تأمل عيد البشارة – الأب / أنطونيوس فايز
تحتفل الكنيسة اليوم بعيد البشارة 25 مارس . أشارككم بهذا التأمل حول مائدة كلمة الرب، متمنيًا لجميعكم فرح ورجاء البشارة والثقة أم الله يفتقدنا في جميع ظروف حياتنا. لنؤمن، أذن، أن الله يعمل دائمًا في صالحنا.
مع محبتي وصلاتي للجميع.
الأب / أنطونيوس فايز
عيـــــد البشــــــــــارة
”كيف يكون لي هذا إذ لست أعرف رجلاً!…ليس أمرٌ غير مستطاع عند الله. فقالت مريم ها أنا أمَة للرب، ليكن لي كقولك “
يقع عيد البشارة 29 برمهات في زمن الصوم الأربعيني، وبالرغم كونه ليس عيد سيّدي، إلا أنه يعامل معاملة الأعياد السيّدية، حيث تقرأ قرأت هذا العيد بدلاً من قراءة اليوم. يقدم لنا القيس لوقا وصفاً رائعًا وعميقاً يُجز فيه مضمون وهدف لقاء الله مع جميع شخصيات العهد القديم، بأشكاله المتنوعة.
ولاً: “أُرسل جبرائيل الملاك من عند الله إلى مدينة من الجليل تسمى الناصرة. إلى عذراء خطيبة لرجل اسمه يوسف من بيت داود اسم العذراء مريم”، وصف دقيق، يؤكد على رغبة الله العميقة في مشاركته للإنسان، ومقاسمته حياته. يدخل الله في حياة مشروع عائلة:” عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف”، إنها دعوة لكلاهما أن يقرئا حياتهما على ضوء هذا اللقاء. دخول الله يقلب الموازين، دخول إي شخص في حياتنا يجعلنا نعيد ترتيب حياتنا على ضوء هذا الدخول، أي ضيف يدخل منزلنا يغير ترتيب حياتنا، ولو لزمن قصير.
ثانيًا: السلام لك، يا ممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء”. هناك أشخاص بحضورهم يملوننا سلاماً، وآخرون عكس ذلك. السلام النابع من المشاركة والدخول في جو الحياة العائلية، بينما العزلة والانفرادية تقودنا إلى الانغلاق والسأم والموت. الامتلاء بالنعمة هو ثمرة المشاركة لذلك فإن الرب معكِ. هدف دخول الله ومضمونه هو أن يصير معنا، شريكنا، عمانوئيل، مشاركة ليست تنافسية، لا تقلل من نصيبنا، بل تثرينا وتهبنا الحياة الإلهية.
ثالثاً:” لا تخافي يا مريم … ها أنت تحبلين وتلدين إبناً وتدعين اسمه يسوع”. الخوف رد فعل طبيعي بدخول شخص أخر في حياتي، يهدد أمني، ذاتيتي، استقلالي، خصوصيتي. إنه تحدْ صارخ ،” أكون أو لا أكون”، تلك هي المعضلة، كما قال ذلك شكسبير على لسان هاملت في روايته الشهيرة، إنه اختيار ما بين الحياة أو الموت. لا شك، قد تبدو المشاركة، لأول وهلة، نقص في حقوقي، حيث يشاركني الأخر في المكان، الممتلكات…الخ، بينما في الواقع، مشاركتي للأخر، من منظور إنساني، هو ثراء وغنى ونضج إنساني، بدونه يفقد الإنسان هويته وغايته كصورة الله ومثاله .
في الواقع كلا الاختيارين مجازفة: فرفض دخول الأخر في حياتي، بداعي الحفاظ عليها، هو اختيار للموت البطيء، تفضيل الظلمة على النور، هو محاولة واهمة للحفاظ على ذاتيتي، المهددة بالفناء بسبب دخول الأخر في حياتي، في النهاية هو رفض النمو والارتقاء. بينما قبول الحرّ في حياتي ليشاركني، هو أيضا تخلي عن ذاتيتي وأنانيتي، هو قبول الدخول في منطق جديد يختلف تمامًا عما أتصوره عن كياني، إنه كيان جديد،” كيان في “، هو قبول الدخول في تيار الحب المتبادل والمشترك، الذي يخلق ويصهر ويحول كلا الشخصين إلى كيان جديد ” كيان في المسيح”،” إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة”.
رابعاً:” فيكون عظيماً، وابن العلي يدعى… ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد”. في الواقع، قبول الأخر في حياتي، هو إقرار ضمني، وتنازل، وتخلي عن أن أكون سيد حياتي، سيد بيتي، حجرتي، عملي…. الخ، لم يعد القرار بيدي وحدي، أصبح كل شيء مشتركاً، حيث يملك الأخر على حياتي، وفي الوقت نفسه، أملك على حياة الأخر، هذا يحدث فقط بالحب المتبادل. فالمُلّك هنا ليس سيادة إي طرف على الأخر بغية الاستحواذ عليه أو السيطرة، بل أصبح المُلّك خدمة محبة متبادلة تنمو بالأخر وتقوده إلى الحياة وملء الحياة: ” إنما أتيت لكي ما تكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر”. هكذا يصبح دخول الأخر في حياتي ليس تهديداّ أو فناء لذاتيتي، بل انطلاقة حقيقة للتحرر من الخطيئة التي أوهمتني أن الأخر منافس لي وليس شريك ( راجع خطيئة آدم وحواء، خطيئة قايين وهابيل…إلخ). هنا تملك المحبة على حياة الشريكين، إي يملك الله على حياتهما، فالمحبة تحررنا من أوهام الخطية، ” فإن حرّركم الابن، فبالحقيقة صرتم أحراراً”؛ ” وتعرفون الحق، والحق يحرركم”.
خامساً:” كيف يكون لي هذا ؟ا”. في الواقع، يستحيل على الإنسان أن يتمم هذا التحول بفرده، إي بمعزل عن الله، إنه فعل إلهي بمشاركة إنسانية، التي تحققت في شخص مريم، وكل إنسان يقبل دخول الله، الآخر في حياته. يردّد هذا السؤال” كيف يكون هذا؟”؛ على مر التاريخ، ولا يزال يتردد داخلنا، إنه صرخة الإنسان اليائسة والفاشلة على مر التاريخ، في محاولاته الفردية للوصول إلى الخلود، إلى الله، بمعزل عن الله، بمعزل عن الآخر، والتي تقوده إلى الموت الأبدي. هنا يتجلى تدخل الله، أي دخول الله في حياة الإنسان ليس كمنافس، بل كشريك، وليس كما يتوهم الإنسان الساقط إلى أذنيه في خطيئة . إن دخول الله في ،هو دائمًا، صالح الإنسان، ليصحح مساره، ليرفعه شريكا له في حياته الإلهية، وليس كما يتصور الإنسان الخاطئ والأعمى، الذي يعتقد أن قد خلقه ليخدمه. على عكس ذلك النص يؤكد أن الله يدخل حياتنا ليخدمنا ويحررنا ويخلصنا.
سادساً: لذلك ” الروح القدس يحلّ عليك وقوة العليّ تظللك فالمولود منك قدوس يدعى ابن الله…، فغير المستطاع لدى البشر مستطاع فقط لدى الله”. لا يسعْ الإنسان أمام الفعل الإلهي سوى الوقوف كموقف مريم الرائع:” ها أنا آمة للرب ليكنْ لي كقولك”، مريم تمثلنا جميعاً، بتفاعلها المدهش، وقبولها الدخول في مخطط الله، الآخر، لقد صارت حواء الجديدة.