الطهارة-من مذكرات القديس جون بوسكو
كتب جون بوسكو في مذكّراته: ما أن خلدت إلى النوم في ليلة الرابع عشر من حزيران سنة ١٨٦١, حلمت أنني واقف في منبر الكنيسة, على وشك إعطاء وعظة. كان الأولاد جالسين في أماكنهم المعتادة, يتطلّعون إليّ منتظرين. لم أستطع وقتها تركيز أفكاري ولم يكن لديّ أيّ هاجس أو تصوّر عمّا سأتكلّم.
كان فكري كورقة بيضاء, لا شيء عليها, فارغة تماماً من المواضيع والكلمات. وقفت مذهولاً, لا بل مصعوقاً ومُفزَعاً. لم أجد نفسي في موقف شبيه بهذا منذ سيامتي الكهنوتيّة لسنوات خلت. وفجأة اختفت الجدران وتوارى الأولاد ووجدّت نفسي وسط برّية مترامية الأطراف. “ما هذا ؟” سألت نفسي. كنت في كنيسة على وشك البدء بوعظة, والآن أقف وسط البريّة في هذا السهل الكبير.
قرّرت المسير والمضيّ قدماً لعلّني أقابل شخصاً أعرفه وأستعلم عن هذا المكان. ما أن قطعتُ مسافة قصيرة, حتّى وصلتُ إلى قصر فخم. امتَزَجَت الشُرُفات الجميلة والحدائق الخلابة والمسطحات الواسعة بالقصر وبالطبيعة من حولها. أمّا مقدّمة البناية فكانت مزانة بساحة عامّة. وفي إحدى الزوايا شاهدت كثيراً من الصبية مُلتفّين حول امرأة توزع المحارم أو المناديل لكلّ صبيّ. بعد استلامهم المناديل, انتقل الأولاد إلى التراس واصطفّوا عند حافّته, قريباً من الحاجز. ومع اقترابي سمعت السيّدة تنصح كلّ ولد بعدم فتح المنديل عندما تهبّ الرياح. “لكن إذا فاجأتك الرياح القويّة, أدر وجهك نحو اليمين وليس نحو اليسار مطلقاً”.
فور الإنتهاء من توزيع المناديل, اصطفّ الأولاد في مقدّمة التراس بصمت تام. ثم شاهدت أحد الصبية يفتح منديله المطوي وتلاه صبية آخرين, إلى أن فتح جميع الأولاد مناديلهم. كانت كبيرة الحجم ومطرّزة بإتقان من خيوط من ذهب وبأشكال فتّانة. كل منديل حمل الكتابة المذهّبة التالية: “ملكة الفضائل”.
وفجأة شعرت بنسيم عليل من الشمال مُنهياً مرحلة سكون الهواء التي لازمتني منذ بداية الحلم. بدأ الهواء يشتدّ تدريجيّاً مما اضطرّ بعض الصبية من طوي مناديلهم وتخبأتها, بينما لجأ آخرون إلى تعديل اتجاههم نحو اليمين كما نصحتهم السيّدة. أمّا البعض الآخر فتركوا مناديلهم تخفق وهي معرّضة للرياح الشديدة.
في غضون ذلك تلبّدت السماء بالغيوم السوداء وانتشرت, إلى أن اكتسحت القبّة الزرقاء برُمّـتها. أضاء البرْق الفضاء من حولنا متزامناً مع هدير الرعد المخيف. ثمّ بدأ المطر والبَرَدُ والثلج بالسقوط. ويا للغرابة! إذ أبقى كثير من الصبية مناديلهم ترفرف وهي معرّضة للعاصفة.
سحقت الأعاصير المناديل الناعمة بدون رحمة, إلى أن أضحوا متآكلين بالثقوب ومُمَزّعِين, لدرجة يصعب التعرّف عليها.
ذُهِلت لما شاهدت من أحداث تجري أمامي, غير قادر على تفسيرها. لكنّ الصدمة الكبرى ما زالت بانتظاري. عندما اقتربت من الأولاد لأتفحّص الأمر, اكتشفت أنّني أعرفهم جميعاً. فَهُم طلابي من المدرسة! سارعت إلى أحد الأولاد لأسأله: “ألست فلان ؟ ماذا تفعل هنا ؟” ثمّ اتجهت نحو السيّدة سائلاً إياها: “ما معنى هذا ؟”
فأجابت: “ألم تلاحظ النقش الذي يزيّن المناديل وما يحتويه من كلمات ؟”
“بالطبع لاحظت النقوش أيتها السيّدة. فهي مذهّبة بالكلمات: ” ملكة الفضائل “.
“هل أدركت ماذا حدث ؟”.
“بكل تأكيد!”.
عرّض كافة الأولاد طهارتهم لرياح التجربة. بعضهم انتبهوا للخطر المُحدق وهربوا. هؤلاء هم الذين خبّأوا مناديلهم. وبعضهم الآخر أُخِذوا على غفلة واستداروا نحو اليمين, لعدم قدرتهم على طوي محارمهم في الوقت المناسب.
هؤلاء هم الصبية الذين يلجأون فوراً للصلاة عند الإحساس بالخطر ويديرون ظهورهم للعدوّ. أمّا البعض الآخر أبقوا مناديلهم مُعرّضة لإغراءآت التجربة ووقعوا في الخطيئة.
أحزنني هذا المشهد, لقلّة عدد الأولاد الذين حافظوا على طهارتهم, فتغرغرت عيوني بالدموع! بعد أن تمالكت نفسي ثانية, سألت أحد الرجال الذين قدِموا مع السيّدة: “لماذا أتلف المطر والثلج المناديل ؟ أليست هذه رموز للخطايا العرضيّة ؟”
فأجاب: “ألا تعلم أنّه عندما تتعرّض الطهارة لضربات الشيطان تؤدّي للهلاك ؟ لا مجال للخطايا العرضيّة عندما توضع الطهارة على المحَكّ, فهي خطايا مميتة.
على كلّ حال, لا تستسلم للإكتئاب. تعال وانظر”.
انتقلَ إلى الشُرفة وصرخَ على الأولاد مشيراً بيده: “أديروا وجوهكم إلى اليمين!” لبّت النسبة الكبرى منهم الأمر. وبقي القليل غير آبهين. فتمزّقت مناديلهم إلى قطع صغيرة. كما لاحظتُ أن مناديل الذين استداروا نحو اليمين قد تقلّصت وأصبحت ممتلئة بالرّقع. اختفت الثقوب من كثرة الرُّقع, واختفى أيضاً جمال المناديل الفتّان لتصبح بدون شكل.
“هؤلاء الأولاد” أفادت السيّدة “وقعوا بفخ التجربة وخسروا طهارتهم, ولكنّهم استعادوا نعمة الله بالتقرّب إلى سرّ الإعتراف. أمّا الأقليّة الباقية الذين لم يتجاوبوا مع النصائح والتعاليم هم الذين يستمرّون في درب الخطيئة ويُعرّضوا أنفسهم للهلاك”.
حِلمُ المناديل ينبّهنا إلى البقاء مُتيقّظين عندما تحلّ التجارب. مع هبوب ريح التجربة نتطلّع إلى اليمين, إلى مريم العذراء للمساعدة. الأولاد الذين أبقوا مناديل ” ملكة الفضائل ” مُعرّضة للرياح والمطر والثلج, أصبحت مناديلهم مفعمة بالحُفر وبدون أيّ شكل أو جمال. أمّا الذين تقدّموا إلى سرّ الإعتراف واسترجعوا نعمة الله في قلوبهم, ترقّعت مناديلهم ولكنّها بقيت بدون شكل وخسرت منظرها الفتّان.
الرب يغفر, لكنّ الطبيعة تُجازي.
العادات التي تنال من الطهارة تُخفي في طيّاتها نتائج سلبيّة ومُرّة.
المثابرة على الصلاح, والنيّة الطيّبة, ونعمة الله قادرة على تصويب الوضع.
على الإنسان أن يُنمّي فضائل التقوى والتواضع والتضحية وأن يقوم بالأعمال الحسنة محبّة بيسوع المسيح.
من يستمر في العادات السيئة يُعرّض نفسه للهلاك الأبديّ
عن موقع سلطانة الحبل بلا دنس