توبوا وآمنوا بالبشارة – بقلم الأب نادر ميشيل اليسوعيّ
القراءات الكتابيّة
* تكوين 9: 8-15
كَلَّمَ اللهُ نُوحًا وبَنِيه معه، قائلاً:»ها أنا مُقيمٌ عَهْدي معَكُم ومعَ نَسْلِكم مِن بَعدِكمومع كُلِّ ذي نَفْسٍ حَيَّةٍ معَكم، مِنَ الطَّيْرِ والبَهائِمِ ووُحوشِ الأَرضِ الَّتى مَعَكم: كُلِّ ما خَرَجَ مِنَ التّابوتِ من جَميعِ حَيَوانِ الأَرض. وأُقيمُ عَهْدي معَكم، فكُلُّ ذي جَسَدٍ لا يَنقَرِضُ أَيضًا بِمِياهِ الطُّوفان، ولا يَكونُ أَيضًا طُوفانٌ لِيُتلِفَ الأَرض». وقالَ الله: «هذه عَلامةُ العَهْدِ الَّذي أنا جاعِلُه بَيْني وبَينَكم وبَينَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ معَكم مَدى أَجْيالِ الدَّهرِ:تِلْكَ قَوْسي جَعَلْتُها في الغَمام فتَكونُ عَلامةَ عَهْدٍ بَيْني وبَيْنَ الأَرض«. وَيكونُ أَنَّه إِذا غَيَّمْتُ على الأَرضِ ظَهَرَتِ القَوسُ في الغَمام،فذَكَرتُ عَهْدِيَ الَّذي بَيْني وبَينَكم وبَينَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ في كُلِّ جَسَد، فلا تَكونُ المِياهُ أيضًا طُوفانًا لِتُهلِكَ كُلَّ ذي جَسَد«.
* 1 بطرس 3: 18-22
أَيُّها الأَحبَّاء: المسيحُ ماتَ مَرَّةً مِن أَجْلِ الخَطايا. ماتَ، وهو بارٌّ، مِن أَجْلِ فُجَّار، لِيُقَرِّبَكم إِلى الله. أُميتَ مَوتَ الجَسَد ولكِنَّه أُحْيِيَ حَياةَ الرُّوح، فانطَلَقَ بِهذا الرُّوح، يُبَشِّرُ الأَرواحَ الَّتي في السِّجْنِ أَيضًا، وكانَت قد عَصَت فيما مضى، حينَ قَضى لُطْفُ اللهِ بِالإِمْهال. وذلِكَ أَيَّامَ كانَ نوحٌ يَبْني الفُلك، فَنجا فيه بِالماءِ عَدَدٌ قَليل، أَي ثَمانِيَةُ أَشخاص. والمَعْمودِيَّة، الَّتي يَرمِزُ إلَيها الفُلك، تُنَجِّيكُم الآنَ أَنتم أَيضًا، إِذ لَيسَ المُرادُ بِها إِزالَةَ أَقْذارِ الجَسَد، بل مُعاهَدةَ اللهِ بضميرٍ صالِح، تُنجِّيكم بقِيَامَةِ يسوعَ المسيح، الجالِسِ عن يَمينِ الله، بَعدَما صعِدَ إِلى السَّماء، وقد أُخضِعَ لَه المَلائِكةُ وأَصْحابُ القُوَّةِ والسُّلْطان.
* مرقس 1: 12-15
في ذلك الزمان: أَخَرجَ الرُّوحُ يسوعَ إِلى البَرِّيَّة، فأَقام فيها أربَعينَ يَومًا يُجَرِّبُهُ الشَّيطانُ وَكانَ معَ الوُحوش، وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه. وبَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا، جاءَ يسوعُ إِلى الجَليل يُعلِنُ بِشارَةَ الله، فيَقول:«حانَ الوقت وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة».
العظة:
يأتي مشهد التجارب في إنجيل مرقس بعد مقدّمة تاريخيّة تعرض شخص يوحنا المعمدان، فهو الصوت الصارخ في البريّة: “هيئوا طريق الربّ واجعلوا سبله مستقيمة” (مر1: 3)، وإليه يأتي الناس ليعتمدوا حتى تُغفر خطاياهم. ويعلن يوحنا عمَن يجيء بعده ليعمّد لا بالماء بل بالروح القدس (مر1: 8). ثم يأتي يسوع إليه ليعتمد بدوره في نهر الأردن، وها هو يرى “السماوات تنفتح والروح القدس ينزل عليه كانّه حمامة، وقال صوت من السماء: أنت ابني الحبيب، بك رضيت” (مر1: 10-11).
فماذا يعمل الروح في يسوع؟ وماذا يعني أنّه الابن الحبيب؟ يقوده الروح إلى البريّة ليلتقي الله الساكن فيه، ففي الصمت والسكون يسمع يسوع قلبه وينصت لكلمة الآب التي تتكلّم في عمق حياته. وتمتد فترة اللقاء أربعين يومًا أي أنّ حبّ يسوع لله ليس لحظة عابرة، بل تاريخ تام يشمل سائر أيام عمره. فهو الابن الحبيب، وهذا يملأ قلبه فرحًا وسعادة، وينير حياته وفكره وقلبه. يحيا يسوع تمامًا من روح الآب، والروح يقوده إلى محبّه أخوته البشر الخطأة وبذل حياته من أجلهم. هو الابن البكر بين أخوة كثيرين (رو8: 29)، صار إنسانًا ليعيد لآدم وبنيه بهاء إنسانيّتهم التي خُلقت على صورة الله كمثاله.
ومن هنا نفهم معنى أن يجرّبه الشيطان، فهو يريد أن يعرف ما في قلب يسوع. لقد سبق وجرّب آدم وحواء وخدعهما بحيَله الكاذبة ولعب على وتر رغبتهم أن يكونوا مثل الله، وصوّره لهم على أنّه الإله الغيور والخائف على سلطته، فجرّهم إلى إنكار كلمة الله في حياتهم، وأرادوا أن يحيوا بمعزل عن نبع الحياة، فعرفوا الحزن والضغينة والعنف، ومن ثمَ الموت (تك 3). وجرّب الشيطان الشعب العبرانيّ في البريّة، وصوّر لهم الله على أنّه الإله المخادع الذي يريد موتهم عطشًا وجوعًا، فتساءلوا إن كان الله معهم أم لا (خر17: 7)، وصنعوا لأنفسهم عجلاً ذهبيًّا وسجدوا له قائلين أنّه هو مَن حرّرهم من أرض العبودية (خر32: 4).
أمّا يسوع، فهو المولود من الروح بمعنى أنّ قلبه كان متّكلاً كلّيًّا على أبيه، وعاش واثقًا بكلمته، طالبا كلّ يوم نعمته ونور روحه. لقد عرف يسوع كلّ تجاربنا (عب 4: 15)، ومرّ بكلّ ظروفنا الإنسانيّة، وما من شيء من مشاعرنا واحساساتنا وأفكارنا وأميالنا غريبة عنه. أحبّنا نحن البشر، تجسّد وصار مثلنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة، لأنّ في صميم قلبه كان ينصت للروح وينقاد به، وكان يكشف حيل المجرّب ويوقفها بحزم وقوة. فالله فرح وسلام، اطمئنان ورجاء، شجاعة وإقدام، وفوق كلّ شيء محبّة لا توصف ولا تحدّ. والروح الشرير يلسع دائمًا، ويحزن ويثير القلق والاضطراب محوّرًا الكلام والأمور والأحداث التي نحياها، فهو كذاب وأبو الكذب، قاتلاً منذ البدء (يو8: 44).
وإذ كان يسوع مع الوحوش والملائكة تخدمه، فهي صورة آدم الحقيقيّة، آدم الجديد الذي يحيي آدم القديم. إنّها صورة الفردوس الأوّل، حيث يسود الإنسان على الوحوش بكلمته مثلما يفعل الله، وهي صورة الوداعة التي تغلب العنف، وحيث الإنسان في حضرة الله الدائمة، تحت نظرته المحبّة، الحانيّة والرقيقة، ينعم بعنايته الأبويّة الفيّاضة. إنّ الفردوس ليس ماضيًا ذهب وولّى، بل هو حاضرنا ومستقبلنا، حين نثق بالروح القدس ونصغي لكلمة الله الحاضرة في حياتنا وقلوبنا. هو بين أيدينا ووسطنا حين نميّز عمل الله في داخلنا ونسمع له من خلال ما يحدث حولنا وفي مجتمعنا وعالمنا، ونطرد الروح الشرير بعيدًا عنا فلا نستسلم لإغراءات الغنى والمجد، ولا لجاذبيّة الجاه والقوه، بل نتبع يسوع الوديع والمتواضع القلب، الخادم الذي يهب حياته لأصدقائه وللناس جميعًا.
لقد حان الوقت واقترب ملكوت الله، إنّه زمن الروح القدس الذي ملأ يسوع، ويمنحنا إيّاه الله أبو يسوع المسيح اليوم. فلا نبكي على فردوس ضائع بل نستسلم ليسوع الذي يقودنا نحو عمق وجودنا لنكتشف الله ساكنًا فيه، فنفرح بحياتنا كما هي لأنّ الله يحبّها كما نعرفها، ويرافقنا على دروب الحياة اليوميّة ليجدّد في داخلنا صورة الابن الحبيب. ومعه نواجه تحديّات العنف في داخلنا وفي الآخرين واثقين بقوة الوداعة، ونغلب تجارب شهوة المال والسلطة واللذّة متّكلين على نوره ونعمته، وبه نتسلّح بدرع الإيمان الذي يقينا من حيَل العدو الكذاب.
إنّ اليوم أيضًا، يحلّ الروح القدس علينا بنعمة يسوع، ويهمس في قلوبنا: أنت ابني الحبيب، بك رضيت. إنّها البشارة التي يعلنها لنا يسوع اليوم، فلنؤمن به ونحيا بروحه. إنّها كلمة الحياة الحقيقيّة التي تدعونا للتمسّك بها فنجعلها أساس حياتنا، صخرة خلاصنا وفخر إنسانيّتنا.
يسوعيون