الرسالة البطريركية بمناسبة عيد الميلاد المجيد
بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين
من البطريرك إبراهيم اسحق
بنعمة الله، بطريرك الإسكندرية وسائر الكرازة المرقسيّة للأقباط الكاثوليك، إلى إخوتنا المطارنة والأساقفة، إلى أبنائنا الأعزّاء القمامصة والقسوس، الرهبان والراهبات والشمامسة، وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطيّة الكاثوليكيّة في مصر وبلاد المهجر.
النعمة والبركة والسلام في المسيح ملك السلام
”المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة” ( لوقا 2 : 14 )
مقدَّمة
ما الذي يحتاج إليه الإنسان والأسرة البشرية، حاجة ماسة وملحّة ومتصلة؟ إنها الحاجة إلى السلام، فهو هبة من الله لكل إنسان نقي القلب وهو الدليل الأكيد على حضوره في قلب الإنسان.
السلام هبة الله وعمل البشر ” طوبى لصانعي السلام فانهم أبناء الله يدعون” (متى5: 9)، هو عطش روحي دائم بدونه لا تستقيم حياة الإنسان، وهو غاية الحياة وسبيلها إلى الارتقاء والتنمية ، فلا حضارة ولا أمن ولا استقرار دون سلام حقيقي.
أولاً: السلام مهدّد من اللامبالاة
اللامبالاة هي موقف من يُغلق قلبه حتى لا يضع الآخرين في عين الاعتبار، ويغلق عينيه حتى لا يرى ما يحيط به فلا تلمسه مشاكل الآخرين. وللأسف في عصرنا تخطي هذا الموقف الاطار الفردي ليأخذ بعداً عالمياً.
إنَّ أول مظاهر اللامبالاة هى تجاه الله، والتى منها تنبع اللامبالاة تجاه القريب والخليقة. يمر عالمنا المعاصر بموجات تحاول ان تطفئ نور الله في أعماق الإنسان، فهناك دعوة إلى الحياة من أجل الحياة فقط, فلا دينونة ولا مكافأة للصالحين، إذ يعتقد الإنسان أنه صانعٌ ذاتَه وحياتَه والمجتمعَ، وبالتالي بأنه مكتف ولا يدين لأحد بشئ إلا لنفسه، ويدّعى أنه يملك حقوقاً فقط, وهناك من لا يرى في الإنسان إلا حزمة غرائز تنهش وجدانه وتزلزل كيانه، ناسياً أنه مخلوق على صورة الله ومثاله، خلقه الله عن محبة وأحبه لذاته ومصيره اليه.
أمَّا اللامبالاة تجاه القريب فلها وجوه متعددة, هناك من هو مطلع بشكل جيد، يستمع ويقرأ ويشاهد البرامج, لكنه يقوم بذلك بطريقة فاترة، وكأنه في حالة ادمان؛ بمعنى أنه يعرف ما يصيب البشر من مآسي, ولكنه لا يشعر بها، ويبقى نظره وعمله موجهين الى نفسه فقط. إن نمو المعرفة والمعلومات في زمننا لا يعنى بحد ذاته الاهتمام بالمشاكل، ما لم يرافقه انفتاح الضمير, أي أن يتحول الى تضامن حقيقيّ.
وجه آخر من اللامبالاة من يفضل عدم البحث وعدم الاستعلام, عائشاً فى رفاهيته وراحته غير مبال لصرخة ألم البشرية المعذبة، كما لو كان كل شئ هو مسؤولية غريبة ليست من اختصاصه.كيف يمكن للإنسانيّة أن تمتلك سلامًا حقيقيًّا, وغالبية البشر في فقر وألم وعوز, وربما في جهل. يقول الوحي:” العدل والسلام تلاثما” (مز 85 : 10) فلا سلام دون حياة صالحة, ولا حياة صالحة بارة دون تضامن حقيقيّ.
أما اللامبالاة تجاه الطبيعة، فإن تلوث الماء والهواء والاستغلال العشوائي للخيرات ودمار البيئة هي غالبا ثمرة لا مبالاة الإنسان تجاه الآخرين. فكل شئ مرتبط ببعضه البعض.
هناك ارتباط وثيق بين تمجيد الله وسلام البشر على الأرض, لان اللامبالاة تجاه الله والقريب تسبب انغلاقاً وتهرباً من الالتزام، وبالتالي غياب السلام مع الله والقريب والخليقة.
ثانياً: طوبي لصانعي السلام فانهم ابناء الله يدعون ( متى 5: 9)
إنَّ قيم الحرّيّة والاحترام المتبادل والتضامن، يمكن نقلها منذ سنوات الطفولة الأولى” فان كل بيئة تربوية يمكن أن تكون مكاناً للحوار والإصغاء، يشعر فيه الشباب بقيمة قدراته وغناه الداخلي، يتعلم كيف يتذوق الفرح النابع من العيش اليومي للمحبة للقريب، ومن المشاركة في بناء مجتمع أكثر إنسانية وأخوة”()
تشّكل العائلة المكان الأول لزرع ثقافة السلام والتضامن؛ حيث تعاش وتنقل قيم المحبة والأخوة والتعايش والاهتمام بالآخر.إن العائلة كما يشير سينودس العائلة وسينودس الشباب هي البيئة المميزة لنقل الإيمان، بداية من أولى بودار التقوى البسيطة التى تعلمها الأمهات لأبنائهن.
يتعلق الأمر بعد ذلك بالمربين والمكونين فى المدارس ومراكز التجمعات للأطفال والشباب، وعلى هؤلاء أن يدركوا أنّ مسؤوليتهم تتعلق بالأبعاد الروحية والخلقية والاجتماعية للشخص.
أما العاملون في الحقل الثقافي والإعلامي ووسائل الاتصالات الاجتماعية، فإن مسؤوليتهم كبيرة فى مجال التربية والتنشئة نظرًا إلى اتساع إمكانية الدخول الى هذه الوسائل.ويقوم واجبهم فى أن يضعوا أنفسهم في خدمة الحقيقة لا المصالح الخاصة، فالتربية تؤثّر إيجابا أو سلبّا على تنشئة الأجيال كلها.
ثالثًا: المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السّلام وفي الناس الفرح والمسرة (لوقا 14:2)
“لا تضطرب قلوبكم ولا تجزع, سلامي أعطيكم, ليس كما يعطي العالم اعطيكم…” (يوحنَّا 27:14) هذه كلمات السيد المسيح إلى تلاميذه؛ وكذلك بعد القيامة بادرهم بقوله “السلام لكم” في كل مرة يظهر لهم (يوحنَّا 20 :19-21). وفي بشارته لمريم بادرها الملاك بقوله “السلام لك يا مريم” وبالتالي إفرحي يا مريم لأن السلام يولد الفرح, كما يقول القديس اغسطينوس :”لا توجد كلمة تبعث فينا السرور وتهزنا من الأعماق عند سماعها أكثر من كلمة السلام “()
والقديس بولس في أغلب رسائله يبدأها “النعمة و السلام من الله الآب ومن ربنا يسوع المسيح” (1كورنثوس 3:1؛ غلاطية3:1 )”فسلام الله يفوق كل عقل “(فيلبي 7:4).
ولكنّ السلام مسيرة حياة, تبدأ من قلب الإنسان التائب عندما يكتشف المتناقضات في داخله؛ بين الرغبة في النمو الذاتي والغيرة من الآخرين، بين فهم الوداعة والاعتقاد بأهمية القوة والسلطة، يبدأ السلام عندما يعترف الأنسان بوجود عدم قبول لبعض الاشخاص لإختلافهم عنه, وعندما يكتشف مشاعر عنف تجاههم ورغبة في رد الضربة بأشّد منها، خاصة تجاه مَن أساءوا إليه وجرحوه .
إنّ طريق السلام يبدأ حين يقبل الإنسان ذاته ويثق أنّ الله يحبه كما هو, ويدعوه إلي التصالح مع غضبه وتاريخه وصعوباته, وإلي خلق جسور تفاهم وتقابل بين الناس فلا يتحول الاختلاف الى صراع ونزاع, ولا يصبح العنف .