اللاهوت الإرسالي- الأنبا/ يؤانس زكريا
فيما يلي نقدّم قراءة تفسيريّة لوثيقة “مرسوم نشاط الكنيسة الإرساليّ”، الذي يتكوّن من مقدّمة وستّة فصول، مع التحليل والشرح الوجيز. للمزيد من الفائدة والوضوح، حافظت هذه القراءة على نفس تقسيم الفصول والأرقام وعناوين الفقرات، مثلما وردت في ترجمة المرسوم العربيّة في كتاب: وثائق المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثانيّ، الطبعة الثالثة، المكتبة الكاثوليكيّة، السكاكيني، القاهرة 2000.
“مرسوم نشاط الكنيسة الإرساليّ”
1. مقدمة:
يبدأ المرسوم بتعريف الكنيسة بأنّها ملح الأرض ونور العالم، وهي مرسلة من الله إلى الأمم لتكون سرّ خلاص كل البشر، وعليها أن تعلن بشارة الإنجيل في كل أنحاء العالم، وذلك لطبيعتها الإرساليّة، وطاعة لأمر مؤسّسها يسوع المسيح، واقتداءً بعمل الرسل، الذين بشّروا بكلمة الحق، وأسّسوا الكنائس في بلاد عديدة. اليوم، مع ظروف العالم المتقلّبة، الكنيسة مدعوّة، بكل إلحاح، للعمل على خلاص وتجديد كل إنسان، حتّى يتصالح الجميع مع الله في المسيح، ويتّحد البشر في أسرة واحدة، ويكونوا شعبًا واحدًا للرب. يقدّم المجمع شكره وحمده لله على عمل الكنيسة الإرساليّ في الماضي، ويرجو تجديد هذا النشاط، وتوحيد كل الجهود التبشيريّة لنشر الإنجيل في العالم.
الفصل الأوّل: المبادئ العقائديّة
2. قصد الآب:
الكنيسة في مسيرتها وخدمتها الأرضيّة، هي بطبيعتها إرساليّة، وهى تستمد أصل إرساليتها، حسب تدبير الله الآب، من رسالة الابن ورسالة الروح القدس. إن مصدر الرسالة الأساسيّ هو التدبير الإلهيّ لخلاص البشر، وينبع هذا التدبير من محبة الله الآب، الذي خلقنا ودعانا لكي نكون أبناءه وشعبه، ونشترك في حياته ومجده، حتى يكون “الله الكل في الكل” (1كور15: 28).
3. رسالة الابن:
أظهر الله محبته للبشر، واهتمامه بخلاصهم، بعد خطيئة آدم وحواء، لذلك أرسل ابنه الحبيب لكي يخلص العالم ويكون وسيطًا بينه وبين البشر. وهكذا تجسّد المسيح في طبيعتنا البشرية ليكون معنا، وعاش معيشتنا، مشاركًا إيّانا في كل شيء ما عدا الخطيئة، وجال فيما بيننا يعمل خيرًا، ومات معلّقًا فوق الصليب، وقام من بين الأموات من أجل خلاصنا. كل ما فعله المسيح على الأرض لأجل خلاص البشر، يجب أن يُعلن ويُبشّر به في كل أنحاء العالم، وعلي مدى كل الأيام والأجيال.
4. رسالة الروح القدس:
من أجل استمرارية خدمة ورسالة المسيح، والكرازة بها في جميع أنحاء العالم، أسّس الرب يسوع الكنيسة من خلال تلاميذه ورسله، ولكي يتمّم تقديسهم ويقوّي ضعفهم، ويساندهم في عمل الكرازة ونشر رسالة الخلاص في العالم، أرسل لهم، من عند الآب، الروح القدس في “يوم الخمسين”، ليحلّ عليهم ويقيم معهم للأبد، ويملأهم بمواهبه وعطاياه. الروح القدس هو القوة الدافعة للخدمة، ونشر إنجيل ورسالة المسيح، مثلما بدأت رسالة الابن بتجسّد كلمة الآب وحلول الروح القدس على مريم العذراء، وانطلقت خدمة المسيح بحلول الروح القدس عليه عندما اعتمد في نهر الأردن، كذلك تبدأ الكنيسة رسالتها في العالم بحلول الروح القدس في “يوم الخمسين”. يعمل الروح القدس على توحيد وتوجيه جميع خدمات الكنيسة الإرساليّة، ويحييها بالنعم الإلهيّة، ويزوّدها بالمواهب المتنوّعة، ويبث في قلوب المؤمنين ذات الروح الرسوليّة التي كانت تحرّك المسيح في خدمته ورسالته.
5. المسيح يرسل كنيسته:
في ضوء تدبير الثالوث القدّوس لخلاص البشريّة، يتّضح لنا بأن الكنيسة صادرة ومُرسَلة من الابن الكلمة. اختار الرب يسوع تلاميذه ورسله ليكونوا نواة شعب الله الجديد، وأعطاهم كل سلطان في السماء وعلى الأرض، وبعد أن أتمّ سر الفداء بموته وقيامته، وقبل صعوده للسماء، مثلما أرسله الآب لخلاص البشر، كذلك يرسل تلاميذه ورسله وكنيسته إلى العالم أجمع، ويأمرهم قائلا: “اذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به” (مت28: 20-19). نظرًا لأهميّة وصية وتكليف المسيح لتلاميذه بواجب إعلان بشارة الإنجيل في المسكونة كلها، نرى أن هذه الوصية والتكليف يتردّد صداهما في الأناجيل الأخرى وكتاب أعمال الرسل: (مر16: 16-15، لو24: 49-47، يو20: 23-21، أع 1: 8). انطلاقًا من هذه الوصية، يقع على عاتق أبناء الكنيسة كلهم مهمة نشر الإيمان وإعلان الإنجيل، وذلك بموجب التفويض الذي ورثه الأساقفة والرعاة عن الرسل، وأيضًا بموجب النعم الإلهيّة التي يفيضها المسيح في قلوب المؤمنين من خلال سرّ العماد والأسرار المقدّسة. بما أن هذه الرسالة تواصل وتوضّح، عبر الأجيال، وفي كل بقاع العالم، رسالة المسيح ذاته، لذلك يتطلّب عملها من التلميذ الذي يقوم بها أن يتحلّى بنفس روح المسيح، أي روح الفقر والطاعة والخدمة والمحبة والتضحية وبذل الذات حتّى الموت. بهذه الطريقة أتمّ الرسل، والجيل الأوّل من المسيحيين، رسالتهم، وتحمّلوا الشدائد والآلام العديدة، واستشهدوا في سبيل نشر الإيمان بالمسيح.
6. النشاط الإرساليّ:
مهمة النشاط الإرساليّ هي واجب مقدّس يقع على عاتق الكنيسة بأسرها، وخاصّة الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيّين. ويختلف أسلوب ممارسة هذه المهمة من مكان لآخر حسب أحوال وظروف كل موقع. تقوم خدمة النشاط الإرساليّ في التبشير برسالة الإنجيل، ونشر الإيمان بين غير المؤمنين، ومساعدتهم علي قبول الإيمان والخلاص بالمسيح ونوال سرّ العماد، وزرع وتأسيس كنائس جديدة محليّة في المجتمعات التي لا تعرف الإنجيل ولا تؤمن بالمسيح. يهدف النشاط الإرساليّ إلى جمع وتوحيد البشر في أسرة واحدة، ليكونوا شعبًا واحدًا جديدًا لله، ويعرفوا محبة الله للبشر، الذي يحبهم محبة الآب لأبنائه. من واجبات كل كنيسة، مهما كانت ظروفها أو أوضاعها، سواء كانت حديثة التأسيس أم عريقة القدم، القيام بالنشاط الإرساليّ والكرازة بالإنجيل، والتغلّب على الصعوبات والعراقيل التي تحول دون إتمام هذا العمل، لأن توقّف الخدمة الإرساليّة، معناه مخالفة وصية وأمر المسيح بضرورة الكرازة، وتجمّد الكنيسة. يجب مواصلة الصلاة والعمل من أجل تحقيق الوحدة المسيحيّة، لأن انقسام المسيحيين يسيء بصورة بالغة إلى خدمة الكرازة بالإنجيل لكل الخليقة، ويشكّك الكثيرين في جدية العمل الكنسيّ، ويغلق أمام غير المؤمنين طريق الإيمان. في هذا الصدد، نتذكّر صلاة الرب يسوع من أجل وحدة تلاميذه، والتي تبيّن لنا العلاقة بين وحدة المؤمنين وإيمان العالم بالمسيح وإرساليته من الآب: “اجعلهم كلهم واحدا، ليكونوا واحدا فينا، أيها الآب مثلما أنت فيّ وأنا فيك، فيؤمن العالم أنك أرسلتني… لتكون وحدتهم كاملة ويعرف العالم أنك أرسلتني” (يو17: 21، 23 ).
7. دواعي النشاط الإرساليّ وضرورته:
يستمد النشاط الإرساليّ ضرورته من إرادة الله، الذي يريد خلاص واهتداء جميع البشر. حيث إن الوسيط الوحيد بين الله والناس هو يسوع المسيح، والذي “ليس بأحد غيره الخلاص” (أع 4: 12)، لذلك يجب دعوة غير المؤمنين، بواسطة النشاط الإرساليّ، إلى معرفة يسوع المسيح والإيمان به، ثم قبول سرّ العماد والانضمام للكنيسة. لهذا السبب، فإن تبشير غير المؤمنين هو واجب وحق مقدّس للكنيسة، وينبغي على نشاطها الإرساليّ أن يتجدّد ويتطوّر ويحتفظ بكامل فعاليته وضرورته. يعمل النشاط الإرساليّ علي جمع وتوحيد البشر من كل الأمم، ويكّون منهم شعبًا واحدًا لله، ويُشركهم في جسد المسيح الواحد، ويجعلهم يسلكون بروح المحبة والسلام والأخوّة، فيتمجّد الله، ويتحقّق تدبير محبته لخلاص وتوحيد الجنس البشريّ.
8. النشاط الإرساليّ في حياة البشريّة وتاريخها:
يرتبط النشاط الإرساليّ برغبات وآمال الطبيعة البشريّة، التي تأمل في حياة مشبّعة بالمحبة الأخويّة والصدق وروح السلام والكرامة، ولا يمكن تحقيق هذه الحياة، بعيدًا عن، وبدون المسيح، الذي هو المبدأ والمثل الصالح للبشريّة المجدّدة. أتى المسيح ليحقّق خلاص الإنسان، ويحرّره من براثن الشر والخطيئة والجهل والظلام، وعلى مثال المسيح، تكون رسالة الكنيسة مواصلة وتكملة عمل المسيح، فتعمل على تحرير الإنسان من قيود الآلام والظلم والاضطهادات، وتخليصه من أخطار عالم اليوم، الذي تسوده الأنانيّة والتسلّط الماديّ والصراعات والحروب. أتى المسيح من أجل خلاص العالم كله والشعوب كافّة، يهودًا وسامريين وأممًا، وعلى مثال المسيح، فإنّ رسالة الكنيسة وكرازتها بالإنجيل موجّهة إلى البشر والأمم كافة، بدون تمييز الجنس أو القوميّة أو العنصر أو اللغة أو لون البشرة، لأن البشر كلهم يحتاجون إلى يسوع المثل والمعلّم والمحرّر والمخلّص والمحيي. في هذا الصدد، نتذكّر القدّيس دانيال كمبوني (1831-1881)، الذي كرّس حياته من أجل تبشير سكان أفريقيا السود، في زمن ظنّ بعضهم أن سود أفريقيا وأمريكا لا يمتلكون نفوسًا مثل نفوس البيض، ولا يستحقون أن يكونوا من بين المدعوين للخدمة الكهنوتيّة والمكرّسين لعمل الرسالة. عندما لاحظ صعوبة تأقلّم المرسل الأبيض في القارة الأفريقيّة، وإصابته بالأمراض القاتلة، واستشهاد الكثيرين على أيدي القبائل البدائيّة، قدم في عام 1864- تقريبًا مائة عام قبل انعقاد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني- مشروعه الإرساليّ لتبشير أفريقيا بواسطة الأفريقيين أنفسهم، بعد إعدادهم وتكوينهم للقيام بالخدمة الإرساليّة.
9. النشاط الإرساليّ وطابعه الأخيريّ (الإسكاتولوجي):
يقع زمن النشاط الإرساليّ بين مجئ المسيح الأوّل للتجسّد ومجيئه الثاني لدينونة العالم، ولكي تكون هذه الدينونة إيجابية للإنسان، لذلك ينبغي أن يكرز بالإنجيل في جميع الأمم. يجعل النشاط الإرساليّ المسيح حاضرًا وسط البشر، بواسطة كلمة الكرازة وممارسة الأسرار، خاصّة سر القربان المقدس. يحطّم هذا الحضور مملكة الشر والخطيئة، ويطهّر شعب الله الجديد من كل معصية، وينقّيه من كل إثم، وينمّيه ويكمّله ليكون مستعدًا لملاقاة الرب في اليوم الأخير، فيفوز بالحياة الأبديّة، ويتّحد بكنيسة السماء المنتصرة.
عن مجلة صديق الكاهن العدد الرابع 2008