“المحبَّة فلتكن بلا رياءٍ. كونوا كارهين الشّرَّ. ملتصقين بالخير. وادّين بعضكم بعضًا
بالمحبَّة الأخويَّة. مُقدّمين بعضكم بعضًا في الكرامة. غير مُتكاسلين في الاجتهاد.
حارّين في الرّوح. عابدين الرّبَّ. فرحين في الرّجاء. صابرين في الضّيق، مُواظبين على
الصّلاة. مُشتركين في احتياجات القدّيسين. عاكفين على إضافة الغرباء. باركوا على الّذين
يضطهدونكم. باركوا ولا تلعنوا. فرحًا مع الفرحين وبُكاءً مع الباكين. مُهتمّين بعضكم
لبعضٍ اهتمامًا واحدًا غير مُهتمّين بالأمور العالية بل مُنقادين إلى المُتّضعين. لا
تكونوا حكماء عند أنفسكم. لا تُجازوا أحدًا عن شرٍّ بشرٍّ. مُعتنين بأُمورٍ حسنةٍ
قُدّام جميع النّاس. إنْ كان ممكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع النّاس. لا تنتقموا
لأنفسكم أيُّها الأحبّاء بل أعطوا مكانًا للغضب… فإنْ جاع عدوكَ فأطعمه. وإنْ عطش
فاسقه. لأنَّكَ إنْ فعلتَ هذا تجمع جمر نارٍ على رأسه. لا يغلبنّك الشّرُّ بل اغلب
الشّرَّ بالخير” (رو12: 9-21)
– انطلاقًا من هذا النّصِّ الإنجيليِّ، يُقدّم لنا البابا فرنسيس هذا العام عشر وصايا
نابعةً من الكتاب المُقدّس، تُساعدنا على تقديم شهادةً حيّةً للرّبِّ في مسيرة
حياتنا:
الوصيّة الأوّلى: لا تثرثروا
– المقصود هنا بالثّرثرة خطايا اللّسان: السّخرية من الآخرين، النّميمة، الاغتياب،
تشويه سمعة الآخرين…الخ أي الأقاويل “القيل والقال”.
“كثرة الكلام لا تخلو من معصيةٍ. أمَّا ضابط شفتيه فعاقل” (أم10: 19)
“صُنْ لسانكَ عن الشّرِّ، وشفتيكَ عن التّكلُّم بالغش” (مز34: 13)
قصة: جاءت سيدةٌ تعترف إلى الكاهن وتقول له: إنَّني تكلّمتُ بالكذب على فلانة، فقال لها
الكاهن: هل أساءت إليكِ ؟ فقالت: لا فقط لأنَّني لا أحبّها. فأراد الكاهن أن يُعلّمها
درسًا، فقال لها: اذهبي واشتري فرخةً، وضعي ريشها أمام باب كلّ بيتٍ في القرية، فقامت
المرأة وفعلت ذلك رغبةً في طاعة الكاهن والحصول على غفران خطاياها. ثمَّ جاءت للكاهن
وقالت له: لقد فعلتُ كلّ ما أمرتني به، فقال لها: اذهبي واجمعي الرّيش، فلم تجد ريشةً
واحدةً… حينئذٍ قال لها الكاهن: كُلُّ كلمةٍ تنطقي بها أشبه بريشةٍ تضعيها أمام بيت
أخيكِ. ما أسهل أن تفعلي هذا ؟ لكن ما أصعب أن تردّي الكلمات إلى فمكِ، لتحاسبي نفسكِ
كأنَّكِ لم تنطقي بها”.
“إذا ضربتَ شخصًا، فقد توجعه للحظة، ولكن إذا أوجعته بكلمةٍ، فقد توجعه العمر كلّه”
“… من فضلة القلب يتكلّم الفم. الإنسان الصّالح من الكنز الصّالح في القلب يُخرج
الصّالحات. والإنسان الشّرير من الكنز الشّرير يُخرج الشّرور. ولكن أقول لكم إنَّ كُلَّ
كلمةٍ بطّالةٍ يتكلّم بها النّاس سوف يُعطون عنها حسابًا يوم الدّين. لأنَّكَ بكلامكَ
تتبرّر وبكلامك تُدان” (مت12: 34-37)
الوصيّة الثّانية: انهوا الأكل من صحنكم
– بعد ما أتمَّ يسوع معجزة الخمس خبزات والسّمكتينِ، قال لتلاميذه: “…اجمعوا الكسر
الفاضلة لكي لا يضيع شيءٌ” (يو6: 12). إنَّ كلمة يسوع هذه قد تُفهم بمعاني كثيرة:
النّظام والمُحافظة عليه، الاقتصاد والتّوفير، ولكن نقصد بها هنا تقليل ثقافة الهدر
والاستهلاك، وذلك من أجل الآخرين.
– إنَّ إلقاء الأكل في الزّبالة شبيهٌ بسرقته من موائد الجياع… فلننظرْ إلى معيشتنا،
ونُلاحظ ما لدينا:
هل هناك طعامٌ نُلقيه في الزّبالة ؟
هل لدينا مقتنيات وملابس في دولابنا نحتفظ بها دون فائدةٍ ؟
أعطوا ما لا تستخدموه… أعطوا ولا تندموا
الوصيّة الثّالثة: خصصوا وقتًا للآخرين
– إنَّ أعظم مثالٌ لنا في ذلك هي أُمّنا مريم العذراء، فحينما علمت من الملاك في
البشارة بأنَّ اليصابات حُبلى، نسيت تمامًا أنَّها ستكون أُمًّا لربّ الكون، وذهبت
لتخدمها: “فقامت مريم في تلك الأيّام، وذهبت بسرعةٍ إلى الجبال إلى مدينة يهوذا. ودخلت
بيت زكريَّا وسلَّمت على إليصابات… مكثت مريم عندها نحو ثلاثة أشهر ثمَّ رجعتْ إلى
بيتها” (لو1: 39-56).
أين نحن من زيارة وخدمة أُمّنا مريم العذراء ؟
– كثيرًا ما يُقدّم لنا الآخرون معروفًا ولا نشكرهم: “وفيما هو داخلٌ إلى قريةٍ استقبله
عشرة رجالٍ بُرصٍ فوقفوا من بعيدٍ. ورفعوا صوتًا قائلين يا يسوع يا مُعلِّم ارحمنا.
فنظر وقال لهم اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة. وفيما هم مُنطلقون طهّروا. فواحدٌ منهم
لمَّا رأى أنَّه شُفي رجع يُمجّد الله بصوتٍ عظيمٍ. وخرَّ على وجهه عند رجليه شاكرًا
له. وكان سامريًّا. فأجاب يسوع وقال أليس العشرة قد طهّروا. فأين التّسعة. ألم يُوجد
مَنْ يرجع ليُعطي مجدًا لله غير هذا الغريب الجنس” (لو17: 12-18).
هل نشكر يسوع كُلَّ يومٍ على جميع ما يُقدّمه لنا ؟
هل نعترف بجميل الآخرين علينا ؟
الوصيّة الرّابعة: اخترِ المشتريات الأكثر تواضعًا
– ليس المقصود هنا البخل/التّوفير والاقتصاد/عدم النّزاهة، ولكن الشّعور بالفقير
والمحتاج… لنتعلّم أن نكتفي بالضّروري والبسيط، فنحن نمتلك الأشياء، لا تمتلكنا هي…
نتعلّم الاتّكال على الله والثّقة في عنايته ورعايته الدّائمة لنا.
“انظروا إلى طيور السّماء. إنَّها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم
السّماويّ يقوتها. ألستم أنتم بالحريّ أفضل منها… فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو
ماذا نشرب أو ماذا نلبس… لأنَّ أباكم السّماويَّ يعلم أنَّكم تحتاجون إلى هذه كلِّها.
لكن اطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه وهذه كُلُّها تُزاد لكم. فلا تهتموا للغد. لأنّ
الغد يهتمُّ بما لنفسه. يكفي اليوم شرُّه” (مت6: 26-34)
الوصيّة الخامسة: قابلوا الفقير وجهًا لوجه
– خصصّ البابا فرنسيس في الفترة الأخيرة مبلغًا للفقراء، ولم يكتفِ بذلك، بل كلف شخصًا
بمقابلة الفقراء والمحتاجين، والإصغاء إليهم والاهتمام بهم. فالبابا يريد أن يُعلّمنا
الاهتمام بالفقير ورعايته والعناية به.
“إنْ كان أخٌ وأختٌ عُريانين ومُعتازين للقوت اليوميِّ. فقال لهما أحدكم امضيا بسلامٍ
استدفئا واشبعا، ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة” (يع2: 15-16)
– هل تعلمون أنَّ ثوب الرُّهبان الفرنسيسكان بني اللّون هو ثوب الفقراء في ذلك العصر،
فالقدّيس فرنسيس الأسيزيّ قد قابل فقيرًا واحتضنه، وبدّل ثيابه الفخمة بثياب هذا الفقير
البالية، وأصبح بعد ذلك ثوبه، وثوب جميع الرُّهبان الفرنسيسكان في كلِّ العالم.
الوصيّة السّادسة: كفوا عن الحكم على الآخرين
– كثيرًا ما ننتقد الآخرين على كلِّ ما يفعلونه، ونحكم عليهم وندينهم، ونضعهم في صورٍ
وقوالبٍ لا يخرجون منها، ونصنفهم حسب إمكانياتهم، وننسى أنَّنا نأخذ دور الله في إدانة
الآخرين والحكم عليهم.
“لا تدينوا لكي لا تُدانوا. لأنَّكم بالدّينونة الّتي بها تدينون تُدانون. وبالكيل
الّذي به تكيلون يُكال لكم”
(مت7: 1-2)
الوصيّة السّابعة: صادقوا مَنْ يخالفونكم الرّأي
– ليس الجميع واحدًا، فلكلُّ منَّا طباعٌ مختلفةٌ، قد تتفق أو تختلف مع طباعنا، فنجد
أنفسنا نميل أكثر إلى مَنْ يُوافقنا الرّأي، ونبتعد عمَنْ لا نقبلهم أو نختلف عنهم،
فنتجاهلهم أو نستبعدهم من حياتنا.
– إنَّ أصعب إحساس قد يشعر به إنسانٌ هو أن يكون مُهمّلاً ومتروكٌ. فعلينا أن نتعلّمَ
احتواء الآخرين وتفهمّهم وإقامة حوارًا معهم.
“إنْ كان ممكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع النّاس” (رو12: 18)
الوصيّة الثّامنة: لا تخافوا من الالتزام
– الحياة اختياراتٌ ومواقفٌ، وعندما نختار موقفًا بعينه… علينا أن نلتزمَ به، فمثلاً:
مَنْ كرّس حياته للمسيح، فعليه أن تكون جميع أفعاله ومواقفه تُعبّر عن ذلك: “… ليس
أحدٌ يضع يده على المحراث، وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله” (لو9: 62). وهكذا أيضًا
مَنْ يُقرر الزّواج فعليه أن يكون أمينًا لزوجته، ومتطلبات حياته الزّوجيَّة. فالبابا
يُوصي بالأمانة والوفاء بالعهود والالتزامات.
الوصيّة التّاسعة: اعتادوا على سؤال الرّبِّ
– لنتعلّم من يسوع كيفيّة اللّجوء دائمًا إلى الله، وطلب مشورته ومعونته قبل البَدء في
أي عملٍ ما، فيسوع كان يُصلي في جميع ظروف حياته: قبل البَدء في رسالته العلنيّة، قبل
معجزاته، قبل الآمه وصلبه وموته على الصّليب، قبل يومه العادي: “وفي الصّبح باكرًا
جدًّا قام وخرج ومضى إلى موضعٍ خلاءٍ، وكان يُصلّي هناك” (مر1: 35).
هل لدينا هذه العادة الحميدة في طلب الرّبِّ قبل كلّ شيءٍ في حياتنا: بداية يومنا، شغل
جديد، موضوع جديد…؟
الوصيّة العاشرة: كونوا سعداء (فرحين)
“افرحوا في الرّبِّ كُلَّ حين، وأقول أيضًا افرحوا” (في4:4)
لماذا نفرح ؟
– نفرح بوجود الله في حياتنا، فهو الوحيد الّذي يمنحنا السّعادة الحقيقيَّة.
– نفرح بعطايا الله لنا: الصّحة، الأولاد، الأسرة…الخ
– نفرح لأنَّنا أولاد الله… أولاد الملك، الّذين لا يخافون شيئًا ولا يشتهون شيئًا.
– إنَّ الفرح والسّعادة عدوى طيبة تنتقل بيننا بسرعةٍ كبيرةٍ… فدعونا نفرح.
خاتمة: إنَّ وصايا البابا العشر تجسيّدٌ لكلمةٍ واحدةٍ “المحبَّة”، والمحبَّة هي الله،
الّتي تظهر في محبَّة القريب. فالوصايا السّابقة كانت تدور حول أربع وصايا في محبّتنا
لله، وست وصايا في محبّتنا للقريب.
صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاة
ياربُّ أنت سندي ورجائي الوحيد في هذه الدّنيا. كُنْ ياربُّ حارسًا لفمي وبابًا حصينًا
لشفتي، أغلق فمي عندما يريد أن يتحدّث بالسّوء. اجعلْ لساني يلهج دائمًا بتسبيحكَ وخدمة
الآخرين. علّمني العطاء للجميع بمجانيّةٍ وحبٍّ. زدْ ثقتي في حبِّكَ ورعايتكَ ليَّ. لا
تجعلني أدينُ أحدًا، بل اكتفي بما أنا عليه. ساعدني أن أتقبّل الجميع وأحاول فهمهم
واحتوائهم حتّى إذا كانوا مُختلفين عنَّي. اجعلني أمينًا على وعودكَ وثقتكَ فيَّ. كُنْ
أنتَ ياربُّ بداية يومي وأعمالي ومشاريعي وبركةً لبيتي وقلبي. أعطني من فرحك الّذي لا
يستطيع أحدٌ أن ينزعه منَّي. فأنتَ وحدكَ ياربُّ كفايتي. آمين
جوزيف منير