الرعاية والبُعد الروحي للخدمة الاجتماعية / الأب/ أنطونيوس فايز
الرعاية والبُعد الروحي للخدمة الاجتماعية / الأب/ أنطونيوس فايز
أولت الكنيسة اهتماماً كبيراً للخدمة الاجتماعية، فهي تهتم بالتنمية الصحيحة للإنسان والمجتمع، حتى يتحقق احترام الفرد البشري ورقيه في جميع مجالات الحياة[1]. لذلك تسعى الكنيسة جاهدة إلى أن تقود الناس “كمربية للشعوب” ولبس فقط “ملهمة الشعوب” إلى تلبية ما دعاهم الله إليه من تحمل مسؤولية بناء المجتمع الأرضي استناداً إلى معطيات الفكر والعلوم الإنسانية.
نتناول في هذا الموضوع ثلاثة نقاط:
الأولى: المفهوم اللاهوتي والروحي للرعاية&الثانية: الأبعاد اللاهوتية لرسالة الكنيسة
الثالثة: المفهوم اللاهوتي الروحي للتنمية أو الخدمة الاجتماعية
أولاً: المفهوم اللاهوتي- الروحي للرعاية
انطلاقا من الوحي أعرض بإيجاز خبرة اكتشاف الله كراعٍ.
أ- إله الفصح:
إله حي يعتني: “فقال له الرب: نظرت إلى معاناة شعبي الذين في مصر، وسمعت صراخهم، فنزلت لأنقذهم” (خر 3/7-8أ).ما الذي يمكن أن نفهمه من هذا النص؟ وكيف اختبره الشعب الإسرائيلي والأنبياء فيما يخص طبيعة وحضور هذا الإله؟ بإيجاز شديد يمكن القول “إن الشعب الإسرائيلي عامة والأنبياء خاصة، عرفوا اله كراع: الإله المعتني، المملوء شغفاً وحباً لقطيعه “Pathos”، أي عرفوه واختبروه أولاً في فعاله، في اقتحامه لحياتهم، وشفقته ورعايته للإنسان قبل أن يعرفوه في كيانه الذاتي.هذا الإله الحي الذي يعبّر عن وجوده وحياته من خلال عنايته ورعايته وحبه الشديد للإنسان، إنه الإله المغرم والمحب دائماً للإنسان.
لذلك نجد أنفسنا أمام إله يعبّر عن ذاته قائلاً: “نظرت… سمعت… نزلت…” ثلاث أفعال تُعبّر عن المعرفة القائمة على المعايشة والدخول في حياة الآخر.بناء على ذلك يمكننا القول على لسان الرب “أنا أعرفهم بمعنى أنا في داخلهم، أحيا معهم هذه الخبرة كأنها خبرتي.هذا هو إله العهد- إله الخروج والفصح أيضاً. إله يشارك الشعب حياته، يتضامن معهم دائماً، يسهر عليهم.
هذه هي مسيرة الخلاص ذا هو مفهوم التعبير “عمانوئيل” الذي تفسيره الله معنا ليس كمتفرج بل مشارك لنا في جميع أوجه حياتنا.تلك هي الخبرة الأولى التي اكتشف فيها الشعب وجه الله الحقيقي، كراعٍ محبٍ ومعتنٍ وقريب من الإنسان جداً.
ب- موقف الإنسان:
أمام هذا التيار الفيّاض من الحب المجاني، اكتشف الشعب الإسرائيلي ووعى ذاته كجماعة، أي كموضوع “لحب الله”، إنه حب الله الذي يوحّده. ويفجر في داخله الوعي بكونه جماعة ذات خاصية أساسية هي أنها موضوع حب الله وعنايته.من هنا اختبر الشعب الإسرائيلي كيانه كجماعة فالحب الرعائي يخلق الإحساس بالجماعة والانتماء والتضامن مع الآخر، إنه الحب الخلاّق. حب يجمع ولا يفرّق سواء على مستوى الإنسان كفرد أم على مستوى التفاعل بين الجماعة ككل. إنها خبرة “الشعب المحبوب من الله” ونحن ككنيسة كمن نحتاج اليوم أن نعيش هذه الخبرة العميقة في مجتمعنا المصري.”نزلت لأنقذهم” هنا يُعبّر عن طبيعة هذه الشركة العجيبة بين الله والإنسان، إنها شركة لا تنفصم، وقد عبّر الوحي الإلهي عن طبيعة هذه العلاقة بصور مختلفة أهمها العلاقة الزواجية “وازرع شعبي في الأرض وأرحم “لا رحمة” وأقول لـ “لا شعبي” أنت شعبي، وهو يقول لي: أنت إلهي” (راجع هوشع 2/25).
وأيضاً “الذي ما كان شعبي سأدعوه شعبي، والتي ما كانت محبوبتي سأدعوها محبوبتي” (روميه 9/25). هذا هو مفهوم الرعاية الذي نبعه قلب الله المحب الفياض أي كيانه المعطاء دائماً. فكيان اله لا ينفصل عن أفعاله أبداً.
ج- مجالات الرعاية:
لم تقتصر رعاية الله للشعب على جانب محدد، إنما شملت كل الإنسان وكل إنسان بمعنى الاهتمام بكل أبعاد حياة الإنسان فردياً وجماعياً بيد أن الاهتمام بالفرد يقوده لاكتشاف الآخر كموضوع حب الله أيضاً فيدخل في تضامن وانتماء. وثمرة هذه الرعاية هي توجيه الإنسان نحو أخيه الإنسان أي انفتاح وانتماء للجماعة.
والسؤال الآن كيف اختبر الشعب رعاية الله له وفي أية مجالات؟نتناول على سبيل المثال لا الحصر، خبرة موسى رجل الفصح والعبور وخبرة الشعب الإسرائيلي خلال مسيرة الخروج من صحراء سيناء وهذا كله رمز لحياة المسيح- الفصح الحقيقي- وحياة كل مسيحي معمد.دُعي موسى “خادم” أو “عبد”، والنص يقول “وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو على كل بيتي مؤتمن” نلاحظ تعبير “على كل بيتي” (عدد12/7). يتكرر هذا اللقب في (تثنية 34/5) لحظة موت موسى وكأنه مكافأة “لموسى عن كل خدمته، أو هو بمعنى آخر إكليل الخدمة. (راجع أيضاً عب3/5).
لقد وصل موسى إلى كرامة هذا اللقب من خلال مسيرة تضامن مع شعبه في كل ظروف حياتهم اليومية، قاسمهم كل شيء، مقدماً مثالاً نبوياً لصورة الراعي الحقيقي يسوع المسيح الذي سوف يقدم ذاته مأكلاً ومشرباً لشعبه. عبّر الله عن حبه وعنايته بشعبه من خلال موسى، فأصبح بالتدريج آداه حية طيّعة ليقود الله شعبه نحو الخلاص. لقد دعى الله موسى ليعيش ويسير “مع/في” وسط شعبه لدرجة أن موسى صار في النهاية شعباً، كذلك المسيح صار كنيسة وشعباً (راجع رو12/12-31). كيف قاد الله موسى ودربه على الرعاية الحقيقية؟ استخدم الله أسلوباً تربوياً إلهياً تدريجياً نامياً يمكن أن نطلق عليه “التربية الإلهية- Mistagogia”.
خدم موسى شعب الله عبر خمس أنواع من الدياكونية:
أولاً : خدمة الخبز والماء:
“ورحل موسى ببني إسرائيل من البحر الأحمر إلى برية شور. فساروا ثلاثة أيام في البرية ولم يجدوا ماءً. ولما وصلوا إلى مارة وجدوا ماءً مراً، فلم يقدروا أن يشربوه، ولذلك سُميت مارة. فألقى الشعب اللوم على موسى وقالوا: ماذا نشرب؟ فصرخ إلى الرب، فأراه الرب شجرة فلما طرحها في الماء صار عذباً، (خر 15/22-25). أما بالنسبة للطعام (راجع خر 16/1-4)، لم يكن موسى خلال مسيرة الخروج يتصور أن يكون مسؤولاً اقتصادياً للشعب “ماذا نأكل؟” “ماذا نشرب؟”، إلا أنه وجد نفسه داخل هذه المشكلة ويظهر ردّ فعله الذي يشرح لنا المفاجأة أو الحيرة أمام مشكلة من هذا النوع في تعبير “فصرخ إلى الرب”. هكذا ظهر أول احتياج للإنسان الحاجة إلى الخبز والماء كاحتياج أساسي وعناية الرب ورعايته واهتمامه بهذا البُعد.
ثانياً : خدمة المسؤولية:
“وقلت لكم في ذلك الوقت: “لا أقدر أن أتحملكم وحدي لأن الرب إلهكم أكثركم حتى صرتم اليوم بعدد نجوم السماء. زادكم الرب إله آبائكم ألف مرة وبارككم كما قال لكم، فكيف أتحمل وحدي أثقالكم وأعبائكم وخصومكم. هاتوا من أسباطكم رجالاً حكماء عقلاء معروفين، فأصيّرهم رؤساء عليكم” (تث 1/9-13) خدمة المشورة “الشورى” المشاركة في تحمل المسئولية، الاتجاه نحو الآخر والانتماء، المشاركة في المسئولية الثقافية والسياسية والاجتماعية “كيف أتحمل وحدي أثقالكم وأعبائكم وخصوماتكم”.
ثالثاً: خدمة الصلاة والشفاعة :
في مسيرة الخدمة التدريجية تأتي مرحلة أكثر عمقاً وانفتاحاً، فبعد أن خدم خدمة المائدة والمسؤولية وعرف احتياجات شعبه ، أصبح متضامناً وخبيراً بهم تأتي خدمة الصلاة والشفاعة كوسيط بين الله وشعبه ، فمن جهة يحمل الشعب إلى الله ومن جهة أخرى يحمل الله إلى شعبه. “فكان إذا رفع موسى يده ينتصر بنو إسرائيل، وإذا حطّ يده ينتصر العماليق. ولما تعبت يدا موسى، أقعده هارون وحور على حجر وسند يديه، أحدهما من هنا والآخر من هناك، فكانت يدا موسى ثابتتين إلى غروب الشمس. فهزم يشوع بني عماليق بحد السيف” (خر17/11-13). إنه لمشهد رائع يحتاج إلى تعمق أكثر. ولقد كان لموسى في خدمة الشفاعة هذه، دلالة شخصية على الله لدرجة تسمح له باستخدام تعابير مع الله ربما تعتبر بالنسبة لنا تجديفاً فمثلاً عندما أخطأ الشعب وصنعوا عجلاً من ذهب ليعبدوه نجد موسى يقف أمام الرب ويقول : “يارب، خطئ هؤلاء الشعب خطيئة عظيمة وصنعوا لهم آلهة من ذهب .
فإما تغفر خطيئتهم أو تمحوني من كتابك الذي كتبته” (خر32/31-32). لقد عاش موسى خبرة شعبه المريرة هذه متضامناً معه، ليس في الخطيئة، ولكن في تحمل المسئولية والتضرع والشفاعة. وكما يقول بولس الرسول “معبّراً عن خبرة تضامنه مع الشعب اليهودي الذي رفض المسيح “فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد” (روم3:9). وهو هنا يتكلم كراعٍ متضامن مع شعب يحمله في صلاته اليومية أمام الله. هذه هي صلاة الاستشفاع.
رابعاً: خدمة التعزية:
إنها خبرة وخدمة الخروج، عندما اضطرب الشعب وخاف أن يموت في الصحراء “أما قلنا لك في مصر، دعنا نخدم المصريين، فخدمتنا لهم خير من أن نموت في البرية؟ فقال لهم موسى: لا تخافوا. قفوا وانظروا اليوم خلاص الرب. سترون المصريين اليوم ولن تعودوا ترونهم إلى الأبد. الرب يحارب عنكم، وأنتم لا تحركون ساكناً” (خر14/1214) هذا الحدث المعزي يُعبّر عن رجاء وثقة في حضور الرب وسط شعبه ليس بمفهوم: اذهبوا بسلام، كونوا مطمئنين، تشجعوا، بل هي خدمة الإيمان القائمة على المشاركة والتفاعل مع عمل الله الخلاصي. كم نحن في حاجة اليوم في مجتمعنا المصري لأشخاص تثق في عمل الله وقت المحنة وتُقدّم الرجاء وتنشر التفاؤل بين شبابنا.
خامساً: خدمة الكلمة :
إنها الخدمة التي تميز شخصية موسى ، كليم الله، ورجل الكلمة، فالجزء الأعظم من رسالته وخدمته يتمحور في إعلان كلمة الله للشعب. إنه رسالته الأساسية “أسمعه صوته ، وأدخله في السحابة السوداء، وسلمه الوصايا وجهاً لوجه، وهي شريعة الحياة والمعرفة، ليعلّم بني يعقوب أحكام عهده وبني إسرائيل أحكامه” (سيراخ 45/5) ويمكن الإشارة هنا إلى نص الخروج “وصعد موسى إلى الجبل لملاقاة الله فناداه الرب من الجبل وقال له: قل لبيت يعقوب بني إسرائيل…” في هذه اللحظة تبدأ خدمة الكلمة: استلام الشريعة وشرحها: من هذه اللحظة وفيما يلي يحيا موسى فقط لخدمة الكلمة المعطاة له من الله لأجل توصيلها لشعبه .
إن هذا التطور التدريجي لمجالات الخدمة المختلفة التي يحتاجها المجتمع في تلك الظروف ، توجه أيضاً أنظارنا نحن الآن لاكتشاف احتياجات مجتمعنا اليوم مشاركين موسى هذا التعبير “كان مؤتمن على كل بيت الله”. إنه وجود فصحي ووجود رعائي لكل إنسان ولكل إنسان.
د- يسوع المسيح الراعي الحقيقي:
“ما أردت ذبيحة ولا قرباناً، لكنك هيأت لي جسداً،… فقلت ها أنا أجيء يا الله لأعمل بمشيئتك” (عب 10/5-7؛ خر 40/7-9).اختبر يسوع هذا الوجود الفصحي في كل لحظات حياته منفتحاً على الإنسان في كل جوانب حياته. هو الله لأجل البشر- عمانوئيل، مدفوعاً بهذا الحب الرعائي العجيب المجاني. “أتيت لتكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر” “كان يجول القرى والمدن يشفي كل مرض ويعلن ملكوت الله”، جوهر رسالة يسوع إعلان الملكوت، أي تقديم حب الله للبشر (راجع لو4/14-20)، متضامن مع شعبه ويدرك احتياجاته” وما كان معهم شيء يأكلونه، فدعا يسوع تلاميذه وقال لهم: أشفق على هذا الجمع فهم من ثلاثة أيام معي، ولا طعام لهم، وإن صرفتهم إلى بيوتهم صائمين خارت قواهم في الطريق” (مر 8/1-3)
فهو الراعي الصالح الذي يقدم ذاته في سبيل أحباءه (يو10/11). فكان الصليب قمة إعلان وتوصيل حب الله المعتني لشعبه.ثانياً: الأبعاد اللاهوتية لكيان ورسالة الكنيسة. اختبر التلاميذ وجودهم ودعوتهم بأنهم “موضوع حب الله”- كما اختبر ذلك الشعب الإسرائيلي- اكتشفوا كيانهم لكنيسة “جماعة أحبها الله” كجماعة “وأنا متى ارتفعت من هذه الأرض جذبت إليّ جميع الناس” (يو12/32).
الوعي بكيان الكنيسة:
(كيان فصحي- خدمي) إن كان هناك علة لأجلها عاش المسيح هذا الوجود الفصحي فهو اختيار الرسل وتأسيس الكنيسة لكي تحيا هذا الوجود بدورها وتسعى إلى تحقيق هذا الوجود الفصحي.أراد الله أن يستمر ويتواصل حبه الرعائي (الخلاصي) للبشرية، فأراد الكنيسة وزودها بروحه القدوس لتكون جماعة إعلان الملكوت وتحقيق على الأرض “طوبى لك يا سمعان بن يونا… ليس دم ولا لحم كشف لك هذا بل أبي الذي في السماوات… سأبني كنيستي… سأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات” (مت16/17-19)[2]
فالكنيسة هي الآداة الحية لأجل إعلان وتحقيق الملكوت. من هنا نكتشف أن الهدف من وجود الكنيسة ورسالتها الأساسية تتعلق بتحقيق الملكوت (لو22/16-30). فالكنيسة هي خادمة الملكوت على الأرض، هي الوجه المرئي للملكوت غير المرئي، وخاصيتها نكتشفها في الرموز المعلنة في الإنجيل “ملح الأرض، هي الخميرة في العجين…” هكذا أرادها المسيح حينما قال اذهبوا وبشروا العالم… كل ما فعلتموه بأحد هؤلاء الصغار فبي فعلتموه… كنت جائعاً فأطعمتموني… مريضاً فزرتموني، مسجوناً فأتيتم إليّ…”.وعت الكنيسة منذ اللحظة الأولى لتأسيسها بهذا الدور وعاشت منفتحة على كل البشرية واحتياجاتها في نفس الوقت لا تقتصر رسالته على البعد الروحي فقط بل تشمل كل الإنسان كوحدة متكاملة لا تتجزأ.
وعت الكنيسة لما يترتب عليها- وهي الخبيرة في شئون الإنسان- من واجب التأمل في آيات الأزمنة وتفسيرها في ضوء الإنجيل ووعيها العميق أيضاً لرسالة الخدمة وهي تتميز عن وظيفة الدولة، حتى عندما تهتم لمصير الناس في واقعهم، التذكير بالفوارق الصارخة في الأوضاع التي يعيش فيها هؤلاء الناس التأكيد على التعليم المجمعي- وهو الصدى الأمين للتراث الكنسي العريق- في شأن الحق الشامل في استعمال الاحترام الثقافة والحضارة التقنية اللتين تساهمان في تحرير الإنسان، مع التنبه للأفراد بمحدوديتهما، وأخيراً في مسائل النمو التي هي موضوع الرسالة”[3] (راجع أع 6/1-4).
عن مجلة صديق الكاهن /عدد1/1996
———————————
1 راجع رسالة البابا يوحنا بولس الثاني في الاهتمام بالشأن الاجتماعي 1987، والتي تتضمن قائمة بالمراجع البابوية بخصوص هذا الموضوع).
[2] ( راجع أيضاً دستور عقائدي في الكنيسة – المجمع الفاتيكاني الثاني ) .
[3] ( راجع الاهتمام بالشأن الاجتماعي للبابا يوحنا بولس الثاني ص 10 ) .