن حقًا أن يُوقِفَ عملَ يسوع فينا هو جفافُ قلوبنا الضعيفة، والتعب الذي نتعامل به أحيانًا مع الإفخارستيا.
اليوم، بتجديد مواعيد كهنوتنا، نجدد رغبتنا في أن نعيش كهنوتنا بصورة كاملة، وأن ننفض عنا الغبار الذي تراكم على أقدامنا عامًا بعد عام، وقد يكون أننا سئمنا السير في دروب مليئة بالفرح والمشاعر الحية، ولكن أيضًا بسوء الفهم والفقر. يجب أن ننفض الغبار الذي أرهق قلوبنا، وأبعدنا عن قلب المسيح. اليوم، كما في ما مضى، يسوع مستعد ليغسل أقدامنا، وليغفر خطايانا وخياناتنا وفقرنا. إنه يدعونا إلى تجديد أنفسنا من خلال سر المصالحة، وهو يكرر لنا نفس الكلمات التي قالها لبطرس: “إذا لم تغتسل، فلن يكون لك نصيب معي”.
أشكر الله، لكل الذين يشهدون في كنيستنا المحلية بخدمتهم المتواضعة والمتفانية. أرجو أن نتعلم من هؤلاء الإخوة ألا نخاف من أن نصبح ضعفاء، لكي نلتقي بمن هم ضعفاء وعُزَّلٌ في مواجهة المعاناة الإنسانية. نرجو أن نكون قادرين على غسل أقدامهم والتغلب على أنانيتنا. بهذه الطريقة نصبح حقًا أيقونة للمسيح، خادم البشرية.
غالبًا ما تكون الخدمة الحقيقية مخفية، ولا يلاحظها أحد من قبل وسائل الإعلام الجماهيرية أو منصات التواصل الاجتماعي. إنها ثمرة العطاء وبذل الذات الكامل من أجل الآخرين. ولكن للقيام بذلك، يجب أن ندع المسيح يخدمنا ويغسل أقدامنا. إذا قاومنا، كما فعل بطرس في البداية، فلن نتمكن أبدًا من أن نفهم ما معنى أن نكون تلاميذ.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، ليكن هذا الخميس المقدس لنا جميعًا، مؤمنين وإكليروس، دعوة لبناء كنيسة المسيح كجماعة محبة، وحتى “نبلغُ ملءَ المحبّةِ والحياة”، كما صلينا في بداية هذا الاحتفال (في صلاة الجماعة)، في مجدِ صليبِ ربِّنا يسوع المسيح، مخلِّصِنا ومحرِّرِنا من الموت والخطيئة. (ر. غلاطية ٦: ١٤). آمين.