وهكذا يستمر الجزء الاكبر من كتاب أيوب، اصدقاؤه يحاولون إقناعه بانه مذنب وهو يدافع عن نفسه ويهاجم الله. يطلب من الله تفسيراً لكل ما يحدث. يطلب منه ان يبرر ما فعله لكي يعود ويثق به من جديد.
كم هي اوجاع ايوب؟ ايوب يجد نفسه امام الموت وحيداً. اولاده واحباؤه ماتوا. سبقوه وتلاشوا في ذلك النفق المظلم الرهيب، والكتاب لا يعود الى ذِكر زوجته. اصدقاؤه ضده ولا يفهمونه. والاكثر من هذا، ذلك الاله الذي تركه، الذي دفعه الى حافة الموت وذهب الى عالمه، كما يقول ايوب. فكم هي اوجاع ايوب؟ ايوب يجد نفسه امام الموت، واي موت؟ موت الخاطئ، موت الملعونين من الاله، موت من ليس لهم اله.
ومن يقدر على فعل شيء امام الموت؟ من يستطيع ان يخلصه منه؟ الله؟ اذا كان هو الذي دفعه اليه. وهنا اقتناع ايوب ان الموت هو النهاية لكل شيء. وان اراد الله بعد ذلك ان يرجع عما يفعله ضد ايوب لن يجده، سيكون قد فات الاوان. ايوب يعترف بقدرة الله، هنا في هذه الحياة، امّا في الموت؟؟
فاين المفر من الموت اذاً؟ يتقدم الموت عليه من الامام والاصدقاء يدفعونه من الخلف. يقولون له: اعترف انك تستحق ذلك ،قد يرجع الله ويرحمك. لكن ايوب يعرف انه لا يستحق هذا العقاب، اذا اعترف لامسك عليه ذلك فيموت. فليس امامه الا ان يبرر نفسه. لكن ان اثبت بره، من سيكون المذنب؟ من سيدخل في هذا الموت ان تبرر ايوب؟
وهنا يكسر الرب صمته العميق، يتكلم ويجيب. الرب اظهر انه مهتم لصراخ ايوب انه يسمعه والان يريد ان يرد. فينادي الله ايوب ويقول: ايوب اردتُ ان تواجهني وتحاكمني. ها انا هنا. قم تشدد، كن رجلاً تعالى واجبني انت الان. بدلاً من ان يجيب الله على اسئلة واتهامات ايوب يفيض عليه بطوفان من الاسئلة قائلاً: اين كنت عندما اسست انا الارض، عندما ثبتُ النجوم؟ أتعلم من حجز البحر بين مصراعيه؟ من جعل من الغمام والسماء لباساً له؟ أانت يا ايوب صنعت كل هذا؟ اجبني. من عرّف الفجر مكانه وعلمه ان يشرق ويبث نوره؟ من يرعى الكون ويستمر في خلقه؟ اانت يا ايوب؟
اسئلة عديدة تجعل ايوب يتذكر حدوده كانسان. انسان مخلوق. بشر، مهما كبر علمه ونمى بره انه علم وبر انسان. اسئلة عديدة تجعل ايوب لا يتذكر فقط حدوده كانسان، بل يتعرف ايضاً على حدود الله الامتناهية. يتعرف على قدرة الله وصنعه. فيعود الى نفسه ويقول: تكلمت بحماقة ولن اكرر ذلك مرة اخرى.
تكلمت بحماقة يقول ايوب وكانه يقول: تطلبت انا الانسان ان افهم مقاصد العلي، ان يشرح ويفسر لي كل شيء، وان يدخل عقلي لادركه. تكلمت بحماقة، اردت ذلك حتى ارجع واضع ثقتي فيه. تكلمت بحماقة، ولكي اثبت بري جعلته هو الاثيم. حتى وان كانت آلامي تستمر واوجاعي تزيد، لن اعود للتكلم بحماقة من جديد.
الله لم ينتهي ينادي ايوب لأستكمال الحوار. الله لا يكتفي بان يعرف الانسان حدوده ويسكت. الله يريد شيئاً اخر، شيئاً اعمق واهم.
الله يواجه ايوب باسئلة اعمق عن الكون ويجعله يتأمل في جماله وقدرته. اي يظهر لايوب قدرته هو، قدرة الله.
بهذا الله لا يضع فقط الانسان في مكانه كانسان، كخليقة، ولكن يجعله يدرك من هو الله. وهنا يكتمل المشهد: الله يُظهر لأيوب انه انسان وانه هو الله. الله الخالق، والخالق باستمرار. الخالق من العدم، الخالق من حيث الانسان لا يدري ويعجز. الخالق من حيث الانسان لا يرى املاً او مستقبلاً بل يرى فقط الموت والهلاك، هناك بالاحرى الله خالق ويخلق.
ايوب هنا يقبل ويرجع عن اتهامه لله. غريب!! الان ايوب مطمئن ومرتاح. نفس الالم، ونفس الوجع. قد تقدم المرض وساءت حالته اكثر. لكن ايوب الان لا يتمرد لا يتساءل، بل سكنت نفسه وارتاح. لماذا؟
ايوب يرد بنفسه علينا هذه المرة ويقول: لاني كنت اعرف الله بالسمع ولكن الان رأيته. رؤية الله لا تعني فقط بالنّظر، بل بإدراكٍ لمن هو بالفعل الله. معرفة حقيقة لله. وهذا الادراك يجعل ايوب يتخطى آلامه واوجاعه، يعطيه معنىً. كان يتألم لانه شعر انه وحده ويموت، عاجز وحياته تنتهي. الان يشعر بالمرض والموت المشرف ولكنه مصطحب من اله خالق، وهذا سكّن المه الحقيقي.
ايوب كان يتالم جسدياً، هذا اكيد ولكن ما كان يعذبه شعوره بالتقدم من الموت حيث لا مفر هناك. سينتهي كل شيء بموته. ايوب لم يكن يعرف الله، او كان يعرفه بالسمع، لكنه الان راى الله. كما سيقول المسيح عن ابراهيم: ابراهيم راى يومي. ماذا راى ابراهيم؟ وماذا راى ايوب؟ راى يوم الرب، اي راى الرب ذاته، راى خلاصه. ايوب راى الموت امامه لكنه لم يدخله. راى انه قد تالم وتعذب لانه لم يكن يعرف الله اكثر من آلامه الجسدية. ايوب ادرك ان آلامه سببها انه لم يرى الرب ابداً وادرك ان آلامه الجسدية ما كانت الا مرشداً لذلك. الان راى الرب. ادرك قدرته الامتناهيه حتى على الموت. وان كانت آلامه الجسدية مستمرة، إلا انه لا يعود ليتكلم بحماقة من جديد.
اما زال مهماً ان نسال لماذا تألم ايوب؟ أيوب نفسه الذي يتألم لم يعد يهتم بالاجابة. فقد تلاقى مع الله. عرف من هو الله بالفعل وهذا قد كفاه، لان تلك هي الحياة الابدية ان يعرفوك انت ايها الآب ومن ارسلت. هكذا سيقول المسيح، ايوب الحقيقي، الذي اختبر ليس فقط القرب من الموت، بل الموت نفسه، وقام كعربون للحياة الابدية لمن يؤمن به.
هذا ما رآه ايوب: الانتصار على الموت، ان شوكة الموت قد تلاشت. هذا ما رآه عندما راى الله. راى ان الله خالق فعلاُ. حتى امام الموت، هو خالق ومدبر. ان الله دبر خلاصاً، دبر ابنه الوحيد الذي اخذ مكان ايوب في القبر. ايوب راى هذا….. امازال مهماً ان نسال لماذا تألم ايوب؟…
كتاب ايوب لا ينتهي هكذا. هناك تعليق الله النهائي وحكمه على حماقة ايوب (كما يقول ايوب عن نفسه). ما زال هناك حكم الله على كلام اصدقاء ايوب….. وما يفكر الله عن رسالة ايوب ودعوته بعد ان رآه. ماذا ستكون دعوة ايوب ورسالته؟….للمرة القادمة….
للاب هاني باخوم، نائب مدير اكليريكة ام الفادي بلبنان.