ترك الترك / : أشرف ناجح إبراهيم
ترك الترك : أشرف ناجح إبراهيم
ياله مِن شاب غني ولكنه حزين ومعذب ذاك الشاب الذي جاء يوماً حائراً متسائلاً: «يا معلم، ماذا أعمل لأنال الحياة الأبدية؟» (متى 19/16)!! لقد طلب يسوع مِن هذا الشاب أن “يترك ويتخلى” (متى 19/21)، ولكنه –للأسف- “ترك الترك” (متى 19/22)، ومِن ثَمَّ جاء عليه يوم –ياحسرتاه- “ترك فيه ترك الترك”!! إنَّ هذا ليس لغزاً مُعقداً! ولكنها حقيقة لمسها وعاشها هذا الشاب المسكين؛ وأخاف أن نحياها نحن أيضاً، كل واحد على حسب طريقته!! لذلك أرغب الآن في أنْ أعرض هذا الحقيقة الصادقة، لا لندين أحداً، بل لنوبِّخ أنفسنا؛ وليس لنتركها، بل لنستوعبها جيداً ونستخرج منها الرسالة والعبرة لنا نحن أيضاً!! ·
الترك لقد أعتاد يسوع المسيح، عندما كان في أورشليم، بذاك الجمع الغفير الذي كان يتبعه، وكان مدركاً غاية الأدراك لحقيقة كل واحد منهم وما يكنّه في صدره له! فياله مِن شخص في غاية الروعة والحنان ذاك الذي رأى حقارة البشر وخبثهم، ولم يدنهم بقداسته اللامحدوة؛ بل على العكس أشفق عليهم إشفاقاً لا مثيل له، ورأهم «كغنم لا راعي لها» (مر 6/34 )! أمَّا هذا الشاب الغني الذي اقترب من يسوع، لم يكن مثلهم، فهو كان جاداً حقاً؛ فلم يكن مثل هؤلاء الخبثاء المغرضين الذي يطرحون التساؤلات المحرجة على يسوع ليقعوه في أخطاء حتى يتسَّنى لهم تحقيق أغراضهم الدانئة؛ بل اختلف عنهم جميعاً بجديته وتميَّز عنهم برغبته في البحث عن الحقيقة! ولكن حسرتاه على شاب مثل هذا الشاب، الذي لما وصل إلى مبتغاه، والذي كشفه له يسوع ذاته، أي احتياجه الحقيقي، نجده في حالة مِن الصراع بين “الإقدام” و “الإحجام”: فقد تردد هذا الشاب تردداً أدَّ به إلى صراع مرير بين رغبته في ترك “أملاكه” وبهذا يقتني يسوع معلماً وقائداً والملكوت عطية ومكأفاة، وبين رغبته في ترك كلام هذا المعلم الملزم، وبهذا يقتنى أملاكه لوقت مِن الزمن! لقد أسرع هذا الشاب في أن يحسم هذا الصراع وفي أن يعطي المعلم أجابة، بأنه «لما سمع الشاب هذا الكلام، انصرف حزيناً لأنه كان ذا مال كثير» (متى 19/22)! إنَّ هذا هو المقصود بـ”الترك”: فقد أرده يسوع أن ينسلخ عن ذاته بتركه أملاكه وأن يتبعه إتباع التلميذ لمعلمه، عندما قال له «إذا أردتَ أن تكون كاملاً، فاذهب وبع أموالك وأعطها للفقراء، فيكون لك كَنزٌ في السماء، وتعالَ فاتبعني» (متى 19/21)؛ أمَّا هذا الشاب المسكين لم يرق له القيام بهذا “الترك”! ·
ترك الترك
إن ما فعله هذا الشاب يدعو حقاً إلى التعجب والتساؤل: لماذا لم يترك هذا الشاب كل شيء تلبية لنداء يسوع، أعظم معلمي البشر بأسرهم؟! ولِمَ نلمح رغبته الملحة في استبقاء أملاكه، التي يفسدها السُّوس والصَّدأ (متى 6/20)؟! بل وكيف لم ينصاع لنصائح مَن نصح البشر في كل العصور والأماكن، وكان أفضل مَن أسدى بنصائح لهم؟! ولماذا مضى حزيناً وكان في صحبته أملاكه؟! إن كل هذه التساؤلات لا يمكن أن نكتشف لها ردوداً إلا بالدخول في أعماق وخبايا هذا الشاب! وكيف يتسنَّى لنا هذا، أي كيف نتمكَّن مِن الدخول والتَّجوِّل في أعماقه؟! «فمَن مِن الناس يعرف ما في الإنسان غير روح الإنسان الذي فيه؟» (اقور 2/11)! ولكنني سأحاول فقط أنْ أتخيل موقفه! إنني أتخيله عندما فتح يسوع فمه وأسدى له بنصائحه: ياله مِن مسكين حقاً! لقد كان ممزقاً بين رغبتين، وما هو الصراع إلا هذا النزاع المرير بين رغبيتن؟! الرغبة الأولى هي أن يحتفظ بأملاكه، وأن يظل مالكاً للمال والثراء؛ والثانية_ ما أجملها رغبة مشتهاه!_ بأن يصير كاملاً، وهي تكمن في ترك الرغبة الأولى وتحمُّل ما ينجم عنها مِن ألم وعذب! ولكنه لم يرغب في أن يدوم هذا الصراع وقتاً طويلاً، فقرر قراراً_ أظنه ندم عليه طوال حياته!_ لقد قرر أن “يترك هذا الترك” الذي يطلبه منه يسوع! فلم يترك ” أملاكه” كما نصحه يسوع، وإنما بإرادته وحريته “ترك الترك”؛ و بكلمات أخرى، لم يرض بأن يترك أملاكه، بل قرر أن يترك يسوع ونصائحه! إنه حقاً تخلى وترك بحرية كاملة لا ما طلبه منه يسوع أي “الأملاك”، وإنما يسوع وما قاله له، أي “ترك الترك”! إنه مسكين للغاية هذا الشاب! فقد أضاع جدته في البحث عن الحقيقة برفضه الحق الذى أعلنه له يسوع، الذي هو “الحق ذاته” (يو 14/6)! وكانت النتيجة هي أنه “مضى حزيناً” (متى 19/22)! فماذا تُجدي الأحلام والطموحات الوردية بدون خطوات عملية تجسدها؟! وهل تنفع الرغبات الصالحة والأمنيات الجميلة بدون عمل مضحٍ ينسلخ فيه الإنسان عن ذاته؟! ثْمَّة مثل مُعبِّر يقول: «إنَّ نبتة “أنا أريد” لا تنمو ولا حتى في حديقة الملك»[1]! ·
ترك “ترك الترك”
لقد نسي أو تناسى هذا الشاب “لحظة” لا يستطيع أحد مهما ارتفع شأنه أن ينساها، إنه “لحظة وحقيقة” في آنٍ واحدٍ؛ فمهما حاول هو ومهما حاولنا نحن أن ننساها وندفنها لن نستطيع إلى ذالك سبيلاً! إنها “حقيقة”، بل حقيقة مِن أقسى الحقائق، إنها حدث يحدث يومياً، ولكنه يهزنا بمفأجاته؛ إنها باختصار “حقيقة الموت”!
فمَن منا اكتشف وسيلة يهرب بها مِن ذاك الذي يدعى “الموت”؟! ومَن منا اخترع طريقاً ينجيه من هذا “المجهول القاسي”؟! وهل مِن أحد ابتكر دواء يشفينا من هذا “الداء اللعين الأعمى”؟! «إن لغز الحياة البشريّة يبلغ قمته أمام الموت. فالإنسان لا ينزعج لآلامه وانحلال جسده التدريجيّ، بقدر ما تزعجه أيضاً فكرة الفناء النهائيّ. لذك نجده يتوق بكلّ قلبه إلى استبعاده ورفض هذا الفشل النهائيّ لذاته. إن بذرة الخلود الكامنة فيه والتي لا تجد مردّها في المادّة وحدها، تثور على الموت. إن جميع المحاولات العلمية مهما بدت مفيدة، قد ثبت عجزها عن تبديد قلق الإنسان. فحتى إطالة العمر بيولوجياً لا تشبع رغبة الإنسان في حياة مستقبلة، فإنها تأصلّت في أعماق قلبه ولا يمكن اقتلاها»[2]!
ألعل هذا الشاب عندما قام بـ”ترك الترك”، أي عندما قام بترك نصائح يسوع الذي يدعوه للترك، لم يفكر لحظة في هذه “اللحظة الحتمية”، أي الموت؟! لعله لم يدرك أن هذا الموت الذي سيواجه حتماً هو ترك “ترك الترك”؟! فالموت في الحقيقة هو ترك، لا للأملاك وللأموال فحسب، وإنما ترك للحياة بجملتها؛ فهو ترك لمن أحبنا وأحببناه! وليس هذا فحسب، ولكنه أيضاً هو ذاك الترك الذي فيه نترك “ترك الترك”، أعني أنه ليست ثْمَّة فرصة أخرى تعرض علينا وتطالبنا بالترك؛ فالموت يجعلنا نترك حتى إمكانية أن نختار ثانية، فهو بحقٍ استحالة كل إمكانية!! إننا لا نعلم على وجه التحديد ماذا حدث مع هذا الشاب بعد ذاك اللقاء التاريخي مع يسوع؟! فإننا نرجوا مِن صميم قلوبنا أنْ يكون قد فتح قلبه وعقله لصوت المعلم الصالح فنال الحياة الأبدية! ولكن حديثنا هنا يفترض أن هذا الشاب لم ينصاع لنصائح المعلم صالح؛ لقد كان الموت_ الذي لم يستعد له هذا الشاب_ بمثابة ترك “ترك الترك”، أي ترك “إمكانية القبول أو الرفض” مرة أخرى؛ فها كاتب المزمور الـ(30) يُعبِّر عن ذلك تعبيراً بليغاً فيخاطب الله قائلاً: «أَلَعَلَّ التُّراب يَحمدُك ويُخبر بحقِّك؟» (مز 30/10)!
ولذلك نجده يرفع صلاته إليه: «أُنظرْ واستجبْ لي أيها الرَّبُّ إلهي وأنرْ عينيَّ لئلاَّ أنام نومة الموت» (مز 13/4)! أخيراً، إنَّ “الحقيقة” التي دار حولها حديثنا هي أمر في غاية الجدية، وهي بمثابة رسالة ودعوة لنا للتخلى والإنسلاخ عن الذات والأنانية وكلِّ ما يمتلكنا ظانيين أننا نحن الذي نمتلكه، «لأنَّ الإنسان عبدٌ لما استولى عليه» (2بط 2/19)! إنها “حقيقة الترك” الذي يدعونا إليه يسوع المسيح المعلم الصالح، الذي وعدنا بأنه سيعوِّض هذا الترك أضعافاً وأضعافاً: «ما مِن أحدٍ ترك بيتاً أو إخوة أو أخوات أو أُماً أو أباً أو بنين أو حقولاً مِن أجلي وأجل البشارة إلاَّ نال الآن في هذه الدنيا مائة ضعف مِن البيوت والإخوة والأخوات والأمَّهات والبنين والحقول مع الاضهادات، ونال في الآخرة الحياة الأبديَّة» (مر 10/29-30)! والتساؤل الذي يطرح نفسه علينا الآن: هل سنترك “الترك” الذي يطالبنا به يسوع ونتبعه كتلاميذٍ، طائعين إياه الطاعة اللائقة بأعظم معلم في تاريخ البشرية؟! أم سنتظر اليوم الذي فيه سنترك لا الترك فحسب بل “ترك الترك” أيضاً؟! ألم يعدُ أحد يفكر بعدُ في “الإسكاتولوجيّة”؟![3]
———————————–
[1] مَثل إيطالي.
[2] وثائق المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ المسكونيّ، المكتبة الكاثوليكيّة بالسكاكيني، القاهرة، 2000، دستور راعويّ “الكنيسة في العالم المعاصر”، بند 18، 59.
[3] إسكاتولوجيّة: نستعمل في اللغة العربيّةِ أحياناً كلمةَ “آخرويات”، وأحياناً أخرى كلمةَ “أخيريّة”؛ ويُقصد بها «قسم اللاهوت الذي يبحث في العواقب (من موت ودينونة خاصّة ووضع النفس) وفي عودة المسيح (نهاية العالم والدينونة العامة وقيامة الأموات والسماء وجهنّم)». صبحي حموي اليسوعيّ، معجم الإيمان المسيحيّ، دار المشرق، بيروت، لبنان، 1998، 24- 25.