تامل في نصوص آحاد الصوم الأربعيني – الأب انطونيوس فايز
الأخوة الأحباء/ شعب رعية القديس مرقس الرسول بالعبور، أشارككم تلك اللحظات الفارقة والمحن التي يمر بها العالم ومصرنا الحبيبة، في زمن الصوم الأربعيني، بتأمل في نصوص آحاد الصوم الأربعيني، متمنيًا لكم عذاءً روحية حول مائدة كلمة الرب.
إنجيل القديس يوحنا 5: 1 – 16
يشوع يشفي كسيح بِرّكة بيت حسدا
الأحد الرابع من الصوم الأربعيني المقدس
تناولنا الآحاد السابقة المسيرة التي تقودنا فيها الكنيسة خلال فترة الصوم المقدس. بداية من وصف دقيق للعبادة الداخلية والتي تتمحور في أسلوب الصدقة والصوم والصلاة : فأبوك الذي يرى في الخفية هو يجازيك علانية. تلاها نص التجارب: يسوع يعتزل خلال هذه الفترة لإعادة ترتيب حياته مواجهًا تجاربه والتي هي في الواقع تجاربنا: التشكيك في عناية الله له ولنا أيضًا ” إن كنت ابن الله…التجربة الأولى: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله. فالعبادة الحقيقية تتجلّي في إقامة علاقة حميمية مع الله من خلال كلمته يسوع المسيح والكتاب المقدس. التجربة الثانية: لا تجرب الرب إلهك. حيث نضع علاقتنا بالله في محك التجربة والبرهان، وهنا السؤل أمام معطيات الحياة خاصة السلبية منها، كالكوارث والمجاعات والأمراض الوبائية، متسائلين عن مصدرها وبسهولة ننسبها إلى الله ( القدير)، وربما البعض يفسرها قائلاً: الله يسمح بها لتأديبنا بسبب خطايانا وابتعادنا عنه، فتُوقظنا ونعود إليه. السؤل الحقيقي هو كيف يتدخل الله في واقعنا الإنساني خاصة في الأزمنة الصعبة والمحن. عدم تدخل الله ليس عجزًا أو لا مبالاة منه. المعضلة في النهج الذي يتدخل به الله في التاريخ، نهج لا يخضع للمنطق أو النهج البشري. الله يتدخل نعم، ولكن بأسلوبه هو وليس بأسلوبنا وتوقعاتنا. في الواقع، هناك هوّة سحيقة ومسافة شاسعة بين ما نؤمن به ونعتقد وبين ما نريد أن نعرفه. قد لا نكون قادرين على التعامل مع ما نعتقد أننا نريد أن نعرفه. نطلب من الله أن يساعدنا أن نتعلّم التجاوب مع ما لا نفهمه قائلين :” إننا نثق بك يا رب”، إنه فعل الإيمان. التجربة الثالثة: ابتعد عني يا شيطان، للرب إلهك وحده تسجد، وإياه وحدة تعبد. السعي الدؤوب للاكتفاء الذاتي والسيطرة على مقاليد الأمور على جميع المستويات الفردية والدولية. السيطرة على مقدرات الشعوب في جميع المجالات خاصةً الصحية، وما نمر به الآن من أوبئة. الحياة هي هبة إلهية، فرصة من خلالها ننمو في الحب والعطاء والتقاسم. هكذا من خلال التجارب يرسم لنا يسوع النهج الصحيح ليس فقط في رحلة الصوم بل للحياة في مجملها. في النهاية ينتصر يسوع بهذا النهج على إبليس ولكن إلى حين، يبقى علينا أن نكمل المسيرة في واقعنا الحياتي اليومي. يقودنا ذلك إلى واقعنا الحياتي من خلال نص الأب الرحيم أو الأبن الضال. يقدم لنا الأحد الثاني قضية الحياة الأسرية، كنمط حقيقي لحياة القداسة المسيحية وذلك في مثل الأب الرحيم والابن الضال. يؤكد المثل ويُظهر مدى عمق الخطيئة كانفصال عن الأب، والحياة العائلية . فكلا الابنان لديهما صعوبة في قبول هذه الحياة حياة القداسة أي حياة الشركة العائلية، التي يدعونا الله إليها. تتجلى هذه الصعوبة ( الخطيئة ) في إنجيل اليوم الأحد الرابع، إنجيل السامرية، فالعلاقات مشوهة ، أو مقطوعة، بين اليهود والسامريين من جهة، وبين هذه المرأة، التي تمثلنا جميعا، وبين من تعيش معهم:” كان لك خمس أزواج، والذي معك الآن ليس بزوجك”. ثم ينتقل من هذه العوائق من مستوى العلاقات البشرية لتعبر عن أسلوب العبادة الحقيقية والتي تتجلّى في العبادة الظاهرية التي فقدت عمقها الداخلي والباطني الحميمي مع الله، فأصبحت قشور: التمسك بالطقوس والتي هي هامة دون العمق الداخلي: أين نعبد؟ في هذا الجبل أم في أورشليم… ستأتي ساعة وهي الآن، يعبد في العابدون الحقيقيون الآب بالروح والحق. في الواقع ما نمر به في هذه الأيام من محنة الكورونا تكشف لنا واقعنا الهش. إنها فرصة لإعادة تقييم حياتنا وعلاقتنا بالله والآخرين وهدم الحواجز والجداران التي تفصلنا عن العبادة الحقيقية مع الله، وبناء جسور التواصل في علاقتنا الإنسانية ( مسيرة توبة ومصالحة). كل ها يقودنا إلى الأحد الرابع، الذي يقدم مشهدًا رائعًا: يسوع يشفي كسيح بِرّكة حسدا. حوار يسوع من شخص يعرفه تمامًا في كل أبعاده، هكذا يسوع يحاورنا عالمًا بما نحياه من قوة وضعف. بينما ندخل نحن في حواراتنا وعلاقاتنا الإنسانية دون معرفةٍ كاملة، هناك حواجز من خبرات سابقة وأحكام مُسبقة شاهدناها في النصان السابقان ( الأب الرحيم – السامرية). يسوع يدخل في علاقة وحوار مع شخص مشلول كسيح منذ ثمانية وثلاثون عامًا. هي قصة حب ورحمة ، من جهة يسوع، وخيانة ومقاومة للحب ،من جهة الكسيح. يبدأ الحوار بسؤال يوجهه يسوع للكسيح وكل واحد منا :” هل تريد الشفاء؟”، ومَن منا لا يريد الشفاء من أمرضه؟ يبدو لأول وهلة، سؤال استفزازي، وخاصة يسوع يعلم بقسوة هذا المرض وطول مدته! السؤل ماذا يطلب منّا يسوع نظير الشفاء؟ أن نؤمن به، وألّا نعود إلى الخطية. ينطلق يسوع من الشفاء الحسي للأمراض المحسوسة والمرئية للدخول في الأمراض غير المرئية، فالخطيئة من الصعب اكتشافها بمفردنا ورؤيتها بالعين، إنها تدخل حياتنا وقلوبنا وتتجذّر فيها، وتحول حياتنا إلى كابوس. لم يتكن الكسيح أن ينزل إلى البِرّكة بمفرده، بقدرته الذاتية، واكتفاءه الذاتي: ليس لي إنسانّ. يشعر الكسيح بالغربة والعزلة التي تفرضها علينا ثقافة اليوم وجردنا من الشركة، ثقافة تتجلّى في التعبير : ليست بحاجة إليك يا الله، لست بحاجة إليك إيها الإنسان. مَن لديه إيمان لا يمكنه القول أبدًا أن الله بعيد عنه. فإن نسيت الأم رضيعها، فغن الله لا ينسانا. في المحن والمعاناة يقترب من الله ، أكثر من أي لحظة أخرى، علينا ان نثق بذلك وإن لم نراه بأعيننا، عما سوف نراه في أحد التناصير، نص المولود أعمى. إنها دعوة في أزمنة المحن لنقترب بعضنا البعض ولنتخلى عن ما يبعدنا ويفصلنا، مجتمعيًا، عرّقيًا، دينيًا، ولنتقاسم الحب والعطاء والخير والسلام. لنتحد في الصلاة اليوم أمام المحن الت تشملنا جميعًا دون استثناء ، ولنصرخ إلى الله مع العالم أجمع أشفنا يا رب من أمراضنا وخطيانا.
الأب انطونيوس فايز