النبوة عبر التاريخ-الأب د./كميل وليم
الأنبياء والدين
1- يهوه والبعل
إن أكبر مشكلة تعرّض لها هوشع، هي الصراع بين الديانة اليهودية وعبادة البعل: عبادة يهوه بتقاليدها المختلفة من ناحية وعبادة البعل وما يصاحبها من طقوس وممارسات أخلاقية أو لا أخلاقية. إن كلمة البعل كلمة شائعة جداً وتعني: المالك، السيد، الزوج، وبالتالي تستعمل كلمة “البعل” للإشارة إلى إله تختلف صفاته باختلاف السيد من مكان إلى آخر. إلا إن وجود هذا الإله- مثل أداد، إله العاصفة- يضمن الخصب، وبغيابه يحل الجفاف والقحط. لقد كشفت نصوص رأس شماره أوغاريت (شرق سوريا) عن دور وخصائص إله عظيم- اسمه “بعل” ذي نشاط كبير. ويمكن اكتشاف بعض ملامحه من نص الكتاب المقدس نفسه الذي يسميه البعاليم (1مل 21:18، 26؛ هو10:2؛ 1:13، 1مل18:18، هو 15:2، 19؛ 2:11). وتقترن أسماء الأماكن باسم بعل مثل (بعل بعور، بعل حصور، بعل حرمون). ويعني هذا أن الشعوب الكنعانية كانت تميل إلى الإكثار من الآلهة المحلية، لكي تضمن بذلك تجديد الحياة واستمرارها.
لقد كشفت الحفريات التي أجريت سنة 1929 في أوغاريت، عن مجموعة هائلة من المعلومات، سواء المكتوبة أو المرسومة، فهناك مجموعة رسومات متعددة على مسلة بعل الشهيرة المحفوظة في متحف اللوفر. كما توجد مجموعة كبيرة من النصوص بطلها هو بعل مثل: بعل والبحر، بعل وانات، قصور بعل، بعل والموت. ولا يمكن لدارس الكتاب المقدس وقارئه أن يتجاهلا هذه النصوص. ولم يبدأ وينته الصراع والمنافسة بين بعل ويهوه في القرن الثامن ق.م. فنعرف جيداً المشهد الشهير فوق جبل الكرمل، الذي يلعب فيه إيليا دور البطولة حيث ذبح فيه ممثل يهوه 450 من كهنة البعل (1مل 18). إنها حرب معلنة ذات خلفية سياسية (1مل 31:16-33).
خلاصة الأمر من هو إله إسرائيل الحقيقي: هل هو يهوه الذي خلّص وأخرج إسرائيل من مصر، أم بعل الذي تريد إيزابيل فرضه ونشر عبادته؟ لقد كان أبو إيزابيل كبير كهنة البعل. ومن الممكن أن يكون قد اختفى وراء بعل ملقارط كبير آلهة صور، ويحرز إيليا انتصاراً باهراً إلاّ إنه لم يحسم الأمر نهائياً. ويواجه هوشع صعوبة أكبر، إنه يحارب عبادة البعل التي كانت قد انتشرت انتشاراً واسعاً بين أفراد الشعب، وكانت قد غزت الهيكل، أقدس أماكن عبادة يهوه. فحرب هوشع لم تكن ضد عدو معلن، ولكن ضد “عقلية” كنعانية أثرت على تفكير شعب بني إسرائيل وأصبحت خطراً جدياً يهدد عبادة يهوه. ولم يقتصر الصراع بن عبادة يهوه وعبادة البعل، على القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، فقد صاحب تاريخ بني إسرائيل منذ دخولهم أرض كنعان. لقد واجه شعب الله فترات عصيبة في تاريخه، انتشرت فيها عبادات وثنية وممارسات بشعة. كانت الجماعة تفقد ثقتها في يهوه فتلجأ لآلهة المكان طالبة منها العون والخلاص من الصعوبات التي تعترض حياتها. وتنتشر هذه الظاهرة في السنين الأخيرة لمملكة يهوذا وأثناء السبي وبعده (إر 29:7، 1:19…؛ حز1:8..؛ 1:16..؛ أش 1:57..؛ 1:65..).
2- “طقوس عبادة بعل” تحاول اختراق طقوس عبادة يهوه
حاولت عبادة البعل اختراق عبادة يهوه بطريقتين:
تقوم الطريقة الأولى: في اعتبار يهوه الإله الأوحد لبني إسرائيل، إلاّ أنه يتخذ ملامح وصفات البعل وتصطبغ عبادته بطقوس عبادة إله العاصفة وآلهة الخصب.
وأما الطريقة الثانية: بجوار إله الآباء كثرت- وخاصة في المشارف والمرتفعات- المذابح المخصصة لعبادة البعل. لقد عاش بنو إسرائيل في ازدواجية دينية. ربما تكون هذه الازدواجية الدينية، هي نتيجة الازدواجية السياسية التي فرضها داود وسليمان عندما ضما إلى شعب الله بقايا الشعوب الكنعانية التي بقيت في البلد (1مل 1:4-5؛ 8؛ 10:9-28). لقد نشطت هذه الحركة وقويت لدرجة أنه بدا لبعض بني إسرائيل، أن يهوه هو إله الماضي، وأن معجزاته توقفت على حدود كنعان وإنها اقتصرت على أرض مصر وصحراء سيناء، أما خصوبة ورخاء أرض كنعان فإنها ناتجة من آلهة كنعان. ولذلك لم يتورع الشعب أن يخون إلهه بالالتجاء إلى آلهة الكنعانيين وبممارسته طقوسهم. وبذلك أدخلوا البعل إلى جوار إله آبائهم في حياتهم.
وقد صاحبوا الاحتفال بأعيادهم بممارسة البغاء المقدس، على اعتبار أنهم يقلدون اتحاد الإله بعل بالإلهة انات (في اوغاريت)، وبعل مع عشتاروت (كما يسميها العهد القديم)، وكان الهدف من ذلك استمطار بركات هذا الإله ليسبغ الخصب على الأرض والحيوانات والبشر. وقد وصف هوشع مشهدًا من هذه المشاهد حيث يختلي كل واحد تحت شجرة على المشارف بإحدى الكاهنات ويشجع بناته وكنّاته على البغاء (11:4-14). لقد سقط بنو إسرائيل في هذا الإغراء، وفي عماهم، لم يروا في ذلك أي شر، ولذا كان من الضروري أن يتدخل هوشع بأية طريقة فتزوج، بأمر من الله، جومر الزانية (هو1، 3) لعل وعسى يتبصر بعضهم ويدركوا إلى أية حالة انحدروا. هذه هي الخلفية الحقيقية للاستجواب الذي يجريه هوشع. لقد أغرق بنو إسرائيل في عبادة البعل وبذلك هم مهددون بفقدان كل شيء الجلد والسقط.
3- هوشع يتخذ موقفاً وسطاً بين ازدواجية البعض وتطرف الآخرين
لقد سقط معظم بني إسرائيل في هذه الازدواجية (الجمع بين يهوه والبعل في عبادتهم) وقد اعترضهم تيار الركابين (إر35). وقد تطرّف أتباع هذا التيار، إذ فهموا أن الأمانة ليهوه تعني رفض كل تجديد قد يغير تقاليد الأجداد، وامتنعوا عن زرع العنب، وبناء المنازل، وزرع القمح وغرس الأشجار المثمرة (6:35) وعاشوا في خيام (إر7:37و10) كما عاش أباؤهم في الصحراء. لقد رفضوا جذرياً الوضع الجديد لشعب يهوه وغالوا في هذا التطرف لا بل افتخروا به (إر8:35-10). لقد عاشوا في كنعان كما لو لم يكونوا هناك. أما هوشع فسلك طريقاً وسطاً، بين ازدواجية أغلبية الشعب ورفض الأقلية لأي احتكاك أو تعامل مع الأرض التي وعد بها الله الأجداد. فنادى أن إله الصحراء هو ذات الإله الذي يمنح الحياة لأرض كنعان وسكانها وهو وحده القادر على منح بني إسرائيل الخيرات التي تحفظ حياتهم (إر10:2-11). أما أشعيا فيرفض الممارسات الجنسية لأنها- بحجة تجديد الأرض واستمرار الخصوبة- كانت تسمح بالانحلال الخلقي والممارسات الشهوانية غير المشروعة. وأظهر هوشع من خلال قصته مع جومر، أن يهوه هو إله الحب: فبغض النظر عن العقوبة التي يوقعها على الشعب والتي كانت تهدف إلى إعادته إلى حبه الأول، فإنه يعد بفترة خطوبة جديدة تتم في العدل والحنان والحق (هو21:2-22). وهكذا يتحول الحب، الذي كان مصدر الخطر الرئيسي على بني إسرائيل، من جراء انحرافهم وراء الممارسات الوثنية، يتحول إلى ضمان استمرار حياة بني إسرائيل: ويعبر يهوه عن هذا الحب بأمانته الدائمة بالرغم من خيانات شعبه المستمرة. وهكذا أصبح حب الله الذي أعلنه هوشع مثالاً ونموذجاً للحب البشري، والصورة المفضلة لدى الأنبياء للتعبير عن علاقة الله بشعبه.
عن مجلة صديق الكاهن/عدد4/1993