حالة الكنيسة الكاثوليكية في مصر(2)- الأنبا/ يؤنس زكريا
ثالثاً: النتاج الفكري المسيحي في مصر
منذ بدء القرن التاسع عشر، ويتميّز النتاج الفكري المسيحي في مصر بغزارته ومواضيعه المتنوعة، التي تعكس ثراء وغنى التاريخ المسيحي القديم لكنيسة الإسكندرية، ذات التراث اللاهوتي العريق والتقاليد المسيحية العتيقة. في البداية ظهرت الكتب المطبوعة، التي تنسخ محتوى المخطوطات القديمة، وتنقل لنا أمهات الكتب المسيحية التقليدية ونصوص الصلوات الليتورجية، بعد ذلك، ظهرت المؤلفات الحديثة التي تعالج المواضيع اللاهوتية والكنسيّة بطريقة عصرية.
يتنوّع النتاج الفكري المسيحي في مصر بتنوع الكنائس والطوائف المسيحية المختلفة، حيث يعكس النتاج الفكري خصائص ومميزات كل كنيسة وطائفة.
يمتاز النتاج الفكري المسيحي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التي تمتلك العديد من المطابع ودور النشر ومكتبات التوزيع، بكثرة ووفرة المطبوعات من الكتب والمجلات والدوريات المختلفة. هذا الكم الهائل من المطبوعات يتناول المواضيع الروحية والليتورجية واللاهوتية بأسلوب يتميز بروح المحافظة على التقاليد والتراث، وتندر المطبوعات التي تتطرق إلى المواضيع الاجتماعية والثقافية.
يرتبط النتاج الفكري المسيحي للطوائف البروتستانتية في مصر بنصوص وتفسير الكتاب المقدس ومواضيع الإيمان والتجديد الروحي والخلاص والاجتماعات. في هذا المجال ظهرت العديد من الكتب والمؤلفات والمجلات، كما تأسست لهذه الغاية، المطابع ودور النشر ومكتبات التوزيع الخاصة بكل طائفة. تقوم الطوائف البروتستانتية بنشر وتوزيع نتاجها الفكري المسيحي بكل نشاط وحماس وغيرة.
تشهد الكنيسة الكاثوليكية في مصر نمو تيار ثقافي متجدد، يسعى لصياغة فكر لاهوتي ذو جسور ترتبط بالواقع الاجتماعي والخصائص الثقافية المصرية والعربية. نجد ملامح هذا التيار في معظم الكتب والمقالات الحديثة، وفي الدعوة للتجديد الروحي والفكري والمناداة بضرورة الإصلاح والتطوير الاجتماعي، التي تمتلئ بها هذه الكتب والمقالات. يرتبط معظم النتاج الفكري الكاثوليكي في مصر بما يصدر عن كنيسة الأقباط الكاثوليك والجمعيات الرهبانية والهيئات والمؤسسات الكاثوليكية العاملة على أرض مصر. فيما يلي نلقي مزيداً من الضوء على هذا النتاج:
(أ) النتاج الفكري المسيحي لدى الأقباط الكاثوليك
معظم النتاج الفكري المسيحي للأقباط الكاثوليك يدور حول المواضيع اللاهوتية والروحية والليتورجية والاجتماعية. نشرت الكنيسة القبطية الكاثوليكية الكثير من الكتب العريقة والهامة، التي أثرت المكتبة المسيحية العربية، وأغنت الفكر المسيحي في مصر والعالم العربي. في هذا الصدد، نتذكر العديد من المؤلفات التاريخية الهامة التي اشتهر بها كلاً من:
غبطة البطريرك كيرلس مقار (1867-1921)، نيافة المطران أغناطيوس برزي (1867-1925)، نيافة المطران يوحنا نوير (1914-1995)، نيافة المطران يوحنا كابس (1919-1985)، حضرة الأب يوسف لويس (1892-1965).
أصدر المعهد الإكليريكي بالمعادي (كلية العلوم الإنسانية واللاهوتية، حالياً)، في الفترة بين الستينات والسبعينات، مجموعة من الكتب الدينية، ثلاثون كتاباً تقريباً، بعضها مؤلف وبعضها مترجم، وتدور حول الحياة الروحية والليتورجية وحياة القديسين الشرقيين وترجمات لبعض الرسائل البابوية العامة.
يوجد نتاج فكري مسيحي، يساهم فيه السادة المطارنة وبعض الآباء الكهنة والاخوة العلمانيين، من خلال إلقاء المحاضرات الدينية والاجتماعية، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات، وتأليف وترجمة الكتب الدينية المتنوعة، وكتابة المقالات المختلفة في المجلات والدوريات المسيحية المصرية والأجنبية.
أسهم نيافة المتنيح المطران يوحنا نوير في تقديم نصوص المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني وتبسيطها لتكون في متناول الجميع.
أسهم نيافة المتنيح الأنبا يوحنا كابس في تقديم بعض النصوص التاريخية والطقسية.
أسهم نيافة المطران أنطونيوس نجيب في تطوير دراسات وتفسير الكتاب المقدس، وقام بتطبيق مناهج المدارس الحديثة في علم التفسير، كالمنهج التاريخي ومنهج الأساليب الأدبية، ونشر نيافته العديد من الكتب والدراسات والمقالات في هذا الشأن.
كما يساهم نيافة المطران يوحنا قلته، بما يتمتع به من إتقان للغة العربية وسلاسة في الكتابة بأسلوب شيق وواضح، من خلال مؤلفاته الدينية والاجتماعية الكثيرة، والمقالات العديدة، التي تظهر الجانب الإنساني والاجتماعي للفكر المسيحي. يتضمن نتاج نيافة المطران يوحنا قلته أفكاراً لاهوتية غير تقليدية، ويدعو في كتاباته إلى ضرورة تنشيط اللقاء المسكوني بين مختلف الطوائف والكنائس المسيحية، وإلى تدعيم الحوار المشترك بين المسلمين والمسيحيين. ومن خلال مقالاته الصحفية التي ينشرها دورياً في جريدة “الأهرام” والمجلات الثقافية، يساعد القارئ المصري والعربي على التعرّف بالكنيسة المصرية، وبالفكر واللاهوت المسيحي المعاصر.
بهدف التجديد الليتورجي، قام السينودس البطريركي بمراجعة نصوص صلوات قداس القديس باسيليوس الكبير، وأسرار العماد والتثبيت والخطوبة والزواج، وأعاد صياغتها بأسلوب عربي فصيح، يخلو من العبارات المكررة والجمل ركيكة المعنى وعديمة الوضوح، التي كانت تسود في الترجمة العربية القديمة للأصل القبطي لهذه الصلوات.
يواصل السينودس البطريركي، العمل في هذا التجديد الليتورجي، ويقوم، حالياً، بمراجعة القراءات الكنسية، ونصوص ما تبقى من صلوات الأسرار المقدسة.
جديراً بالذكر، أن “المنشآت البابوية للرسالة المسيحية” في مصر تهتم بدعم ونشر الكتاب الكاثوليكي، ليكون في متناول عامة الشعب المسيحي، وخاصة الشباب. في سنتي 1997 و 1998، تم طبع أربعة كتب في إطار “سلسلة ثقافة الشباب الكاثوليكي”. وفي هذا العام تصدر أربع كتب أخرى.
(ب) النتاج الفكري المسيحي لدى الرهبنات الكاثوليكية
للرهبنات الكاثوليكية في مصر دور هام في تجديد الكنيسة المصرية فكراً وعملاً، وفي انفتاحها على الفكر المسيحي العالمي عامة والكاثوليكي خاصة. اهتمت الرهبنات بتأسيس مراكز البحوث والدراسات الشرقية وتكوين المكتبات المتخصصة في العلوم الدينية والاجتماعية والثقافية، وهذا بدوره له فائق التأثير في الثراء الفكري المسيحي في مصر.
من بين هذه المراكز، نخص بالذكر، المركز الفرنسيسكاني للدراسات الشرقية المسيحية بالموسكي (القاهرة)، وتضم مكتبته العديد من المخطوطات القديمة وكتب التراث المسيحي، والمعهد الدومنيكاني للدراسات الشرقية بالعباسية (القاهرة)، وتعتبر مكتبة هذا المعهد من أكبر المكتبات المتخصصة في الإسلاميات في الشرق الأوسط، والمركز الثقافي للآباء اليسوعيين بالإسكندرية، وتوفر مكتبة هذا المركز المراجع الدراسية والعلمية لخدمة طالبات وطلبة الجامعات والمعاهد.
يساهم الأباء الفرنسيسكان في مصر بنشاط ملحوظ في الحفاظ على تراث الأباء وتقاليد الكنيسة الشرقية، وذلك من خلال الكتب العديدة والمجلات المتنوعة التي يهتمون بإصدارها. برع حضرة الأب لويس برسوم الفرنسيسكاني (1915-1991) في تأليف الكثير من الكتب الدينية والأعمال المترجمة، التي تدور حول المواضيع الروحية واللاهوتية والكتاب المقدس. كما يهتم المركز الفرنسيسكاني للدراسات الشرقية المسيحية بنشر العديد من المراجع والأبحاث والدراسات، التي تشمل المجالات اللاهوتية والروحية والليتورجية والتاريخية والقانون الكنسي وعلم القبطيات والآثار المصرية القديمة.
أضافت مطبوعات الأباء اليسوعيين في مصر أبعاداً فكرية جديدة في مجال الدراسات اللاهوتية والإنسانية، من خلال الكتب المؤلفة والمترجمة، التي تجمع بين التراث التقليدي والفكر اللاهوتي الحديث والواقع المصري والعربي المعاصر، وقد اشتهرا في هذا المجال حضرتي الأبوين هنري بولاد، وفاضل سيداروس اليسوعيان من خلال كتاباتهم ومؤلفاتهم الكثيرة. تتكون مطبوعات الأباء اليسوعيين في مصر من مجموعة سلاسل متنوعة تحمل العناوين التالية: “الإيمان والحياة”، “الأسرار والحياة”، “الروح والنفس”، “التراث العربي المسيحي”، “كتب طقسية”، “كتب مترجمة ومنوعات” بلغ عدد الكتب المطبوعة في هذه السلاسل ما يربو على الخمسين كتاباً.
(جـ) النشاط الإعلامي والصحفي الكاثوليكي في مصر
في مجال النشاط الإعلامي، تأسس في سنة 1949 المركز الكاثوليكي المصري لوسائل التعبير الاجتماعي. هدف هذا المركز، يقوم على الاتصال بالمهنيين السينمائيين، وتقييم الأفلام المصرية، التي تعرض على مدار السنة، من الناحية الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية. يهتم المركز بالتحليل النقدي لكل فيلم من هذه الأفلام، وينشر هذا التحليل في نشرته الشهرية “دليل الفنون”، الملحقة بجريدة “لمسياجي”. بجانب ذلك، ينظم المركز، سنوياً، مهرجاناً سنيمائياً، يمنح فيه جوائز للأفلام المصرية، التي تبرز القيم الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية، كما يمنح جوائز خاصة وشهادات تقدير للسنيمائيين والعاملين في مجال المسرح والتليفزيون والإذاعة والصحافة، تقديراً لأعمالهم الفنية الراقية.
في مجال النشاط الصحفي، يصدر عن الكنيسة الكاثوليكية في مصر العديد من الجرائد والمجلات والدوريات والنشرات المختلفة، نذكر منها ما يلي:
(1) جريدة “لمسياجي”، أي “حامل الرسالة” ، وهي جريدة مسيحية أسبوعية، باللغتين الفرنسية والعربية، وتصدرها النيابة الرسولية للاتين بالإسكندرية.
(2) مجلة “الصلاح”، تصدرها بطريركية الأقباط الكاثوليك بالقاهرة.
(3) مجلة “صديق الكاهن”، تصدرها كلية العلوم الإنسانية واللاهوتية بالمعادي.
(4) مجلة “رسالة الكنيسة”، تحررها لجنة خدمات شباب بطريركية الأقباط الكاثوليك بالقاهرة.
(5) مجلات “أخوّة وسلام”، “صوت الحق”، “رسالة الدعوات”، يصدرها الأباء الفرنسيسكان بمصر.
(6) مجلة “رسالة القديسة تريزا ليسوع الطفل”، يصدرها الأباء الكرمليين بالقاهرة.
(7) مجلة “نور على الطريق”، يصدرها معهد التربية الدينية بالقاهرة.
(8) مجلة “رفاق الكرمة”، يصدرها نشاط أغصان الكرمة بالقاهرة.
(د) آمال وتطلعات
من العرض السابق، يتضح لنا ارتباط معظم النتاج الفكري المسيحي الكاثوليكي في مصر بالكنيسة القبطية الكاثوليكية والرهبنات الكاثوليكية.
يعتبر هذا النتاج جيداً من حيث النوعية، متواضعاً من حيث الكيفية، وقليلاً من حيث الكمية، ولا يكفي، حقاً، الاحتياجات الروحية للكنيسة الكاثوليكية في مصر. من أجل تلبية احتياجات الإكليروس الروحية، تعتمد الكنائس الكاثوليكية في مصر على استيراد الكتب الكاثوليكية، المطبوعة باللغة العربية، من المطابع والمكتبات اللبنانية، وعلى استيراد الكتب المطبوعة باللغات الأجنبية من المكتبات بالخارج. بينما تلبي المطبوعات القبطية الأرثوذكسية في المجالات الروحية واللاهوتية والليتورجية، والمطبوعات البروتستانتية في مجالي الكتاب المقدس والاجتماعيات، الاحتياجات الروحية للمؤمنين الكاثوليك في مصر.
في هذا المجال، هناك آمال وتطلعات عبّر عنها أبناء الكنيسة الكاثوليكية في مصر، في كل الندوات والمؤتمرات الكنسية والرعوية، بشأن الاحتياج الضروري والملّح لتأسيس مطبعة ودار نشر خاصة بالكنيسة الكاثوليكية في مصر، وتنظيم وتطوير مكتبات التوزيع الخاصة بالكنائس والرهبنات والرعايا، مع بذل كل الجهد، وتوفير كل الإمكانيات، وتنسيق كل الطاقات، في سبيل إنعاش وتقدّم الكتاب والمجلات والمطبوعات الكاثوليكية، وكل وسائل الاتصال الحديثة وطرق التعبير الاجتماعي على الأرض المصرية.