الطريق الى الفصح – تأمّلات في زمن الصوم
… في بداية الصوم الأربعينيّ (الصوم الكبير) ، أرتأيتُ أن أعرض كتاب ” الطريق إلى الفصح ” للأب هانس كولفنباغ ، وهي رياضة روحيّة ألقيت في الفاتيكان . ويجمع الكتاب 22 عرضا تأمليّا . نقطة الوصل في هذا المؤلّف الزاخر بالروحانيّة الكتابيّة والآبائيّة والليترجيّة العميقة ، هي الحياة المسيحيّة كمسيرة فصحيّة ، يدعمها حضور الربّ القائم ويحييها عمل الروح القدس . والكتاب باعث أساسيّ لتجديد الحياة المسيحيّة تجديدًا روحيّا على صعيد الإيمان والصلاة والإلتزام العمليّ في الكنيسة والعالم الحديث .
التأمّل الأول
شرّعوا الأبواب للتوبة (الأربعين يومًا زمنُ زمنٌ مشبعٌ بالنعمة والمحنة…!)
الكنيسة لديها الدافع كي تتأمّل ، مع الأحد الأوّل من الصوم ، في صفحة الإنجيل التي ترينا الربّ معتزلا في الصحراء . إعتمدَ يسوع فعبّر عن كامل استعداد قلبه البنويّ لإتمام خلاص البشر بحسب مشيئة الربّ ، ثمّ قاده الروح إلى الصحراء حيث مكث ، على ما يكتب القدّيس مرقس ، ” أربعين يومًا يجرّبه الشيطان ” (مر 1 : 13 ) ، وذلك بدل أن يدفعه إلى طرقات فلسطين ليعلنَ منها الملكوت .
في المشرق والمغرب ، أعار آباؤنا في الإيمان انتباههم إلى العدد ” أربعون ” هذا ، والقدّيس أمبروسيوس يلخّص مجمل التقليد فيعظ قائلا : ” إنّك تتذكّر كيف انه في هذا العدد من الأيّام ، غمرت مياه الطوفان الأرض ، وكيف قدّس الصومُ النبيّ إيليّا ، واستحقّ موسى البارّ أن يقبل الشريعة ، وكيف عاش الآباء في الصحراء من خبز الملائكة ” (شرح الإنجيل بحسب بشارة لوقا 4 : 15 ) .
إحتفلَ آباؤنا في الإيمان بالصوم الأربعينيّ ، فأدركوا أنهم كانوا يقومون بعمل من الأعمال التي تظهر خاصيّة ايماننا . فهم يعبّرون عن مجمل رؤيتهم اللاهوتيّة للتاريخ البشريّ في هذه ” الأيّام الأربعين ” ، وهي زمنٌ مشبعٌ بالنعمة والمحنة . فبذلك كانوا يعلنون معارضتهم لتصوّر مأساويّ لا مسيحيّ للتاريخ ، فقد كان يظهر ، إمّــا في شكل تطوّر دائريّ لا متناه ٍ ، وإمـــّا في وجه سياق ٍ حتميّ لعالم لا متحرّك أبدًا ، ترتبط فيه ، على ما يبدو ، كلمة الختام بالموت ، وحيث لا شيء يثبت ولا شيء يُبنى . أمّا المسيحيّ ، في احتفاله بالأربعين يومًا مع الكنيسة ، فهو يعترف بأنّ في التاريـــخ البشريّ أحداثـــــا هي عبارة عن تدخّل حقيقيّ وخاصّ لذراع الله في التـــاريخ ، وهي أحداث تضعُ علامة مميّزة ” مرّة واحدة للأبد ” على عالم البشر . والقدّيس غريغوريوس النيصيّ يلحظُ ذلك قائلا : ” إنّ التاريـــــخ البشريّ يسيرُ من بداية إلى أخرى في المسيح . وبداياته لا نهاية لها أبدًا“.