تاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية – القسم الثانى
القسم الثانى: الكنيسة القبطية بعد مجمع خلقدونية ( 451 – 1054 )
بقلم
الأنبا مكاريوس توفيق مطران كرسى الإسماعلية
وأستاذ التاريخ الكنسى بكلية الدراسات الاهوتية ( الإكليريكية) بالمعادى
الفصل الأول
إنقسام كنيسة الإسكندرية
لما كان المجمع الخلقدونى قد إعتمد صيغة القديس لاون الكبير بأن السيد المسيح إقنوم واحد ”فى طبيعتين”. فقد ظن الأقباط أن المجمع قد تخلى عن صيغة القديس كيرلس الإسكندرى. وهى ”اقنوم واحد أو طبيعة واحدة من الطبيعتين”. وإنه بالتالى قد إنحرف عن الإيمان القويم ومال إلى النسطورية، وإنه قصد الحطّ من كرامة الكرسى الإسكندرى والنيل من دوره القيادى فى الدفاع عن الإيمان الرسولى. خاصة بعدما عزل المجمع البطريرك ديوسقورس عن كرسيه، وتسبب فى نفى الإمبراطور إياه بسبب موقفه الجائز من فلافيانوس أسقف القسطنطينية.
ولأن ديوسقورس كان معدوداً “أباً لأقباط” وخليفة أثناسيوس وكيرلس فى الدفاع عن الإيمان الرسولى وحقوق الكرسى الإسكندرى، ولأن الموقف إتسم بالروح القومية وحماسة الدفاع عن الذات الكنسية فى مواجهة سلطة الإحتلال الأجنبى، والهيمنة الكنسية البيزنطية، فقد ثار غالبية الاقباط ثورة عارمة، ورفضوا الخضوع للأسقف “بروتيريوس” الذى إنتخبه الخلقدونيون خلفاً للبطريرك “ديوسقورس”.
تدّخل الإمبراطور مرقيانس (457) بالقوة لتنفيذ قرارات المجمع بمصر، وعقد بروتيريوس سينودساً بالإسكندرية لمصالحة المونوفيزيين دون جدوى. فكتب رسالة إلى البابا لاون سنة (454) معلناً إنتخابه وأمانته للمجمع الخلقدونى.
وبعد وفاة ديوسقورس فى المنفى، أضرم المونوفيزيون بالإسكندرية نار الثورة، وإغتالوا بروتيريوس أثناء الصلاة سنة (457)، وإختاروا زعيمهم الراهب تيموثاوس ايلور أسقفاً لهم. فقبله الإمبراطور الجديد لاون (457 – 474) رغبة منه فى أن يسود السلام والهدوء.
ولكى يتخذ الإمبراطور لاون موقفاً محدداً من هذا الإنقسام والجدل، طلب من كل الاساقفة رأيهم فى المجمع الخلقدونى. فجاوبت الأغلبية بقبول المجمع ضد موقف البطريرك المونوفيزى تيموثاوس ايلور. فقام الإمبراطور بإبعاده، وعّين بدلاً منه تيوثاوس سالوفاكيور(460 – 481).
أدت هذه الأحداث إلى إنقسام الكنيسة فى مصر إلى قسمين. القسم الأكبر مونوفيزى يتمسك بصيغة “الطبيعة الواحدة” ويرفض قرارات المجمع الخلقدونى والخضوع للسلطة الإمبراطورية، والقسم الآخر كاثوليكى خلقدونى يقبل قرارات المجمع والملك، فدعى رجاله الملكانيين، أو الملكيين، وصار لكرسى الإسكندرية بطريركان متنافسان.
هذا الإنقسام، الذى يبدو ذا صبغة دينية صرف، كان له دوافع أخرى : تنافس الكرسيين والعاصمتين فى الجزء الشرقى من الإمبراطورية الرومانية : الإسكندرية عاصمة الفكر الفلسفى والاهوتى، والقسطنطينية عاصمة الحكم والسلطان.
وذلك عقب قرار مجمع القسطنطينية المسكونى (381) بمنح كرسى القسطنطينية الحديث النشآة إمتياز “أولوية الشرف” على كل الكراسى فى الشرق وتقّدمه بالتالى على كرسى الإسكندرية.
وبسبب هذا الصراع الذى بدأ بنفى القديس يوحنا الذهبى الفم أسقف القسطنطينية سنة (407) على أثر حكم جائز بعزله عن كرسيه، أصدره “مجمع السنديانة” المحلى الذى عُقد برئاسة ثاوفيلس بطريرك الإسكندرية بحجة إنه تدخل فى شئون كرسى أفسس المجاور. وإستمر الصراع بين الكرسيين بعزل نسطور ونفيه، وإشتد الصراع بعزل فلافيانس بطريرك القسطنطينية وإلقائه فى السجن حيث وافته المنية خلال إجتماع أفسس سنة (499)، ثم بعزل ديوسقورس ونفيه عقب مجمع خلقدونية سنة (451). وبسبب الأحداث التى أعقبت الإنقسام، إضمحل بهاء بطريركية الإسكندرية وسلطانها فى الكنيسة الجامعة، فإنكفأت على نفسها تحيا حياتها الخاصة بلغتها القومية وطقوسها الرهبانية وفكرها التنسكى.
توالى الأباطرة زينون (474 – 491)، وأنسطاس (491 – 518)، وبازيليسكو.
فعطفوا على الأقباط المونوفيزيين، فأعاد زينون أساقفتهم والبطريرك تيومثاوس إيلور من المنفى.
وفى محاولة منه لرأب الصدع بين الكنائس وإعادة الوحدة بينها، وبإيعاز من أكاكيوس أسقف القسطنطينية، أصدر مرسوماً عُرف “بالهينوتيكون” أى المرسوم الوحدوى، الذى ينص على قبول قرارات المجامع المسكونية الثلاثة الأولى وإدانة كل من نسطور وأوطيخا، وأكد إتحاد الطبيعتين فى المسيح دون التطرق إلى تحديد طبيعة واحدة أو طبيعتين بعد الإتحاد.
وفى عام (543) أدان الإمبراطور يسطنيانس فى ثلاثة فصول عقيدة كل من تيودورس المصيصى وتيودروس الصورى، وإيبا الرهوى، بإعتبارها نسطورية، آملاً ترضية المونوفيزيين لكى يقبلوا صيغة مجمع خلقدونية.
لكى البطريرك الخلقدونى أويطس رفض التوقيع، فعُزل سنة 551 وأُبدل بأبوليناريوس
(551 – 569) الذى شارك فى المجمع المسكونى الخامس (553) بالقسطنطينية.
وبعد أبوليناريوس، إنتُخب يوحنا الثانى (570 – 580) الخلقديونى بطريركاً على الإسكندرية.وقام الأقباط المنوفيزيون بإنتخاب راهب يدعى تيودورس، لكن معارضة الشعب إستبدلته بآخر يدعى بطرس قام حالاً بعد رسامته بتكريس 60 أسقفاً لتقوية مركزه.
وعلى الجانب الأخر، إنتخب الخلقيدونيون أولوجيوس (580 – 608) فتبادل الرسائل مع البابا غريغوريوس الكبير الذى أجّله كثيراً، إذ كان لاهوتياً مرموقاً.
ومات يسطنيانس سنة 565 والبدع تُقسم مسيحى الشرق إلى أحزاب متطاحنة، فإجتهد خلفاؤه أن يحققوا الوحدة الدينية فى مصر كما فى سورية وأرمينية، فلم يفلحوا.
تساهل خلفاء يسطنيانس مع الأقباط المونوفيزيين فى تكوين كنيسة قومية مستقلة كانت لغتها الرسمية القبطية، لغة الشعب، بديلاً عن اليونانية ، فصارت لغة الطقوس والكتابة. خاصة بعد ان استعارت الحروف اليونانية إلى جانب سبعة حروف من الأشكال الديموطيقية الخاصة باللغة المصرية القديمة.
ولما تولى هرقل (610-640) مقاليد الحكم كان حريصاً على التوفيق بين المذاهب المتصارعة. فحاول ان يستميل قلوب أقباط مصر، فعّين أولاً حنا الرحوم بطريركاً على الإسكندرية، فإكتسب محبة الأقباط بعطفه وسخائه العظيم. وقام “نيقتاس” نائب هرقل بالتوفيق بين المونوفيزيين من أهل الشام وبين الكنيسة القبطية.
ثم إنشغل هرقل بحروبه مع الفرس، وبعد أن إنتصر عليهم سنة (628) حاول ان يلتمس وسيلة لجمع مذاهب الدولة وتوحيدها. وكان سرجيون البطريرك القسطنطينى يوافق الملك على ضرورة التوفيق بين المذهبين – فإقترح أن يقال أن للسيد المسيح طبيعتين ومشيئة واحدة. وقد وافقه أيضاً قيرس مطران فاسيس (القوقاز) وأثناسيوس بطريرك أنطاكيا وبولس بطريرك أرمينية.
وكان المسيحيون جميعاً قد إتفقوا إتفاقاً عجيباً عندما رأوا أن هرقل قد هزم الفرس الكفار وطردهم من القدس وأعلى راية الصليب. فكانت تلك الساعة فرصة ذهبية، لو إغتنموها لأدت إلى وفاق ووئام حق.
وقد فطن هرقل إلى هذا، غير إنه لم يفطن إلى ان مذهبه (المونوثيلى) الذى حاول به التوفيق سوف يأباه أهل مصر خاصة انه أساء إختيار من ينفذ له سياسته هذه فى مصر، إذ إختار قيرس- ذلك الرجل القوقازى الجنس – كبطريرك وحاكم للإسكندرية. فأمعن فى إضطهاد الأقباط لمدة عشر سنوات حتى إستحال بعده أن يبقى القبط ولاء لدولة الروم. وقد مهّد ذلك لفتح العرب لمصر، وكان فوق ذلك خائناً للأمانة ولمسئولياته.