الـحُـرِّيّـة المُـكـرَّسـة.. الأب فاضل سيداروس
خـواطـر فـي الـحُـرِّيّـة المُـكـرَّسـة (3)- نظرة أنثروبولوجيّة مُعاصرة
بقلم الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ
إنّ قضيّة الحُرِّيّة تشغل بال الجميع، لا سيّما المُكرَّسين لأنّ مُتطلِّبات تكريسهم قد تبدو لبعضهم مُتنافية وحُرِّيّتهم. فما هي حقيقة وضع حُرِّيّتهم؟ بما تتميّز مُقوِّماتُها؟ كيف يفهمونها ويعيشونها؟… نبغي إلقاء نظرة أنثروبولوجيّة – أي إنسانيّة – مُعاصرة – أي غير تقليديّة – على تلك القضيّة الحيويّة.
وفي سبيل ذلك، سنقتفي أثر أبعاد الكنيسة الثلاثة التقليديّة: الكهنوتيّة والنبويّة والمَلَكِيّة، كما أوضحها المجمع الفاتيكانيُّ الثاني، وقد سبق أن استخدمناها في كلامنا على الحياة المُكرّسة بوجه عامّ، والمشورات الإنجيليّة – من فقر وتبتُّل وطاعة – بوجه خاصّ، فتلمّسْنا خُصوبة اعتمادنا المنهجيِّ عليها، إذ إنّها تشمل جميع أوجه المسيرة التكريسيّة ومُعايشتِها ومُختلف جوانبها، بل وتدمج التكريس في داخل سِرِّ المعموديّة، باعتبار حياة التكريس – من كهنوت خِدَميٍّ وحياة رهبانيّة – نمطًا من أنماط الحياة المسيحيّة التي يؤسِّسها سِرُّ المعموديّة.
ثالثًا- حُرِّيّة هادفةٌ علاقاتٍ مَلَكِيّةً
lib.consacre2-00كان الملك في العهد القديم يرعى شعبه ويبني مملكته على قِيم مُعيّنة. وهذا تحديدًا ما قام به يسوع في تعاليمه وإعلانه شريعةَ المحبّة المبنيّة على الوصيّتين اللتين تُمثِّلان وصيّة واحدة، حُبّ الله وحُبّ القريب. ولقد أوكل كنيسته هذه المُهِمّة لتُعلِّمه وتنشره بين الأُمم. وهذه هي رِسالةُ الحُرِّيّة المُكرَّسة في المُجتمعات البشريّة إذ تقوم بها وتُذكِّر بها سائرَ البشر، كونها ذاكرةَ الإنجيل الحيّة؛ فلنتحرَّ عن مُختلف جوانب خِدمتها هذه.
* حُرِّيّة ملكيّة فقيرة مع الفُقراء
إنّ الحُرِّيّة المُكرَّسة، بموجب فقرها الاختياريّ، تعيش أساسًا تضامنًا مع الفُقراء. وعليه، يُطرح تساؤل حول أُسلوب مُمارسة هذا التضامن.
إنّ مفهوم التضامن الصحيح، في مُجتمعاتنا المُعاصرة، لم يعُد يكتفي بالعطاء للفُقراء بُناء على استعطائهم. فذلك يُهدِّد استقلاليّتهم، بل ويجرح كرامتهم. لذا، فالحُرِّيّة المُكرَّسة المسؤولة تسعى إلى إشراكهم في اكتشاف الحلِّ الأنسب لهم وفي تنفيذه في حياتهم. فتأتي إلى ذِهننا الحِكمة الصينيّة: “لا تُعط الفقير سمكة، بل علِّمْه الصيد”. إلاّ أنّ المطلوب هو أكثر من ذلك، أي تشجيع الفُقراء على التزامهم بحياتهم وتحمُّل مسؤوليّة مُستقبلهم، بل وإبداعهم في ذلك؛ ولا يتحقّق ذلك إلاّ بالاهتمام بهم اهتمامًا شخصيًّا والمُثابرة والصبر معهم في مُحاولاتهم التي قد تتعثّر، لأنّ الخُروج من حالة الفقر ليس بالأمر السهل والهيِّن، فالمُكرَّسون حاضرون ليسندوهم ويُشجِّعوهم.
وتتّصف الحُرِّيّة المُكرَّسة بـ”التعاطُف” مع الآخر (Compassion – Sympathie )، أي القُرب من الآخر، وبوجه خاصّ في ضيقه، فالانجذاب إلى الآخر بكُلِّ جوارحها حتّى التألُّم معه، لا سيّما إلى الآخر المُحتاج مادِّيًّا أو معنويًّا. فهي لا تستطيع أن تدخل في علاقة حقيقيّة به وتمدّ له يد العون بدون ذلك الشُّعور، اقتداء منها بيسوع الناصريّ الذي كثيرًا ما كان “يشفق” على الجُموع المتروكة إلى أمرها، بلا راع يرعاها (مر6: 34)؛ كما “أخذته الشفقة”عليهم لأنّهم جاعوا (مر 8: 1-2).
* حُرِّيّة ملكيّة مُتبتِّلة
تعيش الحُرِّيّة المُكرَّسة تبتُّلها في سِياق الرِّسالة الملكيّة باتِّساع قلبها اتِّساعَ حُبِّ الله نفسه، فـ”تُوسِّع موضعَ خيمتـ[ها]” (أش 42: 2)، لتستضيف في قلبها القريبين والبعيدين، والأقرباء والغُرباء، فيُصبح قلبها ’فُندقًا بديلًا‘، فكما أرسل السامريُّ الرحيم المجروحَ إلى فُندق للاهتمام به، يقوم القلب المُكرَّس بالعمل عينه، بل يُصبح قلبه ذلك الفُندق.
ومن مجالات هذا العمل، التضامن مع الأشخاص والمُجتمعات والشعوب والبشر، في دائرة تضامن لا تعرف أيَّ حدّ، بل تتّسع مِقدار اتِّساع العالم. هكذا فالحُرِّيّة المُكرَّسة المُتبتِّلة تعيش “الأُخوّة الشاملة”، بحسب تعبير الطوباويِّ شارلْ دي فوكو، قاصدًا أن يعيش كُلُّ مُكرَّس تلك الشُّموليّة، بموجب تبتُّله، أبًا كان أو أُمًّا، أخًا أو أُختًا.
* حُرِّيّة ملكيّة مُطيعة
إنّ اتّسم مفهوم الحُرِّيّةُ المُعاصرة بالروح الاستقلاليّة وبالاكتفاء الذاتيّ، حيث سيطرة المرجعيّة الذاتيّة، إلاّ أنّ الحُرِّيّة المُكرَّسة مدعوّة إلى أن تتّسم بروح المُشاركة مع الرؤساء ومع الجماعة، على صورة الجماعة المسيحيّة الأُولى التي اختبرت حياة “الشركة” (باليونانيّة: Koinonia )، وكانت ذلك النمط من الحياة مصدر فرح وابتهاج، حتّى إنّها كانت تجذب الناس إلى الاهتداء نحو المسيح، في حين أنّ روح المرجعيّة الذاتيّة تدفع إلى مزيد من الاكتفاء الذاتيّ في دائرة مُفرغة مُغلقة. كما أنّ المشاركة تؤدّي إلى التواضع الحقيقيّ، حيث عدم التمحور على الذات بل التمحور على الآخر، ولا على تمركز مرجعيّة ’الهُويّة‘ بل مرجعيّة ’الغيريّة‘، ولا الانغلاق على الآراء الشخصيّة بل الانفتاح على آراء الآخرين.
وثمّة نزعة مُعاصرة إلى التسلُّط على الآخرين، وكُلُّنا يعلم مدى انتشار نُفوذ السُّلطة وآثارها الوخيمة على مُختلف المُجتمعات البشريّة وفي مُختلف المجالات الإنسانيّة. أمّا الحُرِّيّة المُكرّسة، فتسعى إلى استئصال تلك النزعة الدفينة من القلب، لينتشر روح التعاون مع الرؤساء ومع الجماعة، وذلك في المشاريع والأعمال، بل وفي الخِدمة والرِّسالة اللتين تتجاوزان المصلحة الفرديّة والنجاح الشخصيّ.
وهناك أيضًا ميلٌ مُعاصر إلى الاستبداد بالرأي واعتباره الأكثر صوابًا وصلاحًا، بإقصاء الرأي المُختلف. وأمّا الحُرِّيّة المُكرَّسة، فتسعى وراء تبادُل الآراء في الحِوار مع الآخرين ومُناقشتهم، وعند اتِّخاد القرارات، من دون فرض الرأي الشخصيِّ بل بالإصغاء إلى الآخر للاغتناء به. ويروق لنا أن نورد شهادة البطريرك المسكونيِّ أثِناغوراس:
“ينبغي لنا أن نخوض أصعب معركة، وهي المعركة ضِدَّ أنفسنا، فينبغي لنا أن نصل إلى نزع سلاحنا. لقد خُضتُ هذه المعركة سنوات كثيرة، وكانت معركة شرسة، ولكنّي الآن منزوع السِّلاح. فلم أعُد أخاف من شيء، لأنّ الحُبّ يُبعد الخوف. إنّي منزوع من سِلاح إرادتي أن أكون دائمًا على حقٍّ وأن أُبرِّر نفسي بإقصاء الآخر. ولم أعُد حريصًا على نفسي، مُتمسِّكًا بغِناي تمسُّكًا مُتشنِّجًا حذِرًا. إنّي أتقبّل كُلّ شيء وأُشارك في كُلِّ شيء، ولا أتشبّث بآرائي ولا بمشاريعي. وإن عُرضتْ عليّ آراء ومشاريع أفضل – لا، لستُ أقول ’أفضل‘، فحسْبُها أن تكون صالحة – فإنّي أتقبّلها بدون حسرة إذ أقلعتُ عن المُقارنة: فما هو صالح وحقيقيٌّ وواقعيّ، ذلك هو الأفضل لي دومًا. لذا فلم أعُد أخاف. فعِندما لم نعُد نملك شيئًا، حينذاك لم نعُد نخاف. وإذا نزعنا سِلاحنا وتجرّدْنا من أنفسنا، وإذا انفتحنا على الإله الإنسان الذي يصنع كُلّ شيء جديدًا، حينذاك إنّه يمحو ماضينا العصيب ويُبادلنا زمنًا جديدًا، حيث كُلُّ شيء مُستطاع”.
إنّ ملامح تلك الشخصيّة المُكرَّسة الحُرَّة، والمُتحرِّرة من ذاتها، هي بمثابة نموذج ومِثال أعلى لجميع المُكرَّسين في مسيرتهم الشخصيّة والروحيّة والعلائقيّة والاجتماعيّة والخِدَميّة.
* حُرِّيّة ملكيّة بين العهد والوعد
lib.consacre2-01وتتجسّد حُرِّيّة المُكرَّس الملكيّة في وعدها لغيرها، وتعاهدها معه، فإنّها تُغامر مُغامرة، وذلك على خلاف العقد حيث عدم المُخاطرة بين المُتعاقديْن ضئيلة، تحاشيًا منهما لنشأة خِلافات بينهما أو احتمال حُدوث فشل، فتتوضّح جميع الأُمور في أدقِّ تفاصيلها، منعًا من الوُقوع في مشاكل من أيِّ نوع كان. وأمّا الوعد والعهد، فيتضمّنان احتمال النجاح أو الفشل، ويتطلّبان التضحية من كِلا الطرفيْن، ويستدعيان التقييم والتقويم.
وإنّهما يُخرجان الحُرِّيّات من اتِّخاذ قرارات مبنيّة على اللحظة المزاجيّة أو الرغبة العابرة، لأنّهما يعتمدان على العقل اليقِظ المُتَرَوّي، والإرادة النشطة المُتأنِّية، ويُلزمان أصحابهما التزامًا بمِصداقيّة كلمة تستدعي أمانةً من ناطقها.
ثُمّ إذ إنّهما قيدُ التحقيق، في عمليّة قد تقصر أو تطول، فإنّهما يُتيحان للطرفيْن فُرصة الانتظار والرجاء، مِثل رقيب الصُبح: “إنّ تَرَقُّب نفسي للربِّ أشدُّ من ترقُّب الرُّقباء للصُّبح” (مز 130: 5 ت)؛ فالترقُّب يُنمّي فضيلة الانتظار، وذلك في حضارة تعتمد أساسًا على السُّرعة في التفكير والتحقيق والمُمارسة، ولا تعرف التمهُّل والتريُّث. كما أنّهما يفتحان قلب المتعاهديْن أو الواعديْن على الرجاء: “إذا شوهد ما يُرجى لم يكن رجاء، وما يُشاهده المرء فكيف يرجوه أيضًا؟ ولكن إذا نرجو ما لا نُشاهده فبالثبات ننتظره” (روم 8: 24-25). فالحُرِّيّة المُكرَّسة تتميّز بالانتظار والترقُّب والرجاء، على نقيض “الإنسان صانع نفسه”، كما تدّعيه بعض الفلسفات المُعاصرة.
وكذلك إنّ الوعد والعهد يدفعان الطرفيْن إلى الإقدام الحُرِّ نحو الأمام، على مِثال إبراهيم الذي لم يتردّد من الانطلاق، بحُرِّيّة وجُرأة، إلى الأرض والجبل اللذيْن يُريه الله إيّاهما (تك 12: 1 ت، 22: 1 ت)؛ وعلى مِثال موسى الذي انطلق، هو أيضًا بحُرِّيّة وجُرأة، ليُواجه فرعون (خُر 7: 1 ت). فالحُرِّيّة المُكرَّسة، في جُرأة مُغامرتها، تتقارب من هاتيْن الشخصيّتين النموذجيّتين.
وفي العهد والوعد، تتفاعل العلاقات الشخصيّة المبنيّة على ثِقة مُتبادلة، وقد أطلقت الفلسفة المُعاصرة على ذلك التفاعل بين الأشخاص تسمية “البَينْذَواتِيّة” (بالفرنسيّة: Intersubjectivité)، وهي جانب أساسيٌّ من العلاقة العميقة بين البشر، حتّى لا يُكوِّن الأشخاصُ بينهم علاقات سطحيّة أو نفعيّة.
كُلُّ هذه العناصر تفتح مُستقبلًا مُشرقًا يصنع الجديد المُبدع غير المتوقِّع. وإنّ ذلك المُستقبل يعتمد أساسًا على الاستمراريّة مع الماضي، مَثل الكاتب الأمين الذي يأخذ من القديم والجديد، من الماضي والحاضر (متّى 13: 52). وبدون ذلك الماضي الثابت، يقع الطرفان في فوضى الحاضر المُتقلِّب، إذ إنّ الماضي يُؤمِّن الثبات والاستقرار، فيسمح بالانطلاق.
وفي هذا الجوّ، يُمكن صُنع الجديد المستقبليّ: “ها إنّي أعمل كُلّ شيء جديدًا” (رؤ 21: 5)؛ فالروح الذي “يُجدِّد وجه الأرض” (مز 104: 30)، يدفع الحُرِّيّة المُكرَّسة إلى أن تشترك معه في صُنع المُستقبل، مُستقبلًا مُجدَّدًا. ولولا هذا التجديد، لظهرت ملامح الموت على الحيّ: الثوب يخترق، والخمر تنسكب من الزِّقاق البالية (مر 2: 21-22).
* الخاتمة
في نِهاية جولتنا، يأتي زمن حصاد العهد والوعد، وجني ثمرهما، فنختبر عظيم الإعجاب والدهشة مِمّا يتحقّق فِعلًا: فها إنّ مريم تُعظِّم الربّ وتبتهج به على عجائب صنيعه فيها وفي الخليقة كُلِّها (لو 1: 46 ت)؛ وها إنّ الرُّعاة يتعجّبون ويُمجِّدون ويُسبِّحون (لو 2: 18-20)؛ وها إنّ المجوس يفرحون ويسجدون (متّى2: 10-11). إنّ الحُرِّيّة المُكرَّسة مؤهّلة لأن تشترك في مِثل هذه السيمفونيّة الإلهيّة البشرية.
إقليم الشرق الأوسط