stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

روحية ورعوية

الكهنوت بين الزواج والبتوليّة / الأب/ فاضل سيداروس اليسوعيّ

5kviews

dsdالكهنوت بين الزواج والبتوليّة / الأب/ فاضل سيداروس اليسوعيّ

الكهنوت بين الزواج والبتوليّة

إنّ قضيّة الكهنة المتبتّلين أو المتزوّجين دقيقة للغاية، لما فيها من اختلاف في الممارسة بين الشرق والغرب، ولما فيها من حساسيّة في أيّامنا هذه غرباً وشرقاً.

وسنتطرّق إليها من زاويتين متكاملتين، في مقالين متتالين:

أولاً: زاوية تاريخيّة نستعرض فيها تطوّر ممارسة الزواج والبتوليّة في الكهنوت.

ثانياً: زاوية لاهوتيّة روحيّة رعويّة نبيّن فيها خصائص كلّ من الكهنوت المتبتّل والكهنوت المتزوّج. وأملنا أن تقدّم هذه الدراسة بعض العناصر في بحثنا وجدالنا حول الموضوع الذي نحن بصدده، بغية طرح القضيّة طرحاً رزيناً صائباً، بعيداً عن الشعارات والحساسيّات، خاصّة وأنّ طائفتنا القبطية الكاثوليكية تعيش مرحلة دقيقة منذ المجمع الفاتيكانيّ الثاني بعودتها إلى التقليد الشرقيّ في رسامة رجال متزوّجين إلى جانب رجال متبتّلين، وسيشهد لها التاريخ. فعليها من ثمّ أن تعتمد في ممارستها هذه على أساس سليم متين.

أولاً: النظرة التاريخيّة:

يمكننا الاستعانة بأقوال بعض آباء الكنيسة والكتّاب الكنسيّين في الموضوع، ثمّ بقرارات بعض المجامع الإقليمية والمسكونية.

أ) أقوال بعض آباء الكنيسة والكتّاب الكنسيّين:

ترتليانس (155-222) هو أول من تحدّث عن موضوع البتوليّة. وبحسب كلامه يمكننا الاستنتاج أنّ بعض أعضاء الإكليروس كانوا فعلاً متبتّلين، بناء على وصيّة بولس (1قور7/32-40) بل وعلى مثال يسوع نفسه (لو20/34-35)، وبعضهم كانوا فعلاً ذوي زوجة واحدة- بناء على كلام بولس (1طيم 3/2، طيط1/6). ولم تكن البتوليّة في زمنه قاعدة ولا التزاماً، بل ممارسة فعليّة يفضّلها هو شخصياً.

أوريجانس (185-253) يشهد أنّ البتولية كان يمارسها بعض أعضاء الإكليروس لا كلّهم. وقد استنتج بعض المفسّرين أنّه كان يفضّلها على الزواج حين تحدّث عن أبوّة كهنة العهد القديم الجسديّة وهي إشارة إلى أبوّة كهنة العهد الجديد الروحيّة.

يوسابيوس القيصريّ (263-339) هو أول مؤرّخ للكنيسة وتلميذ أوريجانس. ويقول إنّ الإكليروس يتبتّلون لقيامهم بأعمال أسمى وأكثر روحانيّة من تربية عدد صغير من الأبناء، فهم يربّون أعداداً أكبر. وهو يرى أنّه يجب على الأسقف أن يكون ذا زوجة واحدة فقط، كما أنّه يجدر بالأساقفة والقساوسة أن ينقطعوا عن العلاقات الزوجيّة بعد رسامتهم. وأمّا مَن هم دونهم في الدرجة الكهنوتيّة، فلهم حريّة أكبر. وأمّا لسائر المسيحيّين، فالزواج أمر عظيم.

إبيفانيوس (315-403) يشهد أنّ البتوليّة كانت منتشرة لدى جميع درجات الإكليروس، سواء بالتبتّل أو بعدم العلاقات الزوجيّة بعد الرسامة وهذا جدير بالخدمة الكهنوتيّة في نظره. وهو يقوم ضد الذين يخلّفون بعد رسامتهم. ويُرجع هذه الممارسة إلى الرسل أنفسهم. ولكن الواقع الكنسيّ يُدلي بأنّها ليست من عصر الرسل ولا تعود إليهم إطلاقاً.

أمبروسيوس (339-397) يقوم بلهجة عنيفة ضد العلاقات الزوجيّة بعد الرسامة، احتراماً للذبيحة الإلهيّة التي يقوم بها الأساقفة والقساوسة، ممّا يثبت وجود تلك العلاقات. وعامّة إنّ نظرته إلى العلاقات الزوجيّة سلبيّة، فيعتبر أنّها تدنّس مَن يمارسها. ولقد أثّر تأثيراً بالغاً في الغرب.

أوغسطينوس (354-430) يُظهر تفضيل الشعب التّقي أن ينقطع جميع أعضاء الإكليروس عن العلاقات الزوجيّة. وهو يشهد أنّ الانقطاع هذا كان مفروضاً عليهم رغم افتقادهم له.

غريغوريوس النزينزيّ (329-390) هو ابن أسقف أنجبه بعد رسامته. ورغم ذلك فهو يشهد أنّ الانقطاع عن العلاقات الزوجيّة أمر مفروض على المرسومين. غير أنّه يطلب من المؤمنين ألاّ يرفضوا المعموديّة عن يد قساوسة متزوّجين.

قوانين الرسل القدّيسين (300) لا يُجيز ترك الزوجة عند الرسامة، غير أنّه يحظر الزواج بعد الرسامة، شرقاً وغرباً.

ب) قرارات بعض المجامع الإقليميّة والمسكونيّة:

إنّ قضية المجامع في ما نحن بصدده معقّدة، لأن الممارسات اختلفت غرباً وشرقاً. فسنوضّح أوّلاً ما هو جامع بين الشرق والغرب، ثمّ ما هو خاصّ بالشرق، فما هو خاصّ بالغرب.

إنّ “قوانين الرسل القدّيسين” (300) التي أشرنا إليها، ألزمت الكنائس شرقاً وغرباً بألا يجوز ترك الزوجة بعد الرسامة، كما حظرت الزواج بعد الرسامة. وعلى مجمع نيقيا (325)، يقول المؤرّخ سقراط (439) إنّ بعض الأساقفة أرادوا إدخال عادة جديدة، ألا وهي انقطاع الأساقفة والقساوسة والشمامسة عن العلاقات الزوجيّة. غير أنّ أحد الأساقفة- من صعيد مصر- قد اعترض على ذلك ليقل هذا الحمل على الإكليريكيّ وزوجته، وإن كان هو شخصيّاً قد انقطع فعلاً عن العلاقات الزوجيّة. كما اعترض أسقف آخر طاعن في السنّ واسمه بافنوتيوس، معتبراً أنّ العلاقات الزوجيّة نوع من الطهارة، فيكفي بالتالي منع الزواج بعد الرسامة كما هو متّبع بموجب تقليد قديم في الكنيسة؛ وأمّا العلاقات الزوجيّة فمتروكة لحريّة الأشخاص المعنّيين. وبالفعل ترك مجمع نيقيا موضوع العلاقات الزوجيّة لحريّة المعنيّين.

شرقاً: في القسطنطينية، أمر الإمبراطور يوستينيانس في القرن السادس بعدم الرسامة الأسقفية لمن لهم أولاد، وكان هدفه ألا تتوزع أملاكهم على أولادهم. وفي سنة 692، انعقد في القسطنطينية مجمع ترولّو (أي “القبّة”)، فقرّر ألا يجوز للأسقف أن يعيش مع امرأته، فأمر بانسحابها في دير من الأديرة البعيدة منه، على أن يتكفّل بجميع احتياجاتها الماديّة. وعلى خلاف الأساقفة، كان القساوسة والشمامسة يعيشون مع زوجاتهم ويمارسون الحياة الزوجية بصورة طبيعيّة، إلا قبل الإفخارستيا بثلاثة أيام (استناداً إلى شريعة العهد القديم)، مما أدى في الشرق إلى عدم القيام بالقدّاس اليوميّ. وقد أكّد هذا المجمع “قوانين الرسل القدّيسين” في عدم السماح بالزواج بعد الرسامة.

غرباً: في سنة 386، انعقد مجمع إقليميّ في روما مع الأسقف سيريسيوس (Sirice). وقد قرّر تحريم العلاقات الزوجيّة على القساوسة والشمامسة، ممّا يعني ضمناً أنّ الأساقفة كانوا من قبله لا يمارسونها. وإذ حاول المجمع أن يبرّر هذا القرار، فقد ارتأى له- على مثال امبروسيوس- أنّ المسيح يريد كنيسته عروساً له طاهرة، يتّحد بها في الإفخارستيّا خاصّة. وقد انتشر قرار المجمع في الغرب وفي افريقيا الشماليّة. ويختلف قراره عما قرّره مجمع ترولّو الشرقيّ من بعده بالسماح بالعلاقات الزوجيّة ما عدا قبل الإفخارستيّا.

وفي سنة 419، انعقد في افريقيا الشماليّة مجمع قرطاجة الذي حرّم العلاقات الزوجيّة على الأساقفة والقساوسة والشمامسة، تحت طائلة الحرمان من الخدمة. إنّ هذين المجمعين ظلا حبراً على ورق، فضلاً عن أنّ العديد من الإكليروس كانوا يتزوّجون بعد رسامتهم. وكي يضع حداً لهذه الحالة من الفوضى، حرّم البابا غريغوريوس السابع (1073-1085) الزواج بعد الرسامة، معتبراً أيّ زواج من هذا النوع باطلاً، كما أنّه ألحّ في ضرورة الانفصال عن الزوجة. وأكّد على ذلك مجمع لاتران الثاني (1139).

ويمكن تحديد تبتل الإكليروس في الغرب ابتداء من القرن 12، غير أن أخلاق الإكليروس خالفت جميع قوانين الكنيسة، فطالب العديد من الأساقفة السماح بكهنوت متزوّج على غرار تقليد الكنائس الشرقيّة. وقد بتّ المجمع التريدنتينيّ (1545-1563) في هذا الموضوع. مثبّتاً التقليد الغربيّ- المختلف عن الشرقيّ- بكهنوت متبتّل فحسب. وكذلك الأمر هو بالنسبة إلى المجمع الفاتيكانيّ الثاني، والمعروف أنّ البابا بولس السادس، سحب من مناقشات المجمع هذا الموضوع.

جـ) بعض الإستنتاجات التاريخيّة:

1-  ليس التبتّل شرطاً مفروضاً على الأساقفة أو القساوسة أو الشمامسة. فحتّى القرن السابع كان الأساقفة الشرقيّون متزوّجين، وإن اتّجهوا نحو عدم معايشة زوجاتهم. وحتّى القرن الثاني عشر كان القساوسة الغربيّون متزوّجين. غير أنّ الاتّجاه العام كان أنّ البتوليّة “لائقة وجديرة” بالكهنوت، شرقاً وغرباً.

2-  لا يعتمد تحريم الزواج بعد الرسامة الكهنوتيّة، على وصيّة بولس بأن يكون الأسقف ذا “امرأة واحدة”- فهذه العبارة تعني الأمانة الزوجيّة، لا عدم الزواج الثاني في حالة وفاة الزوجة- بل على “قوانين الرسل القديسين” في القرن الثالث. وليس هذا التحريم بوصيّة إلهيّة. ولم يستتّب الأمر نهائياً بالغرب إلا في القرن الثاني عشر.

3-  فُرض الانقطاع عن العلاقات الزوجيّة تدريجيّاً، فابتدأ بالأساقفة، وامتدّ إلى القساوسة. وأمّا بالنسبة إلى الأساقفة، فقد فرضه الإمبراطور بالشرق في القرن السابع، لأسباب اقتصاديّة لا روحيّة أو رعويّة. وفي أفريقيا الشماليّة كان الأساقفة متزوّجين على الأقلّ حتّى القرن الخامس، وفي الغرب على الأقلّ حتّى القرن الرابع. وأمّا بالنسبة إلى القساوسة، فارتبط الانقطاع عن العلاقات الزوجيّة بالذبيحة الإلهيّة، وأمّا خارجها فكانت الحياة الزوجيّة عاديّة.

4-  لاقت التوصيات والقرارات الكنسيّة (في النقاط الثلاث المذكورة) صعوبات جمّة في التنفيذ. ورغم ذلك، تمسكت بها السلطات الكنسيّة، فتوصّلت تدريجياً إلى نظامين مختلفين حيث الإكليروس المتزوّج شرقاً والمتبتّل غرباً. غير أنّ تبتّل الأساقفة ساد في الشرق والغرب (على خلاف الكنيسة الأنجليكانيّة).

النظرة اللاهوتيّة والروحيّة والرعويّة

يكمن الفرق بين الكهنوت المتبتل والكهنوت المتزوج في أن الكهنوت خدمة كنسية، بيد أن البتولية موهبة كنسية. إن الكهنوت “آية” للمسيح، وأما البتولية “فموهبة من الروح القدس”[1]. صحيح أن كلاً منهما لبنيان جسد المسيح، وكلاً منهما دعوة. إما للخدمة وإما للبتولية- غير أن البتولية دعوة خاصة للبعض، يدعو إليها الرب مَن يشاء، لا لأجل خدمة تأسيسية مثل الكهنوت، بل لأجل الاقتداء بالمسيح. وتعتبر البتولية دعوة خاصة لأن القصد الإلهي العادي والطبيعي هو الزواج- “انموا وتكاثروا”- كما قال الله في البدء- ولكن الله يدعو بعضهم إلى البتولية- كهنة كانوا أو رهباناً. ومن هذا المنطلق يمكن التأكيد أن ليست إحدى الحالتين أفضل من الأخرى، فلا البتولية أفضل من الزواج ولا الزواج أفضل من البتولية، فلا حالة أفضل “في حد ذاتها”، بل إن هذه الحالة أو تلك هي أفضل “بالنسبة إلى هذا أو ذاك”، على حسب ما يدعو إليه المسيح وبموجب ما يمنحه الروح من موهبة. ويجدر بنا أن نُظهر السند اللاهوتي والروحي والرعوي للكهنوت المتبتل من ناحية، وللكهنوت المتزوج من ناحية أخرى.

‌أ)    الكهنوت المتبتّل

إذا تساءلنا عمّا يربط الكهنوت بالبتولية، ميّزنا المستويات الآتية:

1-   العلاقة التمثيلية مع يسوع المسيح

يمثّل الكاهن المسيح- الرأس للكنيسة- الجسد. ويمثّل المتبتّل المسيح- العريس للكنيسة- العروس. فإن جمع أحد بين الكهنوت والبتولية، مثّل صورة أشمل لشخص المسيح، فأصبح لشعبه “آية” واضحة للمسيح-الرأس-العريس. كما أن الكاهن يمثّل لشعبه المسيح- الابن المتفرّغ كليّة “لأبيه” (لو2/49) حتّى إنه تبتّل في أيام حياته الأرضية في سبيل ذلك. وبالتالي يُصبح الكاهن المتبتّل لشعبه “آية” واضحة للمسيح-الابن-المتبتّل. فإن بتولية يسوع سمة من سمات شخصه؛ فقد تمّ تجسّد الله الكلمة في البتولية- كما قال كيرلس الأورشليمي- وعاش يسوع حياته الأرضية بتولاً[2] ودعا بعضهم إليه في سبيل الملكوت (مت19/12)، ذلك لأن الزمان يتغيّر بمجيء الله في الجسد، فأصبح المسيحيون يحيون “ملء الأزمنة” (غل4/4) و “منتهى الأزمنة” (1كور 10/11)، وبالتالي “إن الزمان يتقاصر” مما يدعو إلى البتولية (1كور 7/29).

2-   العلاقة مع الكنيسة المقدسة

يرتبط الكهنوت بقداسة الكنيسة، تلك القداسة الآتية من المسيح- الرأس، ارتباطاً موضوعياً، فيصبح هكذا الكاهن لشعبه “آية” للمسيح- الرأس الذي يضحي بنفسه من أجلها ليطهرها بماء الاستحمام ويخلّصها فيقدسها (أف 5/21ت). وأما المتبتل فمرتبط بقداسة الكنيسة ارتباطاً ذاتياً، بمعنى أنه يتجاوب ودعوة المسيح- العريس. أو- بتعبير آخر- إن الكاهن مكلّف تكليفاً كنسياً بأن يُظهر لشعبه أن الرب يقدّس كنيسته. وأما المتبتّل فشاهد للكنيسة التي تتقبّل من الرب قداستها وتتجاوب معه. فالزاويتان متقابلتان: إن الكاهن هو من جهة مبادرة الله المقدس، وإن المتبتّل هو من جهة تجاوب الكنيسة المقدسة. وهذا هو التكامل بين “السر”- الآتي من مبادرة المسيح- و “الموهبة”- الآتية من الروح القدس- وبالتالي، إذا جمع شخص واحد بين البُعدين- الكهنوت والبتولية- أصبح “آية” لقداسة الكنيسة كعطية من الله وكتجاوب منها، كمبادرة من المسيح- الرأس وكموهبة من الروح القدس، فأظهر قداسة الكنيسة بصورة أشمل وأكمل، موضوعياً وذاتياً معاً.

3-   العلاقة الروحية مع الشعب

تتميز علاقة الكاهن مع شعبه بأنها علاقة “أبوة روحية”، أبوة “أب شامل” لجميع أبناء رعيته، أبوّة أب يحبهم بمحبة الله الآب محبة شاملة فهو “آية” لله الآب. كما أن الكاهن يلد أبناء للمسيح ولحياة المسيح- كما كان بولس يفخر به- فلا ينجب أبناء بحسب الجسد، بل بحسب الروح (غل 4/19). فضلاً عن أنّه يقودهم نحو المسيح، مثل يوحنا المعمدان- “صديق العريس”- الذي لم يحتكر ولم يتمسّك بالعروس. وإنّه لمن صميم البتولية أن تُخصّب خصوبة روحية- لا جسدية- بمحبة شاملة وبولادة روحية وبحرية داخلية. فالجمع بين الكهنوت والبتولية يعبّر تعبيراً واضحاً عن هذه الحقائق.

4-   عدم الانقسام بين الخدمة والأسرة

تتطلب الخدمة الكهنوتية روحاً استعدادية كاملة وتفرّغاً لها تاماً. ومن أجل ذلك، تؤهّل البتولية الكاهن لتحقيق هذا بقلب “غير منقسم”- بحسب تعبير بولس في (1كور 7/32ت)- بين خدمته وأمور بيته. فضلاً عن أن المتبتل يتفرّغ لخدمة كلمة الله (مر29/10…) للشعب ولرعايته رعاية في الأمور الروحية والمعنوية والاجتماعية…

5-   الخلاصة

لا نجد في أي نص من نصوص العهد الجديد ولا عند آباء الكنيسة فرضاً يحتّم البتولية. فليست البتولية في الكهنوت من باب “الواجب” أو “الضرورة”، بل هي من باب “الملائمة”، فإنها “تلائم” الحالة الكهنوتية (العلاقة مع المسيح والكنيسة) والخدمة الكهنوتية (العلاقة مع الشعب وخدمته).

‌ب)           الكهنوت المتزوّج

إذا حاولنا أن نرسم ملامح الكهنوت المتزوّج، وجدناها مزدوجة إذ تشمل كل ما سري الكهنوت والزواج من معانٍ لاهوتية وروحية ورعوية لا نتحدث عنها هنا، مقتصرين على ما هو خاص بالكهنوت المتزوّج.

1-   المعيار الذاتي والموضوعي

تتضافر الناحية الذاتية والناحية الموضوعية في اختيار الزواج أو البتولية، فإن كان المرشح إلى الخدمة الكهنوتية مدعواً إلى الزواج- بحكم الطبيعة البشرية دون أن يشعر بدعوة خاصة إلى البتولية- فهذا معيار ذاتي لاختياره الكهنوت المتزوج. وإن احتاج شعب معين إلى كاهن، فوجد رجلاً متزوجاً يقبل تكليف الكنيسة له بهذه الخدمة، فهذا معيار موضوعي لاختيار الكهنوت المتزوج. هناك إذاً هذان المعياران.

2-   شهادة أسرة مسيحية

إن الشهادة المسيحية التي يؤديها الكاهن المتزوج وأسرته، لمن مهام الكهنوت المتزوج. ففي عصر فقدت فيه الأسرة روابطها ومعنى مسيحيتها، تجسد أسرة الكاهن المتزوج الزواج المسيحي كسر اتحاد الكنيسة بالمسيح، وتصبح “آية” حقيقية شفافة لحب المسيح لكنيسته وتضحيته لأجلها، بحسب تعاليم بولس الرسول (أف 5/21ت). ثم إن ممارسة الكاهن المتزوج للحياة الزوجية- على خلاف ما وجدناه في جولتنا التاريخية من نظرة سلبية إلى الجنس- تثبّت قدسية الحياة الزوجية، ولا سيما الجنس الذي خلقه الله؛ كما أنها تؤكّد أن الطهارة فضيلة مسيحية لا يستأثر بها المتبتلون، بل تختص بالمتزوجين أيضاً، وذلك بمقتضى سر المعمودية. فكان العديد من مسيحيي القرون الأولى يتبتلون لا بصفة نهائية فحسب- كالعذارى والرهبان- بل بصفة مؤقتة أيضاً، في داخل الزواج، “إلى حين”، تفرغاً للصلاة، كما يوصي به بولس (1كور 7/5ت). فعن ذلك يشهد الكاهن المتزوج بصفة خاصة.

3-   إشارة إلى أبوّة الله الآب

إن الكاهن المتزوج مدعو- بحكم أبوّته الجسديّة- إلى أن يعكس أبوّة الله الآب لشعبه. فينعكس اختباره الشخصيّ- كأب- على خدمته، في معاملته مع شعبه الذي يجد في الكاهن المتزوج، صورةً حيّة لله الآب المحب والرحيم، الحنون والعطوف.

4-   خدمة أسرة مسيحية

إن كان الكاهن المتزوّج يكرّس لأسرته وقتاً قد يكون على حساب خدمته لرعيته، غير أن تعاون زوجته في الخدمة- ولا سيّما مع النساء- وكذلك أبنائه- ولا سيّما مع الشباب- يعوّض بالقدر الكافي ما يكرّسه من وقت لأسرته. بل إنّه يبلور الخدمة في رعيّته حول أسرته كنواة للخدمة وكمركز إشعاع لها. الأمر الذي يوحّد بين خدمة الكاهن وخدمة العلمانيين؛ فكثيراً ما تعاني الكنيسة من فجوة بين الإكليروس والشعب، وبالتالي ينعكس إيجابياً تعاون أسرة الكاهن المتزوّج على العلاقة داخل الرعيّة بين الكاهن والعلمانيين.

5-   الإحساس بالشعب

إنّ ارتباط الكاهن المتزوّج بأسرة، يؤهّله للإحساس بهموم العائلات ومشاكل الأشخاص وقضايا المجتمع، فتتسم خدمته ورعايته سمة واقعية قريبة من الناس وحاجاتهم وتطلعاتهم.

‌ج)             الخاتمة

حاولنا في هذه الصفحات أن نحلّل موضوعياً الأعماق اللاهوتيّة والروحية والرعويّة للكهنوت المتزوّج والكهنوت المتبتّل، بدون أن نأخذ موقفاً تفضيلياً لأحدهما، لأنّه لا أفضلية لأحدهما على الآخر، بل إن المسألة مسألة دعوة- كما قلنا- فالله هو الذي يدعو إلى هذه الحالة أو تلك.

ومن جهة أخرى، فإن كان كاتب هذه الصفحات كاهناً متبتلاً، نأمل أن يعبّر كاهن متزوج عما يختبره لاهوتياً وروحياً ورعوياً ككاهن متزوج. فيجب على الحديث اللاهوتي والروحي والرعوي أن ينطلق من اختبار حيّ، لا أن يسبقه. فاختبار الكهنة المتزوجين أمر مهم حيوي للكنيسة. فإن كان الكهنوت المتبتّل قد حظي في تاريخ الكنيسة بتأملات لاهوتية وروحية ورعوية وافرة، إلا أن الكهنوت المتزوج لم يُثر بعد الكنيسة لاهوتياً وروحياً ورعوياً. وهذا ما تنتظره كنيسة اليوم، ولا سيما طائفتنا القبطية الكاثوليكية.

عن مجلة صديق الكاهن

——————————————————————————-

[1] إن هذه التعابير واردة في كتابنا المزمع نشره ضمن “سر الكهنوت”.

[2] راجع في هذا الصدد كتابنا: خواطر في التبتّل المكرّس- سلسلة “موسوعة المعرفة المسيحية- الحياة الروحية رقم3- دار المشرق- بيروت- 1991.

تم التحديث فى ( الأربعاء, 02 سبتمبر 2009 18:09 )