القديس بولس في أثينا – الأب أوجينيو إلياس
1- لماذا الاهتمام بالقديس بولس؟
2- ماذا نعرف عن بولس؟
3- أعمال الرسل.
4- بولس في أعمال الرسل.
5- بولس في أثينا (أعمال 17/16-34)
6- حديثُه إلى الأيْروباغُسْ (17/22-31)
7- خاتمة
8- خطاب ونَصّ الحديث.
1) لماذا الاهتمام بالقديس بولس؟
نحن مَدينون للقديس بولس بِأقدم نص في العهد الجديد، أَلا وهو الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي. بالإضافة إلى ذلك، تحتلّ كتابات القديس بولس والمكتوب عنه – بصفة عامة – ثُلثَ العهد الجديد . واندفاعه الرسولي معروف للجميع: كثير من الجماعات المسيحية الأكثر قِدَمًا في سوريا وآسيا الصغرى واليونان وُلِدت من كرازته. وكانت الجماعات تتناقل رسائله فيما بينها بالفعل بعد سنوات قليلة من صعود الرب. ولكن أهميته لا تقتصر فقط على المظهر الأدبي أو الرعائي، إذْ إنَّ الرسول قد انشأ دراسةً لاهوتية كاملة، خاصة في رسائله «الكبيرة» – أيْ إلى أهل روما وغلاطية وكورنثس . العقائد الخاصة بالخطيئة الأصلية، وبالتبرير، بشُمولية الخلاص، وبالمواهب، ليست سوى لمحات من إنتاجه الغزير. لقد ساهم القديس بولس بصفة رئيسية في تعريف العالم بِسرِّ الله ومسيحِهِ، وبعِلمِ الخلاص وعِلمِ الصليب. استشهد على يد نيرون، فكان بالحق ذلك «الإناء المختار» (أع 9/15) الذي استخدمه الله خيرَ استخدام؛ وقد ترك ذلك الرجل شديدُ الحَمِيّة آثاره على الإعلان الإلهي المسيحي، وعلى حياة الكنيسة الأولى وعلى حياتنا.
2) ماذا نعرف عن بولس؟
تُتيح لنا رسائلُه أن نعرف عن طبعه واهتماماته وآماله أكثر ممّا تَكشفه لنا عن تاريخه الشخصي. ومع ذلك فهناك نصَّان لا يزالان أساسيّين على الرغم من طابعهما الجزئيّ والظَّرفِيّ:
(غلا1-2) ، ويمثّلان «أساسًا بِنائيًّا لتحديد المراحل الزمنية لحياة بولس» حيث يشير إلى المراحل الرئيسية لمسيرته منذ اهتدائه وصولاً إلى أَتعابه لتوصيل الإنجيل إلى الوثنيين الذين من بينهم أهل غلاطية؛ وكذلك 2 كور11 ت، حيث نجد بالتفصيل امتيازاته الرَّسولية المُتَمَثِّلَة في آلامه والإعلانات التي حدثت له .
أما الجزء الأكبر من التفاصيل في سيرة القديس بولس فنجده في أعمال الرسل. وبالفعل، فإن هذا الكتاب تتكون مادّتُه من وقائع من حياة بولس وبطرس؛ ولذلك يُطلَق عليه أيضًا اسم «أعمال الرَّسولَيْن». ومع قليل من اللعب بالكلمات، يطلق عليه آخرون اسم «سفري أعمال الرسل» مشيرين بذلك إلى الروايتين المختلفتين في الكتاب: واحدة قصيرة – مرتبطة غالبًا بالإنجيل بحسب القديس لوقا – وأخرى مُنَقَّحَة . هناك بعض اللَّمحات أيضًا عن استشهاد بولس وبطرس في الرسالة الأولى لأكليمانضوس وفي رسالة القديس أغناطيوس الأنطاكي. أما باقي المراجع – مثل المراسلة الشهيرة فيما بين الرسول وسينيك (Sénèque) – فهي مُحَرَّفة وغير جديرة بالاهتمام من الناحية التاريخية. مهما يكن فإنَّنا نستطيع التأكيد بأن المصادر التي نملكها لأجل أن نتعرَّف على بولس تفوق بكثير تلك التي نملكها لتحصيل المعلومات حول شخصيات أخرى من مشاهير التاريخ القديم، مثل سقراط وهانيبال. وبالمثل إذا ما قارننا مع بدايات المسيحية: سنجد أن بولس هو وجه من الكنيسة الوليدة ممن نعرف عنه معلومات تفوق بكثير جدًّا ما نعرفه عن الشخصيات الأخرى .
ذلك الغنى المعلوماتي لا يمر بالطبع بدون إثارة بعض مشكلات التوافق ، لكن ليس ذلك بالشيء المُستَغَرب، إذْ هناك اختلاف في حقبات الكتابة، وكذلك اختلاف فيمن وُجِّهَت إليهم تلك الكتابات، وكذلك اختلاف الكُتَّاب أنفسهم. من المفهومِ أنَّ مُلخَّصًا لِلسيرة الذاتية كتب في ظروفٍ خاصة وأثار كثيرًا مِن الجدل – أَلا وهو غلاطية 1-2 – لا يمكن أن يتماثل في الدِّقَّة مع كتابٍ مكوَّنٍ من مُذكَّرات ووثائق متعدِّدَة. ومع ذلك نجد أنَّ مُعطياتهما تتكامل ويؤكِّد أحدُهما الآخر تقريبًا دائمًا.
3) أعمال الرُّسل
ستساعدنا بعض الملحوظات المتعلِّقة بِسفر أعمال الرُّسل على أن نضع أنفسنا في الإطار، وعلى فَهمٍ أفضل لِلمضمون. فصحَّة نسب النَّصِّ للوقا لها أساس قوي: إذ يُمثِّل سِفر أعمال الرسل تكملةً لِلإنجيل الثالث – من الناحية الأدبية كذلك –؛ وقد صارا كلاهما سريعًا مادةً لِلقراءات الليتورچية خلال الزمن الفِصحيِّ . من الطبيعي أن تستخدم الرواية صيغة المفرد الغائب، ومع ذلك نجد أن الفاعل في كثير من المقاطع بصيغة «نحن»، للدلالة على أن الرَّاوي اشترك في الواقعة؛ كما لو كان لوقا يَلجأ بالحقيقة إلى مُدَوَّنات هي عبارة عن «مذكرات مسافر». يبدأ سفر أعمال الرسل حيث تركنا إنجيل لوقا: في أورشليم، يوم صعود الرَّبّ. وهو موجَّه إلى نفس الشخص، أي ثاؤفيلس؛ ويتّضح الرّابط في أع 1/1 حيث يَذكر «الكتاب الأول». ولكن بينما كان ذلك الأخير يتكلَّم عن ‹كلِّ ما عَمِله يسوع وعلَّمَه›، فإنَّ سفر الأعمال يكلِّمنا عن حياة الكنيسة الوليدة وعن انتشار الإيمان؛ وهو يجعلنا نترك المدينة المقدَّسة لِنتابِع إعلان الخبر السَّار ‹إلى أقاصي الأرض› (1/8).
لكنّنا في نهاية سفر الأعمال نجد بولس في روما، و‹كان في السجن يُعلِّم بِكلِّ جرأة ما يختصُّ بِالربِّ يسوع المسيح، لا يمنعه أحد› (28/31). وقد تبدو نهاية مُتناقِضة ظاهريًّا! في ذلك الوقت كانت أقاصي الأرض تتمثَّل في أسبانيا، وكان بولس قد أبدى رغبته في الذهاب إليها
(رو15/24 و28)، كما أن أكليمانضوس الروماني يوحي إلينا بِأنَّه ذهب إليها بالفعل إذ يقول: «… بعد أن وصل إلى أقاصي حدود الغرب» . ولكن يبدو أن لوقا أراد أن يعطي معنًى رَمزيًّا لِتلك المدينة وأن يقابِلها بِأورشليم لكي يشير إلى المدى الكونيّ لِلخبر السَّار. سفر الأعمال، الذي بدأ في البيئة الثقافية الخاصة باليهود والفلسطينيين، يشير هكذا إلى دخول الرسالة الإنجيلية إلى عالم جديد: ألا وهو العالم اليوناني والروماني . بالإضافة إلى ذلك، نعلم من بولس نفسه أن كاتب سفر الأعمال كان معه في الأيام التي سبقت استشهاده: ‹لوقا وحده معي› (2 تيم 4/11) ، ولكنَّ لوقا أبعد ما يكون عن الانسحاق تحت وطأة الحزن وعن الإسهاب في أوصاف كئيبة، فيُظهِر بولس مِقدامًا ومُبشِّرًا بِثقة تامة وحرية، لا يستطيع أحدٌ أن يَكبَح جَماحَه – . وفي الواقع فإنَّ نهاية سفر الأعمال لها طابع إنطلاقٍ حقيقيٍّ أكثر من كونه محطةَ وصول . واضح بالنسبة للوقا أن كلمة الله لا يمكن ربطُها.
إنَّ ما استعرضناه لِلتوِّ يجعلنا نَلْحَظ جَدَلِيَّةً مثيرة لِلغاية: كيف استطاع القديس لوقا أن يحوي ثلاثين عامًا من حياة الكنيسة في ثمانية وعشرين فصلاً صغيرًا؟ التَّحدّي الأدبي والتاريخي الذي يتطلبه ذلك العمل لَهو شيءٌ مَهول. علينا إذًا أن نرضى ببعض الافتراضات. لِنلحَظ في المقام الأول أنَّ القديس لوقا يروي سلسلة من الأحداث المختلفة فيما بينها، دون أن يؤثِّر ذلك في سير الرواية، على الرغم من وضوح عدم التواصل الزمني. فهو لا ينوي أن يقول «كل شيءٍ»، ولكنه يختار من بين مجمل المعلومات التي لديه ما يناسب غايته. ومن أجل ذلك فهو يستعين بِطرق تسمح له بالحفاظ على الخيط المتَّصِل لِلأحداث. وقد تكون بداية سفر الأعمال أفضل مثال لذلك، إذ يعيد فيها تجميع المُعطيات الأخيرة للأنجيل كي يشرح ذلك الانطلاق الجديد، ولكي يجعل الانتقال من جزءٍ من العمل إلى جزءٍ آخر مفهومًا . أمَّا الجدال فيما يختص بنَسَقِ النص وتقسيمِه فإنَّه يظل مفتوحًا دائمًا. على كلٍّ، نجد أنفسنا أمام سَرْدٍ ذي هيكليَّة جيدة لا يمكن إنكارها من الناحية المنطقية والأدبية والتاريخية . إن به منهجًا إيقاعيًّا بِفضل مُلخَّصات ومناقشات وسفريّات وتفاصيل أخرى تعكس حياة الكنيسة الرَّسولية وتَرسم نَهجًا مِثاليًّا للأجيال المسيحية اللاحقة كيما يسيرون على خُطاه.
إن قارئ سفر الأعمال لا يجد أبدًا انطباعًا بِأنَّه يسير وراء رُسُلٍ يندفعون في نشاط محمومٍ ومجنون؛ ولكنه على العكس من ذلك يجد نفسه مُجبَرًا على التوقُّف مرات عديدة للاستماع إليهم. فالخُطَب تمثِّل عنصرًا أساسيًّا في البناء الأدبي لِسفر الأعمال. وحتى نفهم دورها في السرد، ينبغي علينا ألاَّ نُهمل حقيقة أنَّ سفر الأعمال قد كتب بعد بضع عشرات سنين من وقوع تلك الأحداث. فالخطب تُمثِّل مفتاحًا حقيقيًّا لِفهم الكتاب؛ وقد ذُكِرت في أماكن استراتيچية وحدَّدت مراحل المسيرة، كما أنها توجِّه إلى كيفية تفسير الأحداث. بذلك نجد أن دور بولس تحدِّده ثلاثُ خُطَبٍ رئيسية: خِطاب إلى اليهود، في مجمع أنطاكية بسيدية (13/16-41)؛ وخِطاب إلى الوثنيين، في أريوپاغُس أثينا (17/ 22-31) وخطاب إلى المسيحيين في أفسس، والتي كانت أكبر وآخر جماعة أسَّسها بولس (20/ 18-35). كل واحدة من تلك الخُطب لها مثل مقدمة تحضرية مختصرة تسبقها. بالنسبة لِخطبة أثينا، فإننا نجد رَسْمًا سريعًا لها في الكلمات التي يوجِّهها بولس إلى الوثنيين في لسترة (14/ 15-17) .
4) القديس بولس في سِفْر الأعمال
فَلْنُلقِ نظرة وجيزة على سفر أعمال الرسل لِنحدِّد تواجُد بولس ونشاطه. الجزء الأول من الكتاب مُخَصَّص لِكنيسة أورشليم. بعد صعود الرَّب يواظب الرسل على الصلاة، تحت قيادة بطرس، – كانوا لا يزالون يصعدون إلى الهيكل – وعلى إعلان البشارة. وتأخذ عِظة بطرس يوم العنصرة أهمية خاصة، إذ يتبعها اهتداء عدد كبير من الناس، مِمَّا أدَّى إلى ميلاد الجماعة المسيحية حيث يغلِب الفرح والمحبة بطريقة ملحوظة .
إنَّ امتداد الكنيسة خارج أسوار المدينة المقدسة يبدأ بعد رجم إسطفانوس. يظهر رجلٌ غيُّور مُضطهِد لِلجماعة اسمه شاول (8/1ت). كان مُنخرِطًا تمامًا في ذلك النشاط، إلى أن اقترب من دمشق فَغَلَّفَهُ نور من السَّماء، وسقط على الأرض – لا يوجد أي ذكر للحِصان! – وسَمِعَ صوتًا يقول: ‹شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟› ولَمَّا لم يَعُد يرى شيئًا اضطروا إلى اقتدائه ‹من يده› إلى المدينة، حيث لَبِثَ ثلاثة أيامٍ لا يأكل ولا يشرب، عاكفًا على الصلاة. وإذا تلميذٌ اسمه حَنَنْيا أُوكِلَ إليه أن يضع عليه يديه وأن يُعَمِدَّه . فأبصر وقضى بِضعة أيام فقط مع التلاميذ ثم أخذ في إعلان البشارة. ولمَّا هدَّده يهود دمشق بالقتل، عاد إلى أورشليم ولكن التلاميذ لم يعطوه ثقتهم. وسريعًا ما تعرَّضت حياته مرة أخرى للخطر – هذه المرَّة من قِبَل الوثنيين – فيُرَحَّل إلى طرسوس، المدينة التي ولِد فيها (9/1ت).
سيرافقه برنابا إلى أنطاكية، ومنها سينطلقان بعد ذلك مع يوحنا الملقَّب مرقس، مُوَفدين من الجماعة، في أول رحلة إرسالية إلى قبرص وآسيا الصغرى (11-14). تفاصيل تلك الرحلة تتخطَّى الهدف من مقالنا هذا، ولكن من المثير أن نلحظ كيف يَسوقُ لوقا مختلف ردود أفعال السامعين. هكذا نجد بولس وبرنابا ينالان في لِسترة – بعد معجزة يقومان بها – تكريمًا كما لآلهة: ‹وكانوا يدعون برنابا زاويش وبولس هِرمِس، لأنه كان يتولى الكلام… ولم يستطعا إلا بمشقَّةٍ أن يصِرفا الجمع عن تقريب ذبيحة لهما› (أع 14/ 8-18). ولكننا نجده على التَّوِّ في العدد التالي، يتعرض، بتحريضٍ من اليهود، لِلرجم ولِلرمى خارج المدينة ظانين أنَّه مات! (14/19).
يلعب مجمع أورشليم، في الفصل الخامس عشر، دورًا محوريًّا فينقل الحركة من الجزء الأول إلى السفريات المتتالية. وفيه يوافق الجميع على قرار بولس وبرنابا بِعدم جدوى مطالبة الوثنيين المهتدين بالختان. كما وافق بطرس ويعقوب كذلك عن طيب خاطر. ذلك منعطف كبير لِسفر الأعمال حيث لن نجد فيه بعد ذلك سوى بولس في وسط الأحداث.
الرحلة الرَّسولية الثانية كان هدفها زيارة إخوة الجماعات التي وُلِدت أثناء الرحلة الأولى (15/36). أدَّى خِلاف بين بولس وبرنابا إلى انفصالهما، لأنَّ برنابا كان يريد أن يصطحب معه مرقس بينما كان بولس يرفض ذلك بتاتًا. أخيرًا أبحر برنابا ومرقس قاصدين قبرص بينما جال بولس، يُرافقه سلوانس (سيلا)، في سوريا وكيليكية، ووصلا بعد ذلك إلى دِربة ولِسْتْرَةَ، حيث تقابلا مع تيموثاوس، الذي انضمَّ إليهما (16/1 ت). ويحدث شيء لا يستطيع الذين عاشوه أن يتخيلوا مدى تأثيره، إذْ تقودهم رؤيا غامضة إلى الانتقال من غلاطية في آسيا إلى مَقِدونية: يتوسَّل رجل مقدوني إلى بولس ليلاً: ‹اُعبُر إلى مَقِدونية، تعال إلى نجدتنا›؛ يقول لوقا: ‹كنا مُوْقِنين أن الله دعانا إلى تبشير أهلها› (16/9 ت). وهكذا وُلِدت جماعتا فيليبي وتسالونيكي، ودخلت المسيحية أوروبا.
5) بولس في أثينا (أع 17/ 16-34)
يصل بولس إلى أثينا بعد العديد من الملابسات، حيث لا يمكث أكثر من بِضعة أيام أو أسابيع قليلة. ثم ينضم إليه في كورنثس سيلا وتيموثاوس – الذي كان قد رحل إلى تسالونيكي لمساعدة المؤمنين هناك على تَحَمُّل التجارب التي واجهتهم . لم تعد أثينا نفس مدينة العصر الذهبي – القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد – ولم يكن الرومان قد أصلحوها بعد، وهو ما حدث على يد أدريان بعد قرن من تلك الأحداث. وعندما يصل بولس إليها، فإن عدد سكانها عندئذ لا يتعدَّى 5000 نسمة، ما عدا النساء والأطفال والغرباء والعبيد . كانت مدن مقدونية التي زارها في تلك الحقبة أكثر أهميةً من أثينا، وكذلك الحال بالنسبة لِكورنثس وأفسس.
كعادته يقابل بولس أوَّلاً يهود المجمع (عدد 17) – لقد وجد علماء الآثار في أثينا كثيرًا من الكتابات اليهودية المحفورة، مما يشير إلى وجود جماعة كبيرة –. ولكن الأهمية الرئيسية لمرور بولس في هذه المدينة هو بلا شك كونُهُ يتقابل فيها وجهًا لِوجه مع الهِلّينية الوثنية. كان بولس قد تجادَل بعد اهتدائه مع الهلينيين في دمشق (9/29)، وكان قد بشَّر بنجاح الجموع الوثنية، مثلاً في أنطاكية بسيدية (13/47 ت)، وفي تسالونيكي (17/4)، ولكن ما حدث في أثينا في تلك المرَّة لا يتكرَّر مرة أخرى في سفر الأعمال: إذ لا يجادل بولس اليهود والدُّخلاء في المجمع فقط، ولكنه يتجادل أيضًا مع الناس في الساحة العامة ، ومن بينهم بعض الفلاسفة الإبيقوريين والرَّواقيِّين (estoicos): أي صفوة المثقفين العقلانيين اليونانيين (عدد 18). وكما رأينا فإنَّ أثينا لم تكن مثلما كانت من قبل – إذ كانت الإسكندرية وأنطاكية وروما على الأخص تجتذب معلمي الفلسفة والبلاغة أكثر من أثينا – ولكن طابعها الرمزي ظل لا جدال حوله، لأنَّ المدارس الأربع الفلسفية الكبرى كانت قد نشأت في أثينا بالتحديد: أكادمية أفلاطون، ومدرسة أرسطو، وبوابة زينون وبستان إِبيقور . تؤكِّد المصادر غير الدينية المعطيات التي يقدِّمها لوقا وتُظهر أنه، خلال القرن الأول من عصرنا هذا، كانت هناك رِواقيّة (estoicismo) سائدة روحيًّا وأخلاقيًّا، على خلاف المادية الحسِّيَّة للإِبيقوريين .
لم يكن انطباع بولس الأول عن المدينة جيدًا: ‹ثار ثائِرُهُ إذْ رأى المدينة تملَؤُها الأصنام› (عدد16). الفعل يشير إلى غيظ عميق ومتصاعد إلى أن يصل إلى الذَّروة! أمَّا كلمة فإنها تُوحي لنا بِعددٍ فائض من الأوثان. إن البادِئة (prefix) ، تُوحي بِاستهلاك شهواني، في إشارة مُحْتَمَلة لِـ «غابة هِرمِس لِلتماثيل النصفية»، وهو ركنٌ في أرض فَضاء سُمِّيَ كذلك بسبب كثرة التماثيل النصفية لِذلك الإله. كانوا في الواقع يقيمون هياكل لمختلف أنواع الآلِهة، بما فيها مُجرَّداتٌ مُجسَّدَة، مثل «فضيلة» و«وفاء» و«توافُق»، كانت تُضاف إلى الآلهة المعروفة ذات الأسماء مثل ديونِسْيوس وأَرْتِميس .
فإذًا: وجود هيكل عليه لوحة إرشادية تحمل اسم ‹إلى الإله المجهول› لا يجب أن يُدهشنا. الدلائل الأثرية والشواهد الأدبية على السواء تؤكِّد من جديد صحة سفر الأعمال. إن التعبير (في العدد 23) قد دُرِس دراسةً مُكثَّفة منذ القِدم؛ والمشكلة تُطرَح لأنَّ ذلك التعبير قد يعني «إلى الإله غيرِ المعروف» – بمعنى ‹نَجهَل وجودَه› – أو أيضًا «إلى الإله مجهولِ الاسمِ» – أيْ إلهٍ محدَّدٍ نعرف أفضاله رغم جَهلِنا اسمَه –. هذا الحل الأخير هو الذي تميل إليه بعضُ التقاليد؛ فالإله «غير المعروف» سيكون بالضبط هو الإله «المَعْنِيِّ المقصود»، الذي قد اهتَّم ببعض الشُّؤون .
يسخر الفلاسفة من بولس ويعاملونه على أنه ثَرثار، وهي كلمة تعني حرفيًّا «زارع كلمات». وكان هذا التعبير شائعًا كشتيمة، وهي هنا، في الإطار الذي استُخدِمت فيه، تساوي ‹شخصًا يكرِّر آراء الآخرين دون أن يفهمها› .
إنَّهم يتَّهمونه ‹بِالوعظ بِآلهة غريبة› ، تمامًا مثلما اتَّهموا سقراط قبل ذلك بِعِدَّة قرون. كانوا يقصدون أنه يقوم بعملٍ انقلابي قد يُفسِد الشَّباب، لأنَّه كان يُنكِر آلهة المدينة ويُدخِل آلهة جديدة. يمكن اعتبار ذكر بولس «لِلإله المجهول»، في بداية حديثه، كدفاع ماهر من قِبَلِه: «ليس جديدًا ولكنه فقط مجهولٌ وغير معلوم الاسم» . من الواضح بالنسبة لِقارئ سفر أعمال الرُّسل أنَّ ‹يسوع والقيامة› بعيدان كلَّ البُعد عن أن يكونا طَرَفين لـ : إذْ نجد أنَّ القديس لوقا يُفهِم القارئ، بِحساسية، جَهل الفلاسفة الذين كانوا في الغالب، يَخلِطون بين القيامة ( -أَنَسْتاسيسْ) وبين الإلَهَةِ أنسطاسيا . كما يُمرِّر أيضًا فكرة مميزة على المستوى الشَّفَهِي تميل إلى تبرئة بولس: في حين أنَّ الاتِّهام يشير إليه بِكونه «مُعلِنًا» لآلِهَةٍ، يصف لوقا نشاطه بـ«التبشير». كما أن الفعل بَشَّر يحمل في طيَّاته طابِعًا إيجابيًّا، ونستطيع أن نستبدله بـ «إعلانِ خيرٍ أو خبرٍ سارٍّ».
6) خِطاب بولس في الأرْيوباغُس (17/ 22-31)
أ- مقدمة:
على الرغم من كلِّ شيء أخذوا بولس واقتادوه أمام المحكمة. «أرْيوباغُس» كانت تعني هضبة أَريسْ على الأرض الفَضاء، أو تعني مجلس المدينة الذي كان مَقَرُّه هناك. الإطار والفعل يشيران بالأكثر إلى ‹لقاء القبض على› أكثر من الإشارة إلى البحث عن مكانٍ أكثر هدوءًا لِلنقاش؛ الأمر إذًا كان يتعلَّق بتحقيقٍ مبدئيّ غير رسميّ .
وعندما يصل يسألونه عن العقيدة الجديدة، وهي سبب دهشتهم. حينئذ ‹يقف بولس في وسط الأرْيوباغُس› ويعلن خُطبته (عدد 22). يخبرنا لوقا بِعناية، قبل تلك الخطبة، عن نوعية المستمعين: ‹كان أهل أثينا جميعًا والنازلون عندهم من الأجانب يصرفون ساعات فَراغِهم في أمرٍ واحد وهو أن يقولوا أو يسمعوا ما كان جديدًا› (عدد 21) . لا تشكِّل تلك الملحوظة تقديرًا غير ذي قصد؛ إنَّها تؤثِّر في تفسير الخُطبة وآثارها على الجمهور. يتساءل المحلِّلون إلى أيِّ مدًى يوصِّل لوقا بِأمانة كلمات مُعلِّمه، إذ يقولون: لا يمكننا قبل البحث أن نَستبعد احتمالَ أنَّ رواية لوقا لها هدف لاهوتي ودفاعي. ولكن، حتى مع إقرارنا بأنَّ لوقا ليس محايدًا تمامًا، تقودنا كثير من العناصر إلى استنتاج أنَّنا أمام خُطبة أصلية. من بين تلك العناصر: ذِكْرُ الاستشهاد بالشاعر آراتوس – وهو عنصر له أهمية خاصة – إذْ إنَّ ذلك الشاعر كان من موطن بولس الأصلي . بتعبير آخر يمكننا أن نقول: إن ما نقرأه هو ما قاله بولس للأثينيين، على الرغم من كونه من خلال ذكرياتِ وملحوظاتِ وإنشاءِ لوقا .
ب- بعض الملحوظات البلاغية والأدبية:
إنَّ تفسير الخطاب – والرِّواية – يُمثِّل تحدِّيًّا حقيقيًّا؛ فهي لكي تصل إلى هدفها وتساعدنا على فَهم ما يريد الكاتب أن يقوله، لا ينبغي أن تهمل المظاهر الشكلية، أي الطريقة التي بها تُقدَّم الأفكار. علينا أن نُحِدَّ أنفسنا في نبذة سريعة حول بعض المصادر التي تقودنا إلى فَهم النَّص. مثالٌ لِلبداية: الملحوظة حول تَديُّن الأثينيين التي تفتتح الخُطبة: «يا أهل أثينا، أراكم أكثر الناس تَديُّنًا على كُلِّ وجه». إنَّ كلمة كانت تعني إمَّا التَّقوى أو الخُزَعْبَلات، وما كان يُفَرِّق ويساعد على أخذِها على الوجه الإيجابي أو السَّلبي هو الإطار. ولكننا نجد أنفسنا هنا أمام لعب مزدوج لِلأُطُر. بالنسبة للمستمعين، واضحٌ أنَّ بولس قد تأثَّر بتديُّنِهم: كان قد دُعِيَ لكي يشرح فكرته وبدأ الخُطبة بالاستحواذ على أن يُصغوا طَوْعًا (captatio benevolentia)، بحسب القواعد المتَّبَعة حينذاك في البلاغة الكلاسيكية؛ لا يوجد أفضل من ذلك لكي يكسب انتباهَهم واستحسانهم، وهو ما تحقَّق من خلال ذلك التصريح الذي هو في الوقت ذاته حقيقيٌّ ومجامِلٌ . القارئ الذي يقرأ للوقا يجد نفسه في وضعٍ مختلف تمامًا: فهو يعرف حَنَق بولس أمام الأوثان، وقد قرأ لِتَوِّه ملاحظةً عن الاندهاش أمام الطابِع الفُضولي للأثينيين. استرسال الخُطبة سيُتيح للقارئ أن يحكم بطريقة أفضل على فكرة ونوايا الرسول، ولكنه يكون قد تلقَّى بالفعل تحذيرًا حول أخطاء عابدي الأوثان.
بالنسبة لِبناء الخطبة، فإنّ مفاهيم «الجَهل» و «الإعلان» تلعب دورًا أساسيًّا. يتِمّ حَشْرٌ عندما تكون هناك كلمة أو فكرة بارزة بفضل موقعها في وسط البناء الهيكلي المتماثِل للنص (estructura simetrica) ، مِمَّا يساعد على إبراز الموضوع الرئيسي: الجهل بالله. إن هذا الإله المجهول – حرفيًّا «غير المعلوم»: ، في العدد 23، هم يعبدونه ويَمْتَنُّون له بجهلٍ، وهو يتعارَض بسبب موضعه في الخُطبة مع زمن الجهل: الذي في العدد 30. ما يقابل هذا هو الإعلان عن الإله الحقيقي، الذي يقوم به بولس في العدد 23ب، والاهتداء الذي يجريه الله في العدد 30.
تتمحوَر الحُجَّة حول ما يمكننا تسميته باللاهوت السَّلبي: أيْ اِستبعاد ما هو ليس في الله. وهي تُجرَى في جزأَين – العددَين 24 و25 والأعداد من 26 إلى 29 – يحتويان على التوالي مضمونًا كونيًّا ومضمونًا خاصًّا بعلم مفهوم الإنسان. من السهل ملاحظة أسلوب النفي: الله لا يسكن في هياكل، ولا يُخدَم بِأَيْدٍ بشريَّة، ولا يُشبه ما يمكن التعبير عنه من خلال تماثيل… ويُقابِل ذلك النفي تصريحاتٌ تصحِّح الفكرة عن الله وتمهِّد الطريق أمام التوبة. تلك التوبة يتم التعبير عنها بواسطة الفعل (metanoe)وهو يعني تغيير في العقلية، أي تَخَطِّي للذات مدفوعًا من معرفة جديدة تأتي من البشارة (الإعلان) وتضع حدًّا لِزمن الجهل.
يستشهد بولس بالشاعر أراتوس – بِدُون ذكر اسمه – ويؤكِّد الفكرة المقدَّمة: ‹ففيه حياتنا وحركتنا وكياننا› (عدد 28) . ولكن ذلك الاستشهاد يجعل مستمعيه يفهمون أنه لا يجهل ثقافتهم. وفي الوقت نفسه نجد أن إرجاع المثل إلى ‹شعراء منكم› – بينما كان الشاعر من منطقة بولس نفسه – يُلَطِّف من تأثير نقده ويبيّن أنه بعيد كل البعد عن الرغبة في إدانة كلِّ شيء.
ج- مضمون الخُطبة
- الإله الحقيقي: «إننا أمام خُطبة، من أوّلها إلى آخرها تتكلَّم عن الله، عن الإله الحقيقي» . الأخطاء الثلاثة حول طبيعة الله والتي يُشدِّد عليها النَّفي الثلاثي الذي لاحظناه، مع الإطار المُتمثِّل في المقابلة – المُوازاة التي تَستخدم التَّضادِّي – بين موضوعَي الجهل والإعلان، لا تترك أيَّ مجال للشكِّ حول الهدف الرئيسي للخطبة. يقوم بولس بِنقدٍ لا تَنازُلَ فيه للديانة الوثنية، ويُعلن الإله الحقيقي، الذي لا يمكن الخلط بينه وبين «ذاك» – الغير محدَّد – الذي يعبدونه (عدد 23).
لقد رأينا كيف كان بولس يستخدم بسهولة قواعد البلاغة اليونانية وكيف لا يَنفُر مِمَّا هو حقيقي في تقليدهم. ولكن أفكاره هي من أصلٍ كتابيّ ومسيحيّ. إنَّه يتكلَّم عن الله كما أُعْلِن لِليهود، وبهذا المعنى نجد توافقًا ملحوظًا بين النص الذي بين أيدينا وبين الفَصلين الثالث عشر والرابع عشر من سفر الحكمة، وهما غالبًا المصدر الموحِي بالخُطبة. هناك أصداء أخرى من الكتاب المقدس يمكن أن نستشِفَّها فيها، خصوصًا صدى رواية الخلق بحسب سفر التكوين؛ وكذلك أشعيا، عندما يرفض فكرة أن الله يحتاج إلى هيكل لكي يسكن فيه (66/1 ت)، أو أرميا عندما يتحدَّث عن قُرب الله (23/23) . ولكن إله بولس هو ذاك الذي بطريقة فريدة قد أقام يسوع – لا يأتي ذِكرُ اسمِهِ في النص – والذي به سيَدين العالم (عدد 31).
- نهاية (مصير) الإنسان: بالنسبة لِبولس، الله هو أصل ونهاية الحياة البشرية؛ لقد صنع الإنسان لكي يبحث الإنسان عنه (عدد 27). والبحث عن ذلك الإله ‹القريب من كلِّ واحد منا› هو نشاطٌ رُوحيٌّ بَحْتٌ وحُرّ؛ ولا يتم بواسطة ‹أيدٍ بشرية› (عدد 25). عبادة الأوثان هي بالضبط عكس ذلك: اختزال الله على مستوى ‹صناعة الإنسان وخياله› (عدد 29).
إذًا فجَوهر الله نفسُهُ هو الذي يُحدِّد الطبيعة – الروحية – لعلاقاته مع البشر. فإقامة ‹الرجل الذي حدّدَه› (عدد 31) هي الضّمان والعُربون لِقيامتنا. فالقيامة بالنسبة لبولس هي بالفعل نقطة الحَسْم للإيمان(punctus stans aut cadens). بدون قيامة – وهو سيفسّر ذلك في رسائله – يكون كل نشاط ديني للإنسان باطلاً، لأنَّ ذلك النشاط سيتركنا في نفسِ وضعِنا السابق له؛ ولن يُفيد ذلك الإيمان حينئذ سوى في جَعْلِنا ‹أشقى الناس جميعًا› (1 كور 15/12 ت).
- شُمولية الخلاص: سنكتفي بملاحظة بعض العناصر التي تشير دون شك إلى البعد الشامل (universal) لرسالة بولس: فهو يُلغي امتياز أُصوله اليهودية؛ ويساند فكرة خلق الجنس البشري انطلاقًا من مبدإٍ واحد (عدد 26)؛ ويؤكِّد وجود طبيعة واحدة ومصير واحد لكل البشر، على أنّ هؤلاء هم في صِلة قرابة مع الله (العددان 28 و30).
د- ردود الفعل حول الخِطاب
بنفس القدر الذي كان به بولس يعتبر أنَّ الديانة التي لا تعطي ردًّا لمأساة الموت هي شيء لا معنى له وتُسيء كذلك لله (1 كور 15/15)، فإنَّ اليونانيين كذلك كانوا يجدون أن القيامة شيء غريب جدًّا على فِكرهم. مجرَّدُ ذِكْرِها أطلق السُّخرية وأدَّى إلى طرد بولس: ‹سنستمع لك عن ذلك مرةً أخرى› (عدد 32)
يترك بولس إذًا أثينا ويصل إلى كورنثس. ولا يخلو خروجه من الأرْيوباغُس من تَشابُهٍ مع خروج يسوع من الناصرة بعد خُطبته ومحاولة بعض أقربائه قتلَه: فكلاهما يذهبان ويمرَّان ‹في وسطهم› حتى يتابعا طريقهما . لا يفوت لوقا ذِكر أنَّ البعض قد نالوا الإيمان على الرغم من كلِّ شيء، ومن بينهم دينيس الأريوباغي وامرأة اسمها داماريس (عدد 32).
7) كخاتمة
لقد حاولنا أن نتبع بولس إلى أن وصل إلى أثينا في نص أعمال الرُّسل. وقد فعلنا ذلك مصحوبا بمقدِّمة – بالطبع غير كاملة – لِشخصية الرسول ولكتاب القديس لوقا. إنَّ زيارة بولس لأثينا، والتي جاءت عابرةً نوعًا ما، وخُطبته في الأريوباغُس، تُعتَبَران «جزأيْن أساسيّين في اللوحة التاريخية التي يرسمها سفر أعمال الرُّسل» ، فهما يمثِّلان دخول الرِّسالة المسيحية – التي كانت حتى هذه اللحظة مقتصرة على العالم الثقافي اليهودي/الفلسطيني – في عالم جديد ألا وهو المجتمع اليوناني/الروماني، ولذلك فهما تحتاجان إلى تعمُّقٍ لاحقٍ. بدلاً من محاولة تلخيص ذلك العرض، نعتقد أنه من الأفضل هنا أن نقترح بعض خيوط الأفكار التي تنفتح أمام المؤمنين الذين يقرؤون العهد الجديد.
أ- «فشل» بولس
الملحوظة الأولى تتعلَّق بعدم التناسب الملحوظ بين حجم الرسالة الإنجيلية وبين صفات خُدَّامِه. فبولس، رسول الأمم، هو مضطهد سابق للكنيسة؛ ولا يحاول سفر أعمال الرسل إخفاء تخوُّف الإخوة منه في البداية، ولا اختلافه مع مرقس وبرنابا، مساعدَيْهِ الأوَّلَيْن، ولا بعض التصرفات الأخرى التي أتى بها التلاميذ وتُعتَبَر فقيرة جدًّا مقارنةً بالخبر السار الذي يحاولون نشرَه. وعلى الرغم من وعيهم بحدودهم الشخصية، فإن ذلك لم يوقِفْ المُبشِّرين بالإنجيل.
وإن لم يكن الخُدَّام دائمًا على المستوى المُفتَرَض فيهم، فمن المؤكَّد أيضًا أن مُتَلَقِّي الرِّسالة هم أيضًا غير كاملين: فاليونانيون لم يكن لديهم التحضير الذي مَنَحَهُ العهد القديم، وإضافة إلى ذلك فإن لاهوتهم الطبيعي كان موصومًا تمامًا بالأخطاء. وفي الوقت الذي يخصُّهم فيه بولس بتأديبٍ قاسٍ، فإنه يعترف كذلك بما كان يمكن أن يوجد من خيرٍ في استعداداتهم الشخصية، ومن الحقيقة في تقاليديهم. اليهود من جهتهم لم يُظهِروا دائمًا استقبالاً أفضل. في رسالته إلى أهل كورنثس، يقول الرسول بوضوح في هذا الصدد: إنَّ المسيح المصلوب سيظل دائمًا ‹عِثارًا لليهود وحماقة للوثنيين› (1 كور 1/23). لقد كان كذلك بالنسبة له حتى اقترابه من أبوا ب دمشق!
من الواضح بالنسبة لِبولس أنَّ ما نعتبره نحن فشلاً، يدخل تمامًا في منطق التبشير. فهو يعرف أنه يتعرَّض لِسخرية البشر، ولكنه يظلُّ أمينًا لمخطَّط الله الذي يريد أن يخلِّص العالم ‹بِحماقة التبشير› (1 كور 1/19). وقد لوحظ في هذا الصدد التشابه بين فشله وبين فشل يسوع بحسب الأسلوب الأدبي للقديس لوقا. يكمننا هنا إضافة ابتهاج الرَّبّ المدهش – والذي يُورِده لوقا فقط – أمام رفض كلمته من قِبَل حكماء هذا العالم (لو 10/21)، أو وعيه بطرق الاستقبال المتباينة لِكلمته ولِشخصه والتي يعبِّر عنها في مثل الزارع (لو 8/5 ت). إن الرَّفض والفشل هما المخاطرة التي يأخذها الله على عاتقه – وكذلك خُدّامُهُ – احترامًا لِحرية البشر .
ب- طريقة الإعلان
لا شكَّ أنَّ لوقا يقدِّم لنا تصرُّفات بولس على أنها نَموذجية، مبرِّرًا الشكل والمضمون للخطبة التي ستصير بالفعل مثالاً خِطابيًّا خصوصًا بسبب تَكَيُّفِهِ مع مستمعيه. بالنسبة للقديس إيرينيوس، من الواضح أن غياب اليهود أتاح لِبولس أن يتكلَّم بِحرية أكثر وأن يشير بصفة خاصة إلى وحدة الجنس البشري . أما القديس أمبروزيوس فإنَّه يرى من جانبه أنَّ بولس قد أحسن صُنعًا بِأخذه في الاعتبار استعداد جمهوره لكي لا «يَستهزِئ به من قبل أن يسمعوه» ويَتساءل: «متى تعتقدون أن الأثينيين كانوا سيتمكَّنون من الإيمان بِأنَّ الكلمة قد صار جسدًا وأن العذراء حبِلت من الروح القدس، وهم الذين سَخِروا من سَماعهم عن قيامة الأموات؟» . لذلك فإن قارئ سفر أعمال الرسل لا يشك ولو للحظة واحدة أنَّ بولس، إذا كان لم يُوبِّخْهم بقسوة على وثنيتهم (راجع روم1)، فذلك ليس لشيء إلا لمحبته التي جعلته يرى أن تَقَوَى هؤلاء الأشخاص الملموسين – وإن كانت مُبالَغًا فيها – هي علامة على بحث .
لدى وصول بولس إلى كورنثس – أي بعد مغامرته في أثينا مباشرةً – يبدو وكأنه قد أُصيب بخيبة أمل. قرارُه الحاسم بأَلاَّ يعلن شيئًا آخر ‹سوى يسوع المسيح، وإيَّاه مصلوبًا› ، قد يُبيِّن أنه كان يريد أن يتخلَّى عن استراتيجيته السابقة: فلا يوجد بالفعل في خطبته لِلفلاسفة أيُّ ذِكرٍ لِصليب المسيح. فتراجعه قد يحتوي كذلك على رفض للأسلوب المُستخدَم من قبل: ‹لم يعتمد كلامي وتبشيري – في كورنثس – على أسلوب الإقناع بالحكمة … وليس بحكمة هذه الدنيا› (راجع 1 كور 2/ 1-6). فهو كمن يلوم نفسه لأنَّه ألغى من قبل إعلان السر المكتوم منذ الأزل (1كور 2/8) ولأنَّه حاول أن يتكلم بِلغة البشر وأن ينطلق من حقائقهم ليكمِّلَها (racheter leurs verités).
السؤال الذي يطرح نفسه هو إذا ما كان من الضروري حسم الأمر واختيار طريقة أو أخرى. ولكن بذلك قد نفقد حينئذ إحدى المعطيات الأساسية: أي تلك التي تخصُّ ممارسة (praxis) الكنيسة والتي فيها، وإنْ مَثَّلَ ‹أسف› بولس الذي تحدثنا عنه تحذيرًا لا يمكن نُكرانُه، فَمع ذلك تظلُّ رغبته في أن يصير ‹كُلاًّ لِلكلِّ› (1 كور9/22) دافِعًا لخطوات تبشيرِهِ. بِلغة اليوم نقول: الحوار والإعلان، ‹يجب عَمَلُ هذا دون إهمال ذاك› (راجع لو 11/42).
ج- دوافع بولس:
كثيرًا ما نضطر إلى ترك أحكامنا المُسَبقة وفهمنا المفترَض لكي نتمكن من إدراك الأشياء بطريقة أفضل. وذلك هو بالضبط ما يجب علينا عَمَلُه لكي نُنصِف بولس ولكي نفهم تاريخه. علينا أن نحاول أن نعيد إليه إنسانيَّتَه؛ وأن نَرجِع إلى الزمن الذي كان فيه شابًّا ذا طبعٍ حادّ، تربَّى على يد شريعة متشدِّدة – كما نرى في رسائله بلا أدنى شك – تصل إلى حدِّ تعذيبِهِ وإلى القيام بأفعال سَيظلّ نادمًا عليها طَوال حياته. علينا أن نضع أنفسنا مكانه على طريق دمشق عندما يدركه النور ليقلب كلَّ كيانه رأسًا على عقب إلى الأبد – كان من الضروري إلقاؤه على الأرض وتَرْكُه في الظلام والصمت، في احتياج وتَبَعيّة كاملَين للآخرين، لكي يَكُفَّ عن أن ‹يرفُس المِهماز› (أع 26/14). علينا أن نستمع لذلك الرجل المهموم لِفكرة رؤية إنسياب حياته وحياة إخوته هباءً أو بدون رجاء .
إن ‹سعي› بولس هو محاولة ‹لِلإمساك› بالمسيح الذي ‹قبض› هو على بولس (في 3/12)، والذي أعاد له الحياة كما ‹لِسِقْطٍ› (1 كور 15/8) ومنحه ‹الحرية› (غلا 5/1). لقد ‹بذل› حياته لكي يُعرَفَ المسيح (2 كور 12/15). لا يتعلَّق الأمر باختيار أو مبادرة شخصية بل ‹بضرورة› و ‹بِدعوة› إلهية (1كور 9/16ت؛ غلا 1/15). إن ما يدفعه هو حُبُّه لإِخوتِه (رو 9/3؛ …إلخ)، إنها ‹محبة المسيح التي تحثُّه› (2 كور 5/14). إن التبشير بالنسبة لِبولس هو أمر يتعلَّق بالمحبة.
الأب أوجينيو إلياس
تونس، 25 يونيو 2008
افتتاح سنة القديس بولس.
الخُطبة في الأريوباغُس: أعمال 17/22 ب – 34
22ب- «يا أهل أثينا، أَراكم شديدي التَّديُّن من كلّ وجه.
23- فإني وأنا سائر أنظر إلى أنصابِكم وجدت هيكلاً كُتب عليه: إلى الإله المجهول. فما تعبدونه وأنتم تجهلونه، فذاك ما أنا أبشّركم به.
24- إن الله الذي صنع العالم وما فيه، والَّذي هو ربُّ السَّماءِ والأَرض، لا يسكن في هياكل صنعتها الأيدي،
25- ولا تخدُمُه أيدٍ بشريَّة، كما لو كان يحتاج إلى شيء. فهو الذي يَهَب لجميع الخلق الحياة والنفس وكلَّ شيء.
26- فقد صنع جميع الأمم البشرية من أصلٍ واحد، ليسكنوا على وجه الأرض كُلِّها، وجعلَ لِسُكناهُم أزمنةً موقوتَة وأمكنَةً محدودة،
27- ليبحثوا عن الله لَعَلّهم يتحسّسونه ويَهتدون إليه، مع أنَّه غيرُ بعيدٍ عن كل مِنَّا.
28- ففيه حياتُنا وحركتُنا وكيانُنا، كما قال شعراءُ منكم: فنحن أيضًا من سُلالَتِه.
29- فيجب علينا، ونحن من سلالةِ الله، ألاَّ نحسب اللاَّهوت يشبه الذَّهب أو الفضَّة أو الحجر، إذا مثَّله الإنسان بصناعته وخياله.
30- فقد أَغْضى الله طَرْفَه عن أيَّام الجهل وهو يعلن الآن لِلنَّاس أن يتوبوا جميعًا وفي كل مكان،
31- لأنَّه حدَّد يومًا يَدين فيه العالم دينونة عدلٍ عن يد رجل أقامه لذلك، وقد جعل للناس أجمعين برهانًا على الأمر، إذْ أقامَه من بين الأموات».
32- فما إن سمعوا كلمة قيامة الأموات حتَّى هَزِئَ بعضُهم وقال بعضُهم الآخَر: «سنَستمع لك عن ذلك مرةً أُخرى».
33- وهكذا خرج بولس من بينهم،
34- غيرَ أنَّ بعض الرِّجال انضمُّوا إليه وآمنوا، ومنهم ديونيسيوسُ الأريوباغيّ، وامرأةٌ اسمُها دامَريس وآخرون معهما.