التأمّل حول ميزة جوهريّة للعائلة وهي دعوتها الطبيعيّة لتربية الأبناء
أجرى قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الأربعاء مقابلته العامة مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس واستهل تعليمه الأسبوعي بالقول: أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أريد اليوم أن أرحّب بكم لأنّني رأيت بينكم العديد من العائلات، صباح الخير لجميع العائلات! نتابع اليوم التأمّل حول العائلة ونتوقّف للتأمّل حول ميزة جوهريّة للعائلة وهي دعوتها الطبيعيّة لتربية الأبناء لكي ينموا في تحمُّل المسؤوليّة عن أنفسهم وعن الآخرين. إنّ النص الذي سمعناه، في البداية، من القدّيس بولس الرسول هو نصّ جميل جدًّا: “أيُّها البَنون، أَطيعوا والِدِيكم في كُلِّ شيَء، فذاك ما يُرضِي الرَّبّ. أَيُّها الآباء، لا تُغيظوا أَبناءَكم لِئَلاَّ تَضعُفَ عَزيمَتُهم”. إنها قاعدة حكيمة: فالابن يُربّى على الإصغاء إلى الوالدين وطاعة الوالدين الذين لا يحاولون السيطرة بأسلوب سيّئ لكي لا يُضعفوا عزيمة الأبناء. على الأبناء أن ينموا بدون إحباط، خطوة بعد خطوة. إن قلتم في العائلة، أنتم الوالدين للأبناء: “لنصعد هذه الدرجة” وتأخذونهم بيدهم وتصعدونهم ستسير الأمور عندها بشكل جيّد. ولكنّ إن قلتم لهم “هيا تقدموا!” وأصرّيتم عليهم بالرغم من عدم قدرتهم على فعل ما تطلبون فهذا يسمّى إغاظة الأبناء ومطالبتهم بأمور لا يمكنهم فعلها. ولذلك ينبغي للعلاقة بين الوالدين والأبناء أن تكون حكيمة ومتوازنة جدًا. أيُّها البَنون، أَطيعوا والِدِيكم فذاك ما يُرضِي الله، وأنتم أيّها الوالدين لا تُغيظوا أَبناءَكم طالبين منهم ما ليس بإمكانهم فعله. هل تفهمون؟ وهذا الأمر يجعل الأبناء ينمون في تحمُّل المسؤوليّة عن أنفسهم وعن الآخرين.
تابع الأب الأقدس يقول: قد تبدو هذه الملاحظة أمرًا واضحًا ولكنّ الصعوبات موجودة في زمننا أيضًا. فالتربية صعبة بالنسبة للوالدين الذين يرون الأبناء في المساء فقط عندما يعودون إلى البيت تعبين من العمل، أولئك المحظوظون الذين لديهم عملاً! ولكنّها تكون أكثر صعوبة أيضًا بالنسبة للوالدين المنفصلين الرازحين تحت ثقل وضعهم هذا. في هذه الحالة تكون التربية صعبة جدًّا، ينفصل الوالدين ويصبح الإبن غالبًا رهينة فالأب يحدّثه بالسوء عن الأمّ، والأمّ بدورها تحدّثه بالسوء عن الأب وهذا الأمر مؤذٍ جدًّا. لكنّني أقول لكم أنتم الأزواج المنفصلين لا تأخذوا الإبن أبدًا رهينة لكم! لقد انفصلتم بسبب صعوبات وأسباب كثيرة. لقد أمتحنتكم الحياة بهذه التجربة ولكنّ لا ينبغي على الأبناء أن يحملوا ثقل هذا الإنفصال، كما وأنّه لا ينبغي للأبناء أن يستعملوا كرهائن ضد الشريك الآخر، وإنّما يجب أن ينموا في جوّ يسمعون فيه الأمّ تتحدّث جيدًا عن الأب، والأب يتحدّث جيّدًا عن الأمّ بالرغم من انفصالهما. وهذا الأمر مهمّ جدًّا بالنسبة للأزواج المنفصلين وبإمكانكم تحقيقه بالرغم من صعوبته.
ولكن، أضاف الحبر الأعظم يقول، وبشكل خاص، يأتي السؤال: كيف نربّي؟ ما هو التقليد الذي نملكه اليوم لننقله لأبنائنا؟ مفكّرون “ناقدون” على أنواعهم أسكتوا الوالدين بشتّى الوسائل للدفاع عن الأجيال الشابة من الأضرار – الواقعيّة أو المفترضة – للتربية العائليّة. فالعائلة قد اتُهمت أيضًا، بالتسلُّط والتميّيز والتجانس والكبت العاطفيّ الذي يولّد النزاعات. في الواقع، فُتحت فجوة بين العائلة والمجتمع، وبين العائلة والمدرسة؛ وهكذا دخل العهد التربويّ بين المجتمع والعائلة في أزمة لأنّه تمّ القضاء على الثقة المتبادلة، والعوارض كثيرة، ففي المدرسة، على سبيل المثال، قد تأثّرت العلاقات بين الوالدين والمعلّمين. ونجد أحيانًا توترات وعدم ثقة متبادلة؛ ومن الطبيعيّ أن تقع التبعات على الأبناء. من جهة أخرى، تزايد عدد ما يُسمّى بالـ “خبراء” والذين أخذوا دور الوالدين حتى في جوانب التربية الأكثر حميميّة. فهؤلاء الخبراء يعرفون كلّ شيء حول الحياة العاطفيّة، حول الشخصيّة والنموّ، حول الحقوق والواجبات، يعرفون الأهداف والدوافع والأساليب؛ وعلى الوالدين أن يصغوا إليهم فقط ويتعلّموا ويتأقلموا. وإذ يُحرمون من دورهم يُصبحون غالبًا مُثقّلين ومتملكين بشكل مفرط تجاه أبنائهم، لدرجة عدم معاقبتهم إطلاقًا: “لكن لا يمكنك أن تُعاقب ابنك”. فيميلون إلى تسليمهم أكثر فأكثر إلى “الخبراء”، حتى في الجوانب الأكثر حساسيّة وشخصيّة من حياتهم، فيعزلون أنفسهم بأنفسهم؛ وهكذا يواجه الوالدون اليوم خطر إبعاد أنفسهم عن حياة أبنائهم. وهذا الأمر خطير جدًّا!
تابع البابا فرنسيس يقول: لنفكّر اليوم أنّ هناك حالات عديدة من هذا النوع. لا أقول إنّه أمر يحصل دائمًا ولكنّ هناك حالات من هذا النوع. فعلى سبيل المثال توبّخ المعلّمة الطفل في المدرسة وترسل مذكرة لوالديه – وفي هذا الإطار أذكر أمرًا طريفًا حصل معي، عندما كنت في الصفّ الرابع إبتدائيّ، تلفظّت بكلمة سيّئة في الصفّ، فقامت المعلّمة، والتي كانت سيّدة صالحة، باستدعاء أمّي. فجاءت أمّي في اليوم التالي، وتحدّثت مع المعلّمة وأرسلتا بطلبي وعندما دخلتُ، شرحت لي أمّي، بعذوبة ولطف، أمام المعلمة سوء التصرف الذي قمت به وبأنّه أمر لا ينبغي فعله بتاتًا وطلبت مني أن أعتذر من المعلّمة أمامها. فاعتذرتُ وفَرحتُ بأنّ القصّة انتهت بسلام. ولكن كان هذا الفصل الأوّل فقط من الحكاية! لأنّه عندما عُدتُ إلى البيت بدأ الفصل الثاني وبإمكانكم أن تتصوّروا ما كان عليه! أما اليوم، فإذا قامت المعلّمة بأمر مماثل فسيأتي الوالدين في اليوم التالي لتوبيخها لأنّ الخبراء يقولون بأنّه لا ينبغي توبيخ الأطفال هكذا. لقد تغيّرت الأمور نعم! ولكن لا ينبغي للوالدين أن يبعدوا أنفسهم عن تربية أبنائهم.
أضاف الأب الأقدس يقول: من الواضح أنّ هذا التصميم ليس جيّدًا: فهو غير متناغم وغير تحاوريّ وبدل من أن يعزّز التعاون بين العائلة والمدارس والعديد المؤسّسات التربويّة الأخرى فهو يضعها في مواجهة فيما بينها. كيف وصلنا إلى هنا؟ ممّا لا شك فيه أنّ الوالدين، أو بالأحرى بعض النماذج التربويّة من الماضي كانت محدودة، وهذا الأمر لا يخلو من الشكّ. إنّه لصحيح أيضا أنّ هناك أخطاء يحقّ للوالدين وحدهم أن يرتكبوها، لأنّهم قادرون على التعويض عنها بشكل يعجز عنه أيّ شخص آخر. من جهة أخرى، نعلم جيدًا أنّ الحياة باتت تبخل علينا بالوقت اللازم للكلام والتفكير والحوار. العديد من الوالدين – إذ ينبغي على الأب والأمّ أن يعملا – هم “رهائن” العمل وانشغالات أخرى، تُحرجهم المتطلّبات الجديدة للبنين وتعقيدات الحياة العصريّة، – هكذا هي الأمور، ينبغي علينا أن نقبلها – ويشلّهم الخوف من ارتكاب الأخطاء. بيد أنّ المشكلة لا تتعلّق فقط بالكلام. بل إنّ التحاور السطحيّ لا يؤدي إلى تلاقٍ حقيقيّ للعقل والقلب. فلنسأل أنفسنا بالحريّ: هل نسعى إلى فهم أين يوجد فعلاً الأبناء في مسيرتهم؟ أين يوجد فكرهم فعلا، هل نعرف ذلك؟ وقبل كل شيء: هل نريد أن نعرف؟ أنحن واثقون بأنّهم لا يتوقّعون شيئا آخر في الواقع؟
تابع البابا فرنسيس يقول إن الجماعات المسيحيّة مدعوة إلى مؤازرة الرسالة التربويّة للعائلات، وتفعل ذلك قبل كلّ شيء من خلال نور كلمة الله. بولس الرسول يذكّر بتبادليّة الواجبات بين الوالدين والبنين: “أَيُّها البَنون، أَطيعوا والِدِيكم في كُلِّ شيَء، فذاك ما يُرضِي الرَّبّ. أَيُّها الآباء، لا تُغيظوا أَبناءَكم لِئَلاَّ تَضعُفَ عَزيمَتُهم” (كولوسي 3، 20 ـ 21). ركيزة كلّ شيء هي المحبّة التي يهبنا إياها الله، التي “لا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف ولا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها، ولا تَحنَقُ ولا تُبالي بِالسُّوء … وهي تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء” (1 كورنتوس 13، 5 ـ 6). حتى في أفضل العائلات على الأفراد أن يحتملوا بعضهم، وهذا يحتاج إلى كمّ هائل من الصبر! الكثير من الصبر من أجل احتمال بعضنا البعض. لكنّ هذه هي الحياة! والحياة لا تُصنع في المختبر بل تُعاش في الواقع، ويسوع نفسه اختبر التربية العائليّة. في هذه الحالة أيضًا، تؤدّي نعمة محبّة المسيح إلى إتمام ما خُطّ في الطبيعة البشريّة. كم لدينا من أمثلة رائعة عن والدين مسيحيّين مفعمين بالحكمة البشريّة! يُظهر هؤلاء أنّ التربية العائليّة الصالحة هي العامود الفقريّ للـ”إنسانوية”. إنّ إشعاعها الاجتماعي هو المورد الذي يسمح بالتعويض عن الشوائب والجراح والفراغات في الأبوّة والأمومة التي يعاني منها الأبناء الأقل حظًّا. هذا الإشعاع قادر على صنع معجزات حقيقيّة. وتحصل هذه المعجزات يوميّا في الكنيسة!
وختم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي بالقول: أتمنّى أن يهب الربّ العائلات المسيحيّة ما يلزم من إيمان وحريّة وشجاعة من أجل القيام برسالتها. وإذا وجدت التربية العائليّة فخر اضطلاعها بدور رياديّ تتبدّل أمور كثيرة نحو الأفضل بالنسبة للوالدين المرتابين والأبناء الخائبين. لقد آن الأوان كي يعود الآباء والأمّهات من منفاهم – لأنهم نفوا أنفسهم من تربية الأبناء – فليعودوا من منفاهم ويقوموا بدورهم التربويّ على أكمل وجه.
الفاتيكان