الوداعُ الضروريّ / تأليف/ أشرف ناجح إبراهيم
الوداعُ الضروريّ / تأليف/ أشرف ناجح إبراهيم
الوداع الضروري
أصعبُ فكرةٍ وأمرُّ ضحكةٍ وأجملُ دمعةٍ وأقوى نبضةٍ وأقسى قرارٍ.. هو “الوادع”! إنَّ هذا ليس شعراً يُنظَّم أو قصيدة تُلحَّن، إنما هي حقيقة نحياها يومياً واعين أو غير واعين، راضيين أو رافضين! إنَّ الوداع في الحقيقة لهو مِن أصعب وأقسى مكونات الحياة، ولكن الحياة الحقيقية –شئنا أم أبينا- تتكوَّن مِن هذه الأمور الصعبة. إنَّ حياتنا تكمن بين قاب قوسين: القوس الأول، هو الاستقبال والترحيب؛ أمَّا القوس الثاني، فهو الفراق والتوديع! فكم مِن أشخاص وأشياء ودعنا؟!! إننا يومياً نتقابل مع مَن لا نرغبه ونودِّع متأثرين مَن نرغبه! وفي وداعنا نرغب مَن نودّع، ونودّع مَن نرغب! دعنا الآن نطرح بعض الأسئلة الجادة: ما معنى الوادع؟ ولماذا الوداع؟
ألابد أن يُغلِّف حياتنا هذا الشيء الذي يُدعى “الوداع”؟ أليس الوداع معناه الضياع والتلاشي والعدم؟! لنبدأ مِن حيث بدأنا سابقاً، أي لنبدأ في التحدث عن الوداع في صعوبته وقسوته؛ وسيقدِّر هذا الحديث أفضل تقدير مَن يعرف بالخبرة الشخصية مرارة الوداع وقسوته! فأرغب أن أتحدث معك حول الآلام الناجمة عن الوداع، وياليتني أستطيع أن أدخلك في أعماقي وأبوح لك بأسرارٍ في مكنونات قلبي! إنَّ الوداع أيها الإنسان هو جمرة نار تحرق ولا تحترق إلا بعد أنْ تفني كل شيء وتحيله إلى رمادٍ! أيها المودعون لأهلكم_ راضين أو رافضين_ التاركين أحباءكم، المضحين بعهودكم الماضية، عودوا لحظة واحدة إلى أنفسكم، واقبلوا ولو لبرهة مِن الزمن أن تستشعروا وتفكروا في ما كان في ماضيكم وفي ما تحويه جعبة ذكراياتكم! ماذا تجدون؟ هلا أخبرتموني ورويتم لي بعضاً مما تشعرونه وتتذكَّرنوه! سأخذ المبادرة وسأقص عليكم بعضاً مما تذكرته ورأيته! وتذكروا جيداً أن مَن يودع بالأيادى والقبلات الحسية ليس كمن يودع بدموع قلبه! إنَّ أول من تذكرتهم في هذه اللحظات هم مَن أحبوني ومَن أحبتهم!
أولاً، مَن أحبوني:إنني أشعر بالمرارة والحسرة التي يشعرون بها مِن جراء فراقي لهم، فها قلوبهم تعصرها قسوة الوداع! فإن هؤلاء الذين أحبونني يتألمون الآن بسبب فراقي، فالوداع يؤثر فيهم ويكويهم بناره! وربما في حالتهم هذه يلجئون إلى روح الحب الذي زرع الحب في قلوب البشر، معاتبن إياه على السماح بمثل هذا الوداع القاسي! وثانياً، مَن أحببتهم: ماذا سأقول لهم؟! فياحسرتاه، إنَّ وردة الحب التي غرسنا إياه بأيادي الحب الطاهرة، هوذا الأشواك تخنقها لدرجة أن تعجل في موتها! إن الوداع هو هذه الأشواك التي تقتل كل نبض في وردة الحب السامي؛ إنه بحقٍ الهادم الأكبر لكل بيوت العشق العفيف وموائد الحب الغنية بالطعام والشراب! وقد تذكرتُ أيضاً خسائر جمة وتضحيات عديدة أخرى: فكم مِن أشخاص تركتها خلفي متأكداً أنني لن أراها مرة ثانية في هذه الدنيا؟! وكم مِن أمور جميلة سلمتها لأيادي الماضي ليلقي بها في أغوراه وأعماقه؟!
إنَّ هذا هو الوداع في تأثيره وآلامه! ويمكنني أنْ استرسل في وصفه أكثر مِن هذا، ولكنني أشعر بالعجز في أنْ أصف مرارة هذا الوداع وصفاً وافياً، فلذلك أُفضِّل الصمت عن الكلام، لأن الصمت هو المُعبِّر البليغ عن الحقائق العميقة! ولكنني، وبالرغم مِن ذلك، أريد أن أقول شيئاً أخر: إنه لابد مِن الوداع، أي لابد مِن أنْ نفترق، ولابد مِن أنْ ندوس بقلوب جاسرة على أمور كثيرة لتضحى ماضياً وذكريات؛ وينبغي علينا أنْ نرحب بالمستقبل الجديد، ليس هروباً مِن الماضي أو نسياناً للذكريات، إنما انفتاحٌ على الحياة والحرية والنضوج. إنَّ الوداع رغم قسوته هو ضروري، فيجب أنْ نعصر ونسحق قلوبنا لكي يأتي علينا اليوم الذي نصل فيه إلى النضوج والنمو! فلابد مِن أنْ نموت ونصلب لكي يُعطى لنا المجد! فالوداع هو هذا الموت، أعنى هو هذا الدفن في الأرض الذي يعني بدوره ترك الهواء والعالم الخارجي ومفارقة الحياة، لنعود إليها مرة أخرى فيما بعد أكثر قوة وأكثر عمقاً وأكثر علواً!
إننا لا نستطيع أن نرفض الوداع رفضاً تاماً، فمهما حولنا أن نتحاشاه ونهرب منه سيظل يطاردنا، لأن الوداع هو أمر ضروي للنضوج وللنمو! فمن يرفض الوداع سوف يظل طفلاً شاذجاً بدون خبرات في الحياة! فماذا لو رفض الطفل الصغير الذي ترضّعه وتحتضنه أمه أن يفارق حضنها الجميل، أسوف يكبر وينضج مثل هذا الطفل؟! ألن يظل طعامه طوال حياته هو شراب اللبن؟! ألن يضحى ساذجاً وغير ناضج عاطفياً؟! والسبب ببساطة لكل هذا هو أنْ التجربة المباشرة لحضن أمه تفقده المسافات، وبدون المسافات الضرورية في العلاقات ستظل العلاقات على مستوى الحاجات والاحتياجات، دون البحث عن أعمق مِن ذلك. ومِن ناحية أخرى، هل الأم تكون أماً فقط لأنها تُقدِّم الطعام للطفل وتُغذِّيه؟! كلا بالطبع، فالأمومة هي أعمق مِن كل هذه الظواهر، حتى وإن كانت ضرورية! إن هذا الطفل ينبغي عليه أن يودِّع أمه ويفارق حضنها إن أراد أن يكون رجلاً في جسمه وفكره وعواطفه وإنسانيته! إن الوداع لا يقوم به الطفل الصغير فحسب، فهو مسيرة ترافق الإنسان طوال حياته، فكلما كبرنا في العمر يكبر معنا الوداع في شكله وأسبابه وخصائصه؛ فالوادع يتغذى مِن أيامنا وليالنا؛ فبقدر ما تكون حياتنا وعلاقاتنا عميقة كلما كان الوداع صعباً ومكلفاً! إن الشخص الذي لم تمتليء حياته مِن البشر، أي مِن العلاقات الحميمة والخبرات الإنسانية والعواطف البشرية، سيمر عليه “الوداع” كما يمر الماء على أرض مستوية وصلبة، فلن يجد مكاناً في قلبه، أي لن يتأثر مثل هذا الشخص بماء الوداع ولن يشعر بصعوبته ولا حتى بفوائده!
أريد أن أقول باختصارٍ: إنه بالرغم مِن قساوة الوداع وصعوبته، فهو سيظل دائماً أمراً ضروريّاً في علاقتنا بالأشياء وعلاقتنا بالأخرين وعلاقتنا بالله أيضاً وأساساً! إنَّ الوداع هو ذاك الآكل الذي يخرج منه أكلٌّ وذاك القوي الذي يخرج منه حلاوة (قض 14/14)! لقد طلب الله مِن أبرام أمراً مكلفاً وفي غاية الصعوبة، أمراً كان فحواه “الوداع”: «انطلق مِن أرضك وعشيرتك وبيت أبيك، إلى الأرض التي أريك» (تك 12/1)! ونحن نعلم مِن خلال ما يرويه الكتاب المقدس أنَّ “أبرام” (الأب الرفيع) قد أصبح “إبراهيم” (أب لكل الأمم) (تك 17/5)، فقط لأنه ترك الماضي وما يحويه وكان يعيش بتسليمٍ كاملٍ الوداعات التي مرت به، ولأنه آمن بالله وبأنَّ اليوم أفضل مِن الأمس وأن الغد سيكون أفضل مِن اليوم ومن الأمس؛ فقد قيل عنه: «[…] هو أبٌّ لنا عند الذي به آمن، عند الله الذي يُحيي الأموات ويدعو إلى الوجود غير الموجود. آمن راجياً على غير رجاء فأصبح أباً لعد كبير مِن الأمم على ما قِيل: “هكذا يكون نسلك”» (روم 4/17)!
فهل جاء اليوم الذي نودِّع فيه نحن أيضاً، بدون خوف ولا يأس، ليس أشياء وأشخاصاً فحسب، وإنما أيضاً وأساساً خطايا الماضي المحزنة وضعفات الأمس المخزية، ناظرين إلى «حَمَل الله الذي يرفع خطيئة العالم» (يو 1/29)، إلى ذاك الذي قيل عنه «فهناك شفيعٌ عند الآب، وهو يسوع المسيح البار. إنَّه كفارة لخطايانا، لا خطايانا وحدها، بل لخطايا العالم أجمع» (1يو 2/2)! ويشجعنا على هذه الخطوة التي قد تبدؤ صعبة ومستحيلة إهتداء القديس بولس (رسل 9/1-19؛ 22/1-21؛ 26/1-23) وكلماته الغاية في الروعة التي كتبها بشأن حياته الماضية وإهتداءه «أشكر للمسيح يسوع ربِّنا الذي منحني القوَّة أنَّه عَدَّني ثقة فأقامني لخدمته، أنا الذي كان في ما مضى مُجدِّفاً مُضطهِداً عنيفاً، ولكني نلتُ الرَّحمة لأني كنتُ أفعل ذلك بجهالة، إذ لم أكن مؤمناً، ففاضت عليَّ نعمة ربِّنا مع الإيمان والمحبَّة في المسيح يسوع.
إنه لقولُ صدقٍ جديرٌ بالتَّصديق على الإطلاق، وهو أنَّ المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلِّص الخاطئين، وأنا أوَّلهم. فإني ما نلتُ الرَّحمة إلاَّ ليُظهِر المسيح يسوع طول أناته فيَّ أوَّلاً ويجعل مني مثلاً للذين سيؤمنون به، في سبيل الحياة الأبديَّة» (1 طيم 1/12-16)! وينبغي بعد ذلك أنْ تكون حياتنا بمثابة “وداع دائم ومستمر”، فإن الوداع هو خروج دائم مِن الذات وترك مستمر لأشياء وأشخاص، وهو مسيرة يومية في البرية على مثال شعب إسرائيل! ونلاحظ أنه في البشائر الأربعة، خاصة في بشارة مرقس، أنَّ يسوع المسيح ذاته كان في “مسيرة دائمة” نحو أورشليم، أي أنه قد اختبر ومرَّ بوداعات متواصلة في مسيرته بدون توقف نحو الصليب!
ومِن ثْمَّ يمكننا أنْ نتحدث عن أنواع عديدة مِن الوداعات، ولكنها كلها تتمحَّور حول وداعات للخطايا وللذات ولأشخاص عزيزة ولأشياء ثمينة! لقد كان شعار القديس بولس الدائم _الذي هو تعبيرٌ صادقٌ واضحٌ مُوجزٌ لطريقة حياته_: «فإذا كان أحدٌ في المسيح، فإنه خلقٌ جديد. قد زالت الأشياء القديمة وها قد جاءت أشياء جديدة» (2قور 5/17)؛ «فنحن لا تفتر هِمَّتنا: فإذا كان الإنسان الظاهر فينا يخرب، فالإنسان الباطن يتجدَّد يوماً بعد يوم. وإنَّ الشِّدَّة الخفيفة العابرة تُعدُّ لنا قدراً فائقاً أبدياً مِن المجد» (2قور 4/16-17)! وقد تعلَّم بولس، العظيم بين القديسين، أنْ يعيش كل الوداعات “في المسيح وبواسطة المسيح ولأجل المسيح”؛ فقد ترك لنا عباراته الشهيرة بمثابة دليلاً على ذلك: «إلا أنَّ ما كان في كلِّ ذلك [في الأمور البشريَّة] مِن ربح لى عددته خُسراناً مِن أجل المسيح، بل أعُدُّ كلَّ شيء خُسراناً مِن أجل المعرفة السَّامية، معرفة يسوع المسيح ربِّي. مِن أجله خسرتُ كلَّ شيء وعددتُ كلَّ شيء نُفاية لأربح المسيح وأكون فيه […]» (فيل 3/7-9)،«لأنَّ محبة المسيح تأخذ بمجامع قلبنا […]» (2قور 5/14)، «فالحياة عندي هي المسيح، والموت ربح» (فيل 1/21)! فياليت كلّ هذه العبارات، أخيراً، تصبح شعارنا وحياتنا نحن أيضاً! وليتنا نودع نحن أيضاً ما يجب أنْ يُودَّع بقلب شجاع محب وبعقل متزن منفتح، لأننا سنضج يوماً ما إنسانيّاً وروحيّاً بفضل هذا الوداع المكلف الضروريّ!