جريمةُ القتلِ المأساوية بين أول أخوين : قايين وهابيل “الإجهاضُ قتلٌ على طريقةِ قايين“
نقلا عن موقع بطريركية بابل للكلدان
22 سبتمبر 2021
كتب : فتحى ميلاد – المكتب الاعلامي الكاثوليكي بمصر .
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
للروايةِ معنى بليغٌ عن العلاقة الأخوية والاجتماعية
قايين وهابيل إبنا آدم وحواء الأوَلَين، نقرأ قصتَهما في الفصل الرابع من سِفر التكوين1. وصِف الاول بالشرير (بعض المفسرين اليهود القدامى سمّوه ابن إبليس) لأنه كره أخاه وقتله، والثاني هابيل بالبريء. للقصة بعدٌ رمزي بليغ عن العلاقات الأخوية والاجتماعية، علينا أن نقف عندها ونتعمق فيها من أجل حماية الحياة، ونبذ العنف على الإطلاق، لتكون إنسانيتُنا كاملة.
لماذا يصير الانسان المخلوق على صورة الله ومثالِه وحشاً مفترساً؟ هذه الرواية ورواية لامِك والإنتقام (تكوين 4/19-25) والطوفان (تكوين فصل 6) تُظهر ان العنف جزء من تاريخ البشر. من المحزن ان تستمر عمليات العنف والقتل الى يومنا هذا، والانكى ان بعضها يتم تحت عباءة الله والدين كما تفعل داعش والقاعدة!
تُبرز قصة قايين فضاعة عملية القتل، وجسامة خطر العنف بين الاخوة، وتطرح السؤال الاتي: اذا كانت الحالة هكذا بين الاخوين فكيف ستكون مع الاخرين! لذلك يحرِّمُ الكتاب المقدس القتل منعاً لتكرار حدوث ما فعله قايين: “لا تقتل” (خروج 20/13). ويذهب المسيح الى أبعد من ذلك عندما يُطالب الانسان بتغيير سلوكِه: “مَن غَضِبَ على أَخيهِ استَوجَبَ حُكْمَ القَضاء” (متى 5/22). بهذا يؤكد يسوع ان اي اعتداء على الانسان لن يمرّ دون محاسبة.
أوَد هنا ان اُشيرَ الى لجوء البعض لتشويه سمعة الناس وتجريحهم وترويج اكاذيب بحقهم والتشهير بهم،كل هذه الافعال هي شكلٌ من اشكال العنف المعنوي الجسيم، وسيُحاسبهم الله عليها.
روايات الخلق (الفصول 11 الاولى)، مرتبطة مع بعضها. يقول الفصل الرابع من سِفر التكوين: “عرَفَ الإِنسانُ حَوَّاءَ أمرَأته فحَمَلَت ووَلَدَت قاييِن. فقالَت: قَدِ آقتَنَيتُ رَجُلاً مِن عِندِ الرَّبّ. ثُمَّ عادَت فوَلَدَت أَخاهُ هابيل. فكانَ هابيلُ راعِيَ غَنَم، وكانَ قاييِنُ يَحرُثُ الأَرض” (4/1-2). الاسم في الكتاب المقدس يعبِّر عن شخصية المُسمّى.
القرابين “اريد رحمةً لا ذبيحة” (هوشع 6/6، متى 12/7) اي القلب!
الاخوان يعيشان حياة يومية متواضعة، الأول فلاحٌ مُقيمٌ يَحرث الأرض، والثاني راعي مُتَجَوِّل. وفقاً لبعض مفسّري الكتاب المقدس أن قايين لم يُقَرِّب أحسن ماعنده للرب، بل احتفظ بالافضل لنفسه، بينما قرَّبَ هابيل الأفضل، فرضيَ الرب عنه. هذا ما تؤكده الرسالة الى العبرانيين: “بِالإِيمانِ قَرَّبَ هابيلُ لِلهِ ذَبيحَةً أَفضَلَ مِن ذَبيحَةِ قاييِن، وبِالإِيمانِ شُهِدَ لَه أَنَّه بارّ” (11/4).
جريمة القتل الاولى
تُعِدُّ الرواية تجربة قايين امتداداً لتجربة والديه ادم وحواء: “أَمَّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ فلا تَأكُلْ مِنها، فإنَّكَ يَومَ تأكُلُ مِنها تَموتُ مَوتاً” (تكوين 2/17). هذا الموت صار واقعاً بمقتل هابيل. وكما خرج آدم وحواء من حضرة الله، خرج القاتل قايين، وهكذا سيخرج كل قاتل مُتعمّد، فحياة الانسان هِبة مقدسة من الله، ولا يحق لاحدٍ ان يزيلها.
تركز الرواية على الاخُوّة، وتُكرر كلمة “أخُوهُ” عدة مرات، لانها تريد ان تبيّن ان المشكلة تكمن في قلب الإنسان، في صميم علاقة الاخوّة، فتُربِك الجريمة العلاقات العائلية والاجتماعية، وتخرِّب الانسجام بين البشر.
يبدو ان الإنسان الأول لم يُفلِح في أنسنة ذاته، وتطويع غرائزِه، فبقي الوحش يعيش قوياً في داخله: “فلَمَّا كانا في الحَقْل، وثَبَ قاييِنُ على هابيلَ أَخيه فقَتَلَه” (تكوين 4/8). جريمة قايين هزَّت البشرية الاولى، فاستنكرها الكتاب المقدس وأدانها، واعتبر من يقتل إنسانا إنما يقتلُ أخاه. وتفسر الرواية عدم حضور الله أثناء الجريمة لتُعبّر عن احترامه لحرية الانسان في الاختيار وتحمل المسؤولية.
الإجهاض قتلٌ متعمدٌ على طريقة قايين
حياة الإنسان، من وجهة نظر الكنيسة، بما في ذلك الحياة التي لم تولد بعد، لها كرامتها، وأن الطفل الذي لم يولد بعد، له الحق في حماية حياته. الإجهاض قتل متعمد على طريقة قايين، يدينه الإيمان الكاثوليكي ويحرّمه: “الكائن الذي تم التخلص منه في “الإجهاض” هو كائن بشري في بداية حياته. لا يمكن إطلاقاً تصور كائن آخر أكثر براءة منه. الطفل غير المولود يعتمد كليا على حياة الام التي تحمله في رحمها، وعلى عنايتها” (Evangelium Vitae, 58).
عندما كنتُ طالباً أدرس في باريس، دعيتُ مع مجموعة من الكهنة لمشاهدة فلم عن الاجهاض. فرأيتُ الطبيب يُدخِل الآت القتل: السكين والمقص الى رحم الأم ليُقطّع الجنين ويُخرجه. وكيف ان الجنين عند دخول السكين (الجسم الغريب) في جسم امه، راح يرتطم بجدار الرحم خائفاً، لكن الام والطبيب قتلاه عن قصدٍ كما قتل قايين هابيل البار.
حذارِ من الانتقام
قايين وأمثاله لا ينبغي ان يتهربوا من تأنيب الضمير والمسؤولية، فالله لم ينسَ هابيل المظلوم. هوذا صوتُه يصرخ في وجه قايين: “أَينَ هابيلُ أَخوك؟ أجاب: لا أَعلَم. أحارسٌ أنا لأخي؟” (تكوين 4/9). قايين يكذب مثلما كذبت حواء اُمه. فأجابه الله: “صوتُ دماءِ أخيك صارخٌ اليَّ من الارض” (تكوين 4/10)، فالأرض تحتجُّ على قتله.
فتحت جريمة القتل التي ارتكبها قايين ثغرة عميقة في حياة البشرية، فخطر تفشي العنف مثل خطر تفشي جائحة كورونا قد يطال حياة كل إنسان، فراح الله يحتوي عملية الثأر التي لا حدود لها3، ويمنع تفشيها. إنه يَلعنُ قايين ويطرده من عائلته: “والآن فَمَلْعونٌ أَنتَ” (تكوين 4/11).
ستبقى اللعنة على جبين قايين، وعلى جبين كلِّ قاتلٍ على وجه الأرض وكأنها “الوشم– النقش” الذي يشير الى شناعة فعله. تكفيه لعنة الله، أي فقدان البركة.
مع المسيح
يَقلُب يسوع منطق العنف والثأر الى ممارسة المحبة والغفران بدعوته: “كلكم إخوة” (متى 23/8)، ويشدّد على المغفرة: “فدَنا بُطرُس وقالَ له: “يا ربّ، كم مَرَّةً يَخْطَأُ إِلَيَّ أَخي وَأَغفِرَ لَه؟ أَسَبعَ مَرَّات؟ فقالَ له يسوع: لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات” (متى 18/21-22). ويرفض ممارسة العنف – القتل إطلاقاً: “فكُلُّ مَن يَأخُذُ بِالسَّيف بِالسَّيفِ يَهلِك” (متى 26/ 51-52). وفي مشهد الدينونة يقول: “كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه” (متى 25/40).
زبدة الرواية
العنف لا يجلب السلام والأمن والأمان والعدالة، بل مزيداً من القتلى والخراب، فيبقى الأمل في وعي الإنسان العميق بأهمية حماية حياة البشر وترسيخ قيم الاخوّة، والاحترام والسعي للعيش معاً بسلام وأمان. هذا ما تعبّر عنه رسالة يوحنا الاولى: “فإِنَّ البَلاغ الَّذي سَمِعتُموه مُنذُ البَدْء هو أَن يُحِبَّ بعضُنا بَعضاً لا أَن نَقتَدِيَ بِقاييِنَ الَّذي كانَ مِنَ الشِّرِّير فذَبَحَ أَخاه. ولِماذا ذَبَحَه؟ لأَنَّ أَعمالَه كانَت سَيِّئة في حينِ أَنَّ أَعمالَ أَخيهِ كانَت أَعمالَ بِرّ” (3/11-12). هذا السلام الخارجي ينبع من السلام الداخلي.