الموت ليس الكلمة الأخيرة
نقلا عن الفاتيكان نيوز
2 نوفمبر 2020
كتب : فتحي ميلاد – المكتب الأعلامي الكاثوليكي بمصر.
بكم من الأساليب أجاب باباوات الحداثة على القلق الوجودي للإنسان بشأن مرور الوقت ومحدودية الحياة؟ كل واحد وبحسب مآسي زمنه التي أكدت من ناحية بشكل مختلف هذه النهاية لكنها تستمر من ناحية أخرى في إيجاد الجواب في اليقين بالقيامة.
“ومن ثمَّ نفكر في الموتى؛ في موتانا. إنها ذاكرة ضرورية: كل ما نحن عليه وما نملكه، يمكننا القول، يأتينا منهم. إنها ذكرى نافعة تجعلنا صالحين وحكيمين وأتقياء. وتملأنا بذكريات لا تنتهي في حنين يائس إلى الماضي؛ لكنها تساعدنا على العيش بشكل جيد، وعلى الرجاء، والصلاة” بهذه الكلمات تحدّث البابا بولس السادس عن الموت في كلمته قبل تلاوة صلاة التبشير الملائكي في الأول من تشرين الثاني عام ١۹٦٨ مسلّطًا الضوء على قيمة الذكرى والذاكرة وأضاف: هذه الذكرى هي تقوى بشرية: لقد ورثنا الحياة من الأموات. وهي ذكرى حكيمة جدا؛ ومعلّمة للتاريخ، تخبرنا عن الثمن الذي دُفع من أجل حضارتنا، وفي كثير من الحالات أيضًا مقابل حريتنا؛ وتعيدنا إلى ضفاف ذلك النهر الثمين، الذي يُطلق عليه اسم التقليد، نهر غالبًا ما يُنسى وتفرقه الثورات والمتمردين ومن ثم المحافظون العنيدون؛ نهر، لا غنى عنه لنا دائمًا، عندما يحمل لنا مياه الإنجيل النقية والحيّة على الدوام. ثم يصبح درس الذكريات درسًا في فلسفة الحياة وبقاء الإنسان ما بعد الموت.
ومن التقليد تحديدًا، من الحفاظ على ذاكرة الذين تركونا، يتم تعزيز معنى الإنجيل واستمرارية وأبدية إعلان المسيح. ولاسيما في زمن … “يحرق الزمن والمراحل”، في ما يُعرف بالقرن القصير. وهكذا يصبح التأمّل حول الموت تأملاً حول الزمن والأبديّة كما أكّد البابا بولس السادس في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر عام ١۹٧٥: يصبح الموت حجر الزاوية في الحكم على الوقت، وعلى القيم التي يولدها الوقت ثم يلتهمها، وعلى تلك القيم التي تتجاوز الزمن، أولاً حياتنا؛ أليست النفس البشرية خالدة؟ وهل تنقل مصيرنا إلى ما بعد الزمان ما وراء موت الجسد؟ أليست هذه هي أكبر مشكلة لوجودنا؟ مشكلة كبيرة جدًا، حلها الإيجابي يدعم الإنسان، حتى في تقييم حياته الحالية، وغامض جدًا لدرجة أن وحدها كلمة الإيمان الحي يمكنها أن تضيء بالنور والرجاء؛ وبفضل هذا النور وهذا الرجاء بالتحديد، تكون قبور موتانا عزيزة علينا.
كل عصر يشهد الموت في سياقات مختلفة. وقد شهد منتصف القرن الماضي انتشاره بعنف في مدن حول العالم بسبب الحرب. دمار وأنقاض وألم لا يعرف نهاية… لذلك وفي خضم الصراع، بث البابا بيوس الثاني عشر رسالة إذاعية بمناسبة عيد الميلاد. كان ذلك في الرابع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) ١۹٤٣، وإزاء الشفقة أمام القبور البعيدة التي ربما قد بقيت مجهولة أيضًا، أشار إلى ما يميزنا نحن المسيحيين: … يفقد موت هذه الحياة الأرضية وآلامها مرارتهم المؤلمة بالنسبة للذين يستطيعون، بضمير هادئ، أن يتبنّوا صلاة الكنيسة المؤثرة في القداس من أجل الموتى: “بالنسبة لمؤمنيك، يا رب، تتغير الحياة، ولكنّها لا تُنزع منهم، وعندما يذوب هذا المسكن الأرضي، يُعدُّ لهم مسكنًا أبديًّا في السماء”. بينما يجد الآخرون، الذين ليس لديهم رجاء، أنفسهم أمام هاوية مخيفة، وأيديهم تتلمس طريقها بحثًا عن نقطة دعم، تجد العدم، ليس لنفس خالدة، وإنما لسعادة دنيوية زائلة؛ أما أنتم، وبفضل نعمة الله الرحيم وتحريره، بعد موت مؤكد … لديكم العزاء الإلهي بوعد الخلود…
في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر عام ١۹٨٦. في سنوات المادية الجامحة، يذكرنا البابا يوحنا بولس الثاني بالمناسبة التي يمكن أن يمثلها الموت لكي نثق في القيامة، وكذلك لتنمية الفضيلة اللاهوتية الأقل ترددًا في عصرنا… اليوم، أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، نصلي من أجل الموتى: في هذه الأيام نزور المقابر، كحجاج يصلّون، طالبين لأحبائنا الراحة الأبديّة. أمام تلك القبور، يتأكد في داخلنا التطلع إلى التغلب على الموت، ونسمة الخلود التي تعيش في قلوبنا تأخذ جوهرها. نحن نزين بالزهور تلك القبور، لأن قلوبنا تخبرنا أن الجسد الملفوف في سكون الموت البارد ليس، ولا يمكنه أن يكون، آخر كلمة في الحياة.
في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر عام ٢٠٠٨ يؤكّد البابا بندكتس السادس عشر إن يقين الموت بالتحديد يجعلنا نتساءل عن توقعات الإنسان المعاصر، وجوهره الروحي، وقدرته على الثقة في خلود الروح. وبفضل فكرة الموت يظهر رجاء الخلود؛ ويقول في رسالتي العامة حول الرجاء المسيحي، سألت نفسي عن سر الحياة الأبدية (…) وسألت نفسي: هل الإيمان المسيحي أيضًا لإنسان اليوم هو رجاء يغير حياته ويعززها (…)؟ وبشكل أكثر جذرية: هل لا يزال الرجال والنساء في عصرنا يرغبون في الحياة الأبدية؟ أو ربما أصبح الوجود الأرضي هو أفقهم الوحيد؟ في الواقع، كما لاحظ القديس أوغسطينوس، جميعًا نريد السعادة. نحن لا نعرف جيّدًا ما هي وكيف تكون، لكننا نشعر بالانجذاب إليها. وهذا رجاء عالمي مشترك بين الناس في جميع العصور والأماكن … لنجدد اليوم رجاء الحياة الأبدية التي تأسست حقًا في موت المسيح وقيامته. قال لنا الرب، “أنا قمت والآن أنا معك دائمًا”، ويدي تدعمك. وحيثما تسقط فسوف تسقط في يديَّ وسأكون حاضرًا حتى عند باب الموت. حيث لا يمكن لأحد مرافقتك بعد الآن وحيث لا يمكنك أن تحمل أي شيء معك، هناك أنتظرك لكي أحوّل الظلام إلى نور من أجلك…
بين ظلام اليأس ونور الرجاء، كان هناك صراع أبدي يدور في قلب الإنسان منذ فجر التاريخ. إلى أن تغير شيء ما في تاريخ البشرية إلى الأبد. ويذكرنا به البابا يوحنا الثالث والعشرون في عظة عيد الفصح التي ألقاها في التاسع والعشرين من آذار مارس عام ١۹٥۹ إذ قال: في المسيح يسوع (…) قاتَلَ الموت والحياة في مبارزة رهيبة. وانتصر سيد الحياة على الموت، وانتصاره هو انتصار كنيسته عبر القرون. دعونا إذن نخلِّص أرواحنا من كل فزع: ونفتح قلوبنا لأجمل آمال المستقبل. (…) على قبر المسيح المجيد، نريد أن أمنيتنا بأن تجد في نوره، هو مصدر الحياة، والمنتصر الموت، الإرادة الصالحة لجميع الرجال المسؤولين عن مصير الشعوب، في روح العدالة والتعاون، الحل لكل خلاف، من أجل المصلحة الأكبر للسلام العالمي.