الكراهية والحبُّ / أشرف ناجح
ما هي الكراهية التي يشعر بها الإنسان وما هو الحبُّ الذي يملأ قلبه؟! هل هما إلهان يتصارعان معأً منذ زمان بعيد، والبشرأمامهما منقسمون: فبعضهم يختارون “إله الكراهية”، فيتجنّدون له، ويملأون قلوبهم به، ويحيون له، ويموتون بسبه! في حين أنّ البعض الأخر مِن البشر يختارون “إله الحبِّ”، فيتكرّسون له، ويحيونه له، ويموتون بسبه، فالحبَّ يُميت؟ إنّ الكراهية والحبّ الذين يسكنان قلب الإنسان لم يكونا يوماً ولن يكونا إلهين، وإنّما نحن البشر الذّين نؤّلهما، فنحن _وللأسف_ قد تعلّمنا كيف نخلق بأيادينا الآلهة التّي نرغب في عبادتها!
إنَّما الحقيقة هي أنَّ الكراهية والحبّ في عمقهما هما رغبتان، فالكراهية هي الرغبة في إمتلاك الحياة وإنكار حقيقة الموت؛ أمّا الحبّ فهو الرغبة في قبول الموت طوعاً. فهما إذاً رغبتان مختلفتان ومتعارضتان، فالرغبات منها ماهو خيّر ومنها ما شرير، ومنها ما هو مُقدّس ومنها ما هو مُدّنس.
إنّ الرغبة الأولى، التّي تُدعى “الكراهية” هي الرغبة في “إمتلاك الحياة” بطريقة أنانيّة نرجسيّة، فهذا بالفعل هو طبيعة الكراهية. فإنّ الحياة لم تكن يوماً ولن تكون أبداً ملكاً خاصاً لنا، فهي قد وهبت لنا مِن الله المُعطي بسخاء، ونحن نتقبّلها مِن يديه شاكرين. ولكن، وآسفاء، بعض البشر تتملّكهم رغبة في “إمتلاك الحياة” بقواهم الذاتية وبطرقهم الخاصة، بعيداً عن الله وخطته؛ وينتج عن ذلك الأنانية والبخل والقتل والسرقة والاغتصاب لما هو ليس ملكنا. فهذا كلّه ليس إلاّ الرغبة في “إمتلاك الحياة” بطريقة خاطئة. فعندما نرغب في أنْ تكون الحياة لنا، ولنا وحدنا، عندئذ سنرغب في إمتلاك كلّ شيء، فنبدأ في أنْ نحيا لأنفسنا، وعندئذ نتصارع مع كلّ مَن حولنا لئلا يمتلكون هم الحياة وليس نحن، فنبدأ نتصارع معاً، ونتعلّم القتل والذبح والسرقة والنهب، ألم تكن الكراهية خطيئة قائين، فتذكروا ماذا فعل بأخيه (تك 4/1-16)؟! إنَّ الكراهية، في جملة واحدة، ما هي إلا الرغبة في الوجود الدائم بشكل أنانيّ ونرجسيّ، أي الرغبة الخاطئة في الخلود الدائم على الأرض!
أمّا الحبّ، فهو على العكس تماماً مِن كلّ ذلك، فهو بالتحديد “قبول الموت” طوعاً لكي يحيا الأخر؛ أو بكلمات أفضل، هو بالأحرى قبول حبّ الله في أعماقنا، الحبّ الذي يجعلنا مستعدين للتضحيّة بحياتنا في سبيل النمو في علاقتنا بالله وبالأخرين. فحياة مَن يحب حقاً هي موت يوميّ، لأنّ مَن يحبّ يقبل الموت يوميّاً مِن أجل مَن يحبه؛ ففي الواقع، اليوم الذّي قرَّر فيه أنْ يُحبَّ هو اليوم عينه الذّي بدأت فيه مسيرة الموت. والموت هنا ليس بالضرورة موت الجسد، فتأملوا أماً تحبّ أولادها! ماذا تفعل؟ هل تتذمر مِن عملها اليوميّ المضني مِن أجل حياة أولادها؟ أو تأملوا كاهناً أحبّ خدمته، وكرّس حياته مِن أجل رعيته! أنه لا يعتبر شعب رعيته مجموعة أفراد يشتغل عندهم، إنَّما هم أبناؤه الأعزاء على قلبه[1]!
إنَّ هذا هو الحبُّ في أنبل معانيه البشريّة، إنه الرغبة في “الموت” مِن أجل حياة مَن نُحب.
الموت هنا هو موت عن الذات الأنانيّة، والقبول بأنْ نفقد أشخاصاً وأشياء ثمينة يومياً بل وذاتنا أيضاً مِن أجل حبّ الله والبشر الذين هم أبناؤه وإخوتنا.
إنّ الحبّ هو “قبول الموت”، بما في ذلك الموت الجسديّ الذّي يُهدِّد حياتنا اليوميّة. فقبول الموت يعني قبول التَّخلي عن “الحياة” أو بالأحرى التَّخلي عن “إمتلاك الحياة”، فالحياة هي عطية مِن الله، وعليّنا أنْ نأخذها منه بشكرٍ وفرحٍ ونعيدها له بالطريقة التّي يريدها. ولذلك فليتنا نقبل كلَّ الخسائر والمصائب في حياتنا، ونرضى بكلّ الوداعات وكلّ الإهانات وكلّ التنازلات، فهذا هو الحبّ في تعبيره، أيّ قبول خبرة الموت في حياتنا اليوميّة! أجل، ليقل كل واحد منا «لا بدَّ له مِن أنْ يكبر. ولا بدَّ لي مِن أنْ أصغر» (يو 3/30)! فيمكن لكل منا عندئذ أنْ يهتف مع القديس بولس «فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيَّ. وإذا كنت أحيا الآن حياة بشريّة، فإني أحياها في الإيمان بابن الله الذي أحبني وجاد بنفسه مِن أجلي» (غل 2/20). وبهذا الشّكل نستطيع اختبار قيامة المسيح في حياتنا اليوميّة. أجل، إنَّ الحبَّ الحقيقي يُضحّي باستمرار مِن أجل الأخر، «فإنَّ الحبّ قوىٌّ كالموت» (نش 8/6)!
ولنتذكر أخيراً، كلام السيد المسيح نفسه: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إنّ حبة الحنطة التّي تقع في الأرض إنْ لم تمت تبقى وحدها. وإذا ماتت، أخرجت ثمراً كثيراً. مَن أحبّ حياته [الكراهيّة] فقدها ومَن رغب عنها في هذا العالم [الحبّ] حفظها للحياة الأبدية» (يو 12/24- 25).
——————————————————————————–
[1] لقد كتب القديس بولس هذه الكلمات المُعبِّرة لأهل كنيسة تسالونيقي، شارحاً لهم حبّه الكبير: «مع أنَّه كان مِن حقِّنا أنْ نفرض أنفسنا لأنَّنا رسل المسيح. لكن لَطَفْنا بكم كما تحتضن المُرضِعُ أولادها. وبلغ منَّا الحنوُّ عليكم أنَّنا وَدِدْنا لو نجود عليكم، لا ببشارة الله فقط، بل بأنفسنا أيضاً، لأنَّكم أصبحتم أحبَّاء إلينا» (1تس 2/7-8).