خواطر في ’لاهوت الأديان‘ – الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ
خواطر في ’لاهوت الأديان‘ – الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ
لقد أحرز المجمع الفاتيكانيُّ الثاني تغييراً عميقاً في مفهوم العلاقة بين المسيحيّة وسائر الأديان، وذلك في التصريح علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحيّة، وفي البيان الحُرِّيّة الدينيّة، فضلاً عن بعض التلميحات في الدُّستور العقائديِّ الكنيسة (§ 16)، وكذلك في الدُّستور الراعويِّ الكنيسة في العالم المُعاصر (§ 92)، وأيضاً في المرسوم نشاط الكنيسة الإرساليّ (§ 3، 9 ـ 11). فكيف يُمكننا تقييم هذه النُّصوص المجمعيّة، وقد مرّ على صُدورها أكثر من أربعين سنة: هل دمجها الفكر اللاهوتيُّ في بيئتنا المسيحيّة العربيّة؟ وهل عاشها المسيحيّون وحقّقوها؟
سنُذكِّر سريعاً بأهمِّ المُكتسَبات المجمعيّة وكيفيّة قبولها في العالم المسيحيِّ بوجه عامّ. وبناء على ما سنتوصّل إليه، سنعرض قضيّتين لاهوتيّتين حيويّتين: أُسس ’حوار الأديان‘ من جهة، وعلاقتها بـ’الاعتراف الإيمانيِّ بيسوع المسيح‘ من جِهة أُخرى .
أوّلاً ـ مُكتسبات المجمع الفاتيكانيِّ الثاني
كان مشروع التصريح علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحيّة في أصله يقتصر على العلاقة باليهود، لاسيّما بسبب الروابط الروحيّة العميقة الوثيقة بهذا الشعب، والمُناشدة بمُناهضة جميع ألوان مُحاربة الساميّة (§ 4). إلاّ أنّ التصريح، أثناء صياغته، لم ينحصر على اليهود، بل تجاوزهم للحديث في سائر الأديان، وقد نالت العلاقة بالمُسلمين مكانة مرموقة، نظراً إلى توحيدهم مِثل اليهود والمسيحيّين (§ 3).
ويُمكننا تلخيص التعليم المجمعيِّ في هذه الفكرة المُزدوجة الجوهريّة: “لا تنبذ الكنيسة الكاثوليكيّة شيئاً مِمّا هو حقٌّ ومُقدَّس في هذه الديانات، وتُقدِّر، باحترام صادق، مبادئ العمل والحياة والتعاليم، تلك التي تحمل قبساً من شُعاع الحقيقة التي تُنير جميع الناس، وإن اختلفت في أُمور كثيرة عمّا تقول به وتُعلِّمه هذه الديانات. غير أنّها تكرز، وينبغي لها أن تكرز بلا انقطاع، بالمسيح “الطريق والحقِّ والحياة” (يو 14/6)، وفيه يجد الناس مِلء حياة الإيمان، وبه صالح اللهُ مع نفسه جميعَ الأشياء (2 قور 5/9) (§ 2). هناك إذاً تطلُّبان قد يبدو لأوّل وهلة أنّهما يتعارضان، غير أنّنا سنُبيِّن كيف التوفيق بينهما، وهما: الاعتراف بما هو صالح في مُختلف الأديان، ما يفتح الباب للحِوار / واجب الكِرازة بيسوع المسيح، وبرِسالته الشاملة البشريّة جمعاء.
أضف إلى ذلك، مُناشدة الكنيسة، من مُنطلق هذين التطلُّبين، بـ”الأُخوّة الشاملة” المبنيّة على أنّ جميع البشر هم “مخلوقون على صورة الله” ، وأنّ معرفة الله تُترجَم في محبّة البشر، ما يُحتِّم التنديد “بأُسس كُلِّ نظريّة أو سلوك يُفرِّق بين الإنسان والإنسان، وبين أُمّة وأُمّة، في ما يتعلّق بالكرامة الإنسانيّة والحُقوق المُنبثقة منها. لذا، فإنّ الكنيسة تستنكر كُلّ تفرقة وكُلّ عنف يقع على الناس بسبب الجِنس أو اللون أو الطبقة أو الدين، فذلك يُخالف روح المسيح ” (§ 5). فالكنيسة تتمسّك باحترام الإنسان تمسُّك الله تعالى به. وعليه، فإنّها تُقرُّ بحقِّ كُلِّ شخص في اعتناق دينه، انطلاقاً من اقتناعها بحُرِّيّته البشريّة، المبنيِّ على الوحي المسيحيِّ نفسه الذي يُؤسِّس إيمان الإنسان على حُرِّيّته الشخصيّة، ذلك بأنّ الله يعرض ولا يفرض عليه الإيمان، فكم بالحريِّ على الإنسان أن يحترم قُدسيّة الاختيار الإيمانيِّ الشخصيِّ بدون أن يُمارس أيّ لون من ألوان الضغط أو الإجبار أو القهر أو القسر أو الإكراه (راجع البيان في الحُرِّيّة الدينيّة: § 10 ـ 11).
ثانياً ـ مدى قبول حِوار الأديان
الوثائق الكنسيّة الرسميّة بعد المجمع
وما صرّح به المجمع قد ثبّتته وثائق كنسيّة رسميّة مُتعدِّدة، أكّدت فيها تطلُّبَ الحِوار بين الأديان على أساس صِدق المُتحاور من جِهة، واحترام أعضاء مُختلف الأديان احتراماً مُتبادلاً من جِهة أُخرى . الحقُّ يُقال إنّ بين تلك الوثائق نبراتٍ مُختلفة، بحسب اختلاف رُدود فِعل مُتباينة في الكنيسة نفسها إزاء هذه الروح المجمعيّة.
ولقد تضمّنت تلك الوثائق، على مرِّ الأعوام، إثراء وتنوُّعاً من حيث المضمون فشمل خمسة مجالات مُختلفة: ’الحِوار الحياتيّ‘، و’الحِوار الخِدميّ‘، و’الحِوار الفِكريّ‘، و’الحِوار الروحيّ‘، و’الحِوار الدينيّ‘؛ وسيأتي ذِكرها لاحقاً.
بعض المواقف إزاء الوثائق والحِوار
فمن بين مواقف المؤمنين المُختلفة، نذكر: * مَن يرفضون الحِوار، خوفاً من أن تتلاشى الفَرادة المسيحيّة في الحِوار، وأن تفتر رِسالة الكِرازة؛ وفي الغرب، لقد اشتهر الأُسقف لُوفِفْر الذي رفض المجمع مُجملاً. كما أنّ البِلاد حيث المسيحيّة تُمثِّل أقلِّيّة دينيّة أو ثقافيّة أو عدديّة، اتّخذت موقفاً حذراً غير مُشجِّع للحِوار بسبب عدم اعتراف الأغلبيّة اعترافاً صادقاً بـ’الآخر المُختلف‘، وعدم احترام حُقوقه احتراماً كاملاً.
* مَن يعترفون بتعدُّديّة مُعتقدات الأديان، ويعتبرون أنّ النُّصوص المجمعيّة لا تزال غير مُنفتحة على الأديان بالقدر المرجوّ، ما يُفضي بهم إلى اعتبار الأديان مُتساوية، نِسبيّة، لا تتّسم بصِفة المُطلقيّة.
* لذا، فإزاء هذين الموقفين المُتشدِّدين، ارتأت وثيقة الربّ يسوع أن تُعيد الأُمور إلى نِصابها، فشدّدت على “الفرادة والشُّموليّة المُتعلِّقتين بيسوع المسيح والكنيسة”، حتّى لا تُبتَر الحقيقة ولا تُشوَّه في الحِوار، وقد أقرّت في نِهاية الأمر بضرورة ازدواج الحِوار / الفرادة معاً، بالرغم من صُعوبة بُلوغ ذلك التواصل المُزدوج، دون التضحية بأحد العُنصرين اللذين أكّدهما المجمع.
وأمّا المؤمنون غير المسيحيّين، فتباينت مواقفهم، إزاء مبدإ الحِوار كما تفهمه الكنيسة، بين الترحيب والرفض:
* فبعضهم امتدحوا موقف الكنيسة، وقد اعتبروه جريئاً، مُشجِّعاً علاقات جديدة بينها وبينهم. تلك حال اليهود بوجه خاصّ.
* وبعضهم استشعر أنّ الحِوار نوع من ’التبشير الجديد‘، وهو تبشير ثقافيّ؛ نذكر على سبيل المِثال ردّ فِعل الفيلسوف التُّونسيِّ محمّد طالبي، وقد انتقد بوجه خاصٍّ وثيقة حِوار وكِرازة الفاتيكانيّة على مُخادعتها المُتستِّرة.
إنّ هذه المواقف المُتباينة فُرصة لتوضيح قضيّتين مُلحّتين: الأُولى ضرورة الحِوار في عالمنا المُعاصر، وما يُمكننا الانتظار منه؛ والثانية أهمِّيّة التوفيق والتناغم بين فرادة المسيحيّة / الانفتاح على سائر الأديان، مع احترام كِلا العُنصرين احتراماً كاملاً.
ثالثاً ـ إشكاليّة أُسس حِوار الأديان وثِماره
إنّ مُمارسة الحِوار قد تُؤدّي إلى سوء تفاهم، بل وإلى انحرافات: عِندما يُغَضُّ النظر عن الاختلافات بين الأديان لحِساب إرضاء المُتحاورين؛ أو إذا نقص الصِّدق بين المُتحاورين؛ أو لمّا يفرض أحد الأطراف نظرته على الآخرين… بالرغم من تلك المُغالاة، فهي لا تُمثِّل سبباً كافياً لمنع انعقاد الحِوار، بل تستدعي تبنّي بعض الاستعدادات الأدبيّة، منها تطلُّب التبادل الحقيقيِّ بين الأطراف المُتحاورة، والصِّدق مع الذات، واحترام الآخر المُختلف…
غير أنّ هُناك صُعوبة لاهوتيّة ينبغي طرحها بوُضوح، وهي: هل يستطيع المُتحاور أن ينتظر بصِدق شيئاً من غيره، إذ يعتبر أنّ دينه، لا دين الآخر، هو دين الحقّ؟
وهُناك صُعوبة تاريخيّة أيضاً: يأتي إلى ذاكرتنا التعصُّب الدينيُّ والحُروب الدينيّة في تاريخ البشريّة، باسم الدين الحقِّ الوحيد. ولذلك بالتمام أكّد المجمع أنّ الانتماء إلى دين مُعيَّن لا يُبرِّر بأيِّ حال من الأحوال العُنف وعدم التسامح والتمسُّك الدينيّ الأعمى، ما يؤدّي في نِهاية الأمر إلى التقليل من أهمِّيّة الحِوار وعدم الانتظار منه نفعاً يُذكَر سِوى تقوية أواصر العلاقات، لا أكثر.
لهذا السبب، يظهر لنا فرنسيس الأسيزيُّ مِثالا يُحتذى به، عِندما صمّم مُقابلة السُّلطان الكامل في مصر، سنة 1219، في غُضون الحُروب الصليبيّة، وكان قصده إمّا أن يُقنع السُّلطان بالدين المسيحيّ، وإمّا أن يستشهد أمانةً لإيمانه. ولم يتحقّق لا هذا ولا ذاك، بل أثمرت مُقابلتهما بأنّ كليهما قد بدّل مفهومه الخطأ عن الآخر: فلم يجد السُّلطان أمامه رجلاً صليبيًّا، بل رجل الله؛ ولم يجد فرنسيس أمامه المُضطهِد الذي كان يتوقّعه، بل حاكماً مُتفهِّماً. فحسْبُ الحِوار أن يُثمر مِثل هذا الثمر من التآخي والتفاهم وتصحيح المفاهيم الخاطئة.
وقد شبّه الكاردينال نِيومَن، في السنة 1841، وضع الكنيسة بوضع يسوع الصبيِّ الذي كان “في الهيكل، جالساً بين العُلماء، يستمع إليهم ويسألهم” (لو 2/46): إنّها تنظر دائماً إلى العقائد من حولها، وتتفحّصها، مُعترفةً بما فيها من صواب، ومُصحِّحة ما فيها من خطأ، ما يسمح لها بأن تفتح نظرها على الآخرين، وتُوسِّع آفاقها، وتُطهِّر تعليمها من بعض الشوائب. إنّ الحِوار المرجوّ، في المنظور المسيحيّ، لا يعني إطلاقاً إعادة النظر في الهُويّة الدينيّة، بل إنّ دافعه هو أنّ المسيحيّ لا يستطيع، باسم البُشرى الخلاصيّة، ألاّ يُبالي بالآخرين. والحِوار المرجوُّ يتطلّب من جميع المُتحاورين “الاستماع” إلى “الآخر المُختلف” وإلى “سؤاله”، بروح مُنفتحة تعترف بما هو خير، ذلك بأنّ الله “لم يَفُتْه أن يؤدّي الشهادة لنفسه بما يعمل من خير” (رُسل 14/17)، كما أنّ الحِوار يُثير لدى الآخر ما يستدعي السؤال. وإنّ هذا ’الاستماع / السُّؤال‘ الصادق والمُتبادل بين الأطراف المُتحاورة، إنّما يُلهمه الله نفسه بابنه وفي روحه.
وعِندما يشتدُّ جوُّ التعصُّب أو عدم التسامح، ويتعذّر الحِوار الحقيقيُّ الراشد، ينبغي البحث عن طُرق حِوار مُناسبة، نذكر منها ما نوّهنا إليه سابقاً:
* ’الحِوار الحياتيّ‘:
إن كانت الأديان تفصل البشر في ما بينهم، إلاّ أنّ الحِوار الحياتيّ يجمعهم، ليتشاركوا ويتعايشوا في أفراح حياتهم وأتراحها… وذلك، بحدِّ ذاته، يكفي ليُبرِّر اللقاء الحِواريّ، بل ويُعضِّد الوحدة والأُخوّة على أساس البشريّة المُشتركة، لا الدين، ما يُغني الجميع، وما يُفضي بهم، على مدى بعيد، إلى تقاربهم بمنأى عن الحذر أو التعصُّب أو الظُّلم. وحيث التفاهم، هُناك الله.
* ’الحِوار الروحيّ‘:
يكفي أن يُركِّز الحِوار على التقارب في الإيمان، دون التطرُّق إلى الفروق التي تفصل، والله يجمع أبناءه عِندما يُصلّون معاً ويُشاركون بعضهم بعضاً في حياتهم الإيمانيّة والروحيّة. ومِمّا هو جدير بالذِّكر، تصرُّف يسوع مع غير اليهود، عِندما مدح إيمانهم: فقد قال في قائد المائة الوثنيّ: “لم أجد مِثل هذا الإيمان حتّى في إسرائيل” (لو 7/9)؛ وقال للمرأة الكنعانيّة الوثنيّة: “ما أعظم إيمانكِ أيّتها المرأة” (متّى 15/28). فإن كان يسوع نفسه قد قدّر إيمان غير اليهود، فكم بالأحرى على تلاميذه أن يتمثّلوا به، فيبحثون عن إيمان غير المسيحيّين ويمتدحونه، ففي عالم يسوده الشكُّ والتردُّد واليأس، إنّ تعضيد الآخر في إيمانه الشخصيِّ بمثابة اعتراف بعمل الله في البشر أجمع، أيًّا كان مُعتقدهم.
* ’الحِوار الفِكريّ‘:
إنّ التفكير المُشترك في القضايا الإنسانيّة العُظمى المُشتركة، مِنها حُقوق الإنسان وحُقوق الأقلِّيّات والحُرِّيّة (لاسيّما حُرِّيّة العقيدة وحُرِّيّة الضمير) والتنمية والعدالة والسلام والأخلاقيّات بوجه عامّ…، دون طرح القضايا العقائديّة التي عادةً ما تُفرِّق، يُمثِّل أرضيّة سويّة تجمع ولا تُفرِّق، تُفيد ولا تظلُّ عقيمة.
* ’الحِوار الخِدَميّ‘:
يقع على عاتق جميع الأديان أن تتضافر الجُهود البشريّة والروحيّة لمُواجهة مشاكل العصر العويصة: الحُروب والمجاعات والكوارث الطبيعيّة والفقر والجهل والأُمِّيّة ومُستقبل الكُرة الأرضيّة…، وذلك في صالح البشريّة، وفي سبيل عالَم أكثر عدالة ومُساواة وتكافؤاً.
* ’الحِوار الدينيّ‘:
إنّ هدفه تذليل عقبات عدم فهم الآخر على حقيقته. فمِن المُفيد أن يعرض كُلُّ طرف بوُضوح ما يؤمن به: فيستمع الطرف الأوّل باحترام إلى ما يقوله الطرف الآخر عن نفسه، ما من شأنه أن يُصحِّح الآراء المُسبقة الخاطئة، وهي عادّةً كثيرةٌ ومُتأصِّلة وغير واعية. أضف إلى ذلك أنّ ما قد يُبرِّر مِثل هذا الحِوار كلام بُطرس: “كونوا دائماً مُستعدّين لأن تردّوا على مَن يطلب منكم ما أنتم عليه من الرجاء ولكن ليكن ذلك بوداعة ووقار، وليكن ضميركم صالحاً” (1 بط 3/15 ـ 16). والحقُّ يُقال إنّ هذا النوع من الحِوار صعب التحقيق، لأنّه يتطلّب درجة عالية من النُّضوج والرُّشد التي تفتقر إليها مُجتمعات كثيرة، لاسيّما تلك التي تحتضن أغلبيّة وأقلِّيّة أو أقلِّيّات.
إنّ فهم الحِوار على هذا الجانب من الصِّدق والشفافيّة، والاحترام والانفتاح التعدُّديِّ المُتبادل، لَمِن ضروريّات عالمنا المُعاصر المُعَوْلَم، في سبيل تشييد عالَم أكثر إنسانيّة وأُخوّة.
رابعاً ـ إشكاليّة الاعتراف الإيمانيِّ بفرادة يسوع المسيح
يطرح الحِوار على المؤمن بوجه عامٍّ سؤالاً جوهريًّا: كيف الاستفادة من خِبرة الآخر بدون المساس بالإيمان الشخصيّ؟ وعلى المسيحيّ بوجه خاصّ: كيف التوفيق بين الحِوار والإيمان الراسخ بأنّ يسوع المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والبشر، ومُخلِّص جميع البشر (1 طيم 2/4 ـ 7، طيط 2/11)، والطريق والحقُّ والحياة لهم جميعاً (يو 14/6)؟ لقد أجاب الخِطاب اللاهوتيُّ المسيحيُّ على ذلك السؤال بطُرق مُختلفة، مُعتمداً على مُقاربات لاهوتيّة مبنيّة على الروح القُدس، وعلى يسوع المسيح، وعلى الكنيسة:
1 ـ ’الاِبْنِِفْماتولوجيا‘ (Pnevmatologia)، أي الخِطاب اللاهوتيُّ المُختصُّ بالروح القُدس
لهذا الخِطاب مُميِّزات وميزات كثيرة، لاسيّما أنّه يتعلّق بالأقانيم الإلهيّة الثلاثة:
* نظراً إلى عمل الروح القُدس في العالم، مُنذ بدء الخليقة حيث كان “يُرفُّ على وجه المِياه” (تك 1/2)، فإنّه يعمل في الأديان، بغضِّ النظر عن صِحّتها، ما أكّده المجمع، واصفاً من بين غير المسيحيّين مَن هم “ذوو الإرادة الصالحة الذين تعمل النِّعمة في خفاء في قُلوبهم”، وحاثًّا المسيحيّين على أن يعوا أنّ الروح القُدس يُقدِّم للجميع، بطريقة يعلمها الله، وسيلة الاشتراك في سِرِّ الفِصح ” ( فرح ورجاء، § 22) .
ولا يقصد كلام المجمع إطلاقاً اعتبارَهم مسيحيّين يجهلون ذلك، بل يقصد عملَ الروح القُدس في خارج حُدود الكنيسة الظاهرة عملاً سِرِّيًّا مخفيًّا يعلمه هو وحده. كما أنّ هذا الكلام لا يتجاهل ما يُناهض المسيحيّةَ في دينهم، بل إنّ الروح مصدر كُلِّ عمل خير يقومون به، وآثاره تظهر في ما هو صلاح وقداسة وحقٌّ في دينهم .
* فضلاً عن أنّ الروح يُظهر شُموليّةَ عطاء الآب بدون مُحاباة الأشخاص على أساس مُعتقدهم الدينيّ، لأنّ محبّة الآب تشمل جميع البشر، وهُم أولاده، بلا استثناء. * ثُمّ إنّ الروح لا يخضع لزمان ولا لمكان مُعيّن، على خِلاف الابن الأزليِّ الذي، بتجسُّد في الزمان والمكان، أصبح الوسيط والمُخلِّص والطريق والحقّ والحياة. وفي ذلك عينه تكمن حُدود الخِطاب اللاهوتيّ المبنيِّ على الروح القُدس وحده، في ما نحن بصدده، حيث إنّه، بالرغم من سداده ووجاهته، وإن كان يُسهِّل على المسيحيّين ويسمح لهم بالحِوار مع أصحاب الديانات الأُخرى، إلاّ أنّه، وحده، لا يُظهر بالقدر الكافي فرادة يسوع المسيح. إذن ليست الإشكاليّة اللاهوتيّة مُتعلِّقة بـ’الاِبِْنِفْماتولوجيا‘ فحسب، بل تشمل ’الكريسْتولوجيا‘ أيضاً، وكذلك ’الإكْليزيولوجيا‘، كما نراه الآن.
2 ـ ’الكريسْتولوجيا‘ (Kristologia)، أي الخِطاب اللاهوتيُّ المُختصُّ بالمسيح
نعود إلى نصِّ المجمع الذي وجّه فِكرنا اللاهوتيّ، فنتساءل كيف التوفيق بين تطلُّبي المجمع المُتلازمين: الانفتاح على الأديان، لاسيّما على ما هو “حقٌّ ومُقدَّس” فيها / فرادة المسيح، وهو “الطريق والحقُّ والحياة”؟
لقد أجاب آباء الكنيسة عن هذا التساؤل في ما يتعلّق بالأديان قبل التجسُّد الإلهيّ، عِندما اعترض مُناهضو المسيحيّة أنّها تُمثِّل ديناً حديثاً، فأكّد الآباء، مِثل يوسْتينُس المُدافِع في مُنتصف القرن الثاني، أنّ ’الله ـ الكلمة‘، وهو أزليّ، كان “مُبعثَراً” في العالم قبل تجسُّده: إنّ البشر، قبل التجسُّد الإلهيّ، قد اشتركوا في معرفة سِرِّ الله، وإن كانت معرفتهم هذه جُزئيّة ناقصة. وبفضل نزاهة حياة بعضهم، كان بوُسعهم أن يعيشوا “مع الكلمة”، مِثل سُقراط وقد رفض أن يُكرِّم آلهة مدينته، فحُكم عليه ظُلماً؛ وأمّا الذين كانوا يرفضون عطايا الله، فوضعُهم وضعُ الزؤان مع الزرع الطيِّب. وإنّ تجسُّد الكلمة لم يُقصِ مؤمني تلك الأديان السابقة له بسبب أنّهم لم يعرفوه؛ ولذا، فإنّ الأديان التي قبل التجسُّد تُعتبَر “بُذور الكلمة”، أو “آثاره” (باللاتينيّة: Semini Verbi، وبالفرنسيّة: les Semences du Verbe)، بمعنى أنّ الله كان قد أعلن ذاته للبشر بطُرق مُختلفة، عن طريق روحه القُدّوس، مُمهِّداً هكذا الطريق لتجسُّد ابنه، ما أدّى ببعضهم إلى أن يستشعروا شيئاً من سِرِّ الله، وأن يشتركوا في حياته، وإن جُزئيًّا (راجع دِفاعاً عن المسيحيّين، 1/46/2 ـ 3). فاعتماداً على هذه النظرة الكرِسْتولوجيّة الإيجابيّة إلى أصحاب مُختلف الأديان، أقرّ المجمع الفاتيكانيُّ الثاني ما هو “حقٌّ ومُقدَّس” فيهم، قبل التجسُّد وفي خارج الكنيسة، والله نفسه ألهمهم ذلك.
وتطرح تلك الرؤية سؤالاً لاهوتيًّا جديداً وجيهاً: أيُمكن تطبيق ما قيل في الأديان قبل التجسُّد على الأديان بعد التجسُّد التي لم تسمع عن المسيح ولم تعرف إنجيله؟ نستطيع أن نؤكِّد ذلك، لأنّ وضع أصحابها مُماثل لوضع سابقيهم، ولذا فإنّهم يشتركون في “بُذور الكلمة” وهي “مُبَعثَرة” بين الأُمم. وإنّ ذلك المبدأ قد دفع المُرسَلين في القرنين التاسع عشر والعِشرين إلى الكِرازة بالمسيح بكُلِّ سخاء وتضحية، لاسيّما بين الأُمم الوثنيّة (أفريقيا وآسيا).
غير أنّ ذلك يُثير سؤالاً جديداً آخر في عصر العَوْلمة، حيث المسيح لم يَعُد مجهولاً، كما كان الأمر قبل التجسُّد، أو حتّى بعده في القارات أو البِلاد النائية التي لم تصلها البُشرى بالمسيح. فاليوم، إنّ أصحاب مُختلف الأديان يعرفون المسيح، سواء أكان سمعيًّا أو كِتابيًّا، ومن ثمّ، هل ينطبق عليهم أيضاً مبدأ “بُذور الكلمة” “المُبعثَرة”؟ وهل لا تزال تستحقُّ تقدير الحقيقة والقداسة الكامنتين في الأديان السابقة للمسيح؟ الحقُّ يُقال إنّ وضعها تختلف، لأنّها تُصمِّم على أن تتميّز وتختلف عن المسيحيّة، فنجد أنفسنا أمام قضيّة ’هُويّة‘ / ’غيريّة‘ قد تتضارب. ولاهوتيًّا، إنّ التحدُّث عن “الكلمة” قبل تجسُّده (حيث “البُذور” )، يختلف عنه عِندما أصبح بشراً، وعِندما قام وصعد: فلكُلِّ مرحلة منطقها الخاصّ. وبناء على ذلك، كيف يُمكننا اكتشاف ما هو “حقٌّ ومُقدَّس” في أديان اليوم، أي بعد التجسُّد والتمجيد، وربطُه بالمسيح “الطريق والحقِّ والحياة”؟ هُناك طريقان:
* بُعد الشُّموليّة في أثناء حياة يسوع الأرضيّة
لم يُعلن يسوع للإنسان مَن هو الله فحسب، بل أعلن للإنسان مَن هو الإنسان نفسه أيضاً، وهو أساساً كائن له علاقة جوهريّة بالله، وإن كان لا يعلم ذلك، أو يعلمه جُزئيًّا؛ وقد أعلن يسوع ذلك، عن طريق شخصه وكلامه وأفعاله، لأنّه هو “الحقّ” و”قُدّوس” الله من جِهة؛ ومن جِهة أُخرى، بصِفته إنساناً قد أعلن للإنسان، لكُلِّ إنسان، أنّه مدعوٌّ، مِثله، إلى أن يشترك في قداسة الله وفي حقيقته، وذلك عن طريق شخصه وكلامه وأفعاله. ولذا فإنّ إعلان يسوع هذا إعلانٌ مُوجَّه إلى البشريّة قاطبة، نظراً إلى أنّه “الحقّ”. وإنّه يُظهر من خِلال شخصه وكلامه وأفعاله، “الطريق” الذي يؤدّي بالإنسان، بكُلِّ إنسان، إلى “حياة” الله، ذلك لأنّه هو نفسه “الطريق والحياة”. إنّ كان ذلك يظهر واضحاً جليًّا في الإنجيل، غير أنّ الإنجيل نفسه يُبيِّن أنّ قِيَمه لا تقتصر على المؤمنين بيسوع المسيح، بل تشمل جميع البشر، وذلك واضح في مَثل الدينونة العُظمى حيث إنّ كُلّ خير يصنعه الإنسان، أيُّ إنسان، عِندما يُطعم جائعاً ويروي عطشان ويكسي عُرياناً ويزور مريضاً ومسجوناً، فإنّما يصنعه بالفِعل لشخص “ابن الإنسان” نفسه، وذلك ما ستكشفه له الدينونةُ العُظمى إسْكاتولوجيًّا (Eschatologia)، وقد جهل ذلك في أثناء حياته الأرضيّة (متّى 25/31 ت)؛ وبعِبارة أُخرى، إنّ أفعال الرحمة التي قام بها قد وضعته في علاقة وثيقة بالمسيح ابن الله، والوسيط والمُخلِّص الوحيد، والطريق والحق والحياة، وذلك من دون أن يعلمه.
* بُعد الشُّموليّة في سِرِّ فِصح يسوع المسيح بما أنّ المسيح قد مات من أجل جميع البشر، فإنّ ثمرة موته الخلاصيّة تبلغ وتؤثِّر في الإنسان، كُلَّ إنسان، وإن كان لا يعلمه. وتتحقّق شُموليّة هذا الخلاص بفضل رُبوبيّة يسوع المسيح بموجب سِرِّ فِصحه، من قِيامة وتمجيد عن يمين الآب ومنح الروح القُدس، ما يجعل فاعليّته لا تقتصر على فئة مُعيّنة، مِثلما كان الأمر في أثناء أيّامه الأرضيّة، بل تشمل جميع الأزمنة والأمكنة، وهو يعمل الآن بروحه القُدّوس الذي وهبه للبشريّة جمعاء، والذي يجذب الإنسان، كُلّ إنسان، إلى المسيح الجامع كُلّ البشر: “وأنا، إذا رُفِعتُ من الأرض (على الصليب، وعن يمين الآب من حيث وهب الروح)، جذبتُ إليّ الناس أجمعين” (يو 12/32). هذا وقد أطاع الله الآب “سِرِّ مشيئته” الأزليّة، وهي أن “يجمع ويدمج تحت رأس واحد ، هو المسيح، كُلّ شيء ما في السماوات وما في الأرض” (أف 1/10). فإنّ المسيح يضطلع في شخصه المُمجَّد بكُلِّ ما في البشريّة من خير، بحسب مشيئة الله المُقدَّسة، إلى أن “يُخضع كُلّ شيء تحت قدميه” في نِهاية التاريخ البشريّ (1 قور 15/28).
3 ـ ’الإكليزيولوجيا‘ (Ekklesiologia)، أي الخِطاب اللاهوتيُّ المُختصُّ بالكنيسة
إنّ كون الكنيسة “جسد” المسيح، كما أظهره بولس، لا يقتصر على أعضائها الأحياء، بل تشمل الأموات منهم، فهي الكنيسة المُجاهدة على وجه الأرض والكنيسة المُنتصرة في السماء.
غير أنّ تجديد مفهوم الكنيسة في القرن العِشرين، مُنذ البابا بِيوس الثاني عشر وحتّى المجمع الفاتيكانيِّ الثاني، قد أبرز أهمِّيّة مفهوم “الجسد السِّرِّيّ” الذي لم يعُد يحصر الكنيسة في إطار مُجتمع بشريٍّ يجمع أعضاء مُنتمين إليه، بل يشمل أيضاً جميع الذين، من قريب أو من بعيد، ينتمون إلى المسيح بدرجات مُتفاوتة وبطريقة “مُبعثَرة”، بقدر ما يشترك دينهم إلى جُزء من “الحقِّ والقداسة”. وإنّ الحقّ هُنا هو ما في عُمق الإنسان من حقيقة دفينة في باطنه تتعدّى الانتماء الدينيّ؛ كما أنّ القداسة تتعلّق بقداسة السيرة، ويُطلِق عليها الكِتاب المُقدَّس تسمية “ذوي الإرادة الصالحة”.
ويروق لنا أن نستشهد بنصِّ البيان في الحُرِّيّة الدينيّة، وهو يُعبِّر خير تعبير عمّا نحن بصدده: “تتطلّب الحُرِّيّة الدينيّة حُرِّيّة الجماعات الدينيّة في التعبير بحُرِّيّة تامّة عن قُوّة مُعتقدها الخاصِّ بتنظيم المُجتمع أو في إحياء النشاط الإنسانيِّ أجمعه” (§ 4، راجع أيضاً: الكنيسة في العالم المُعاصر، § 31). بشرط أن يؤول ذلك إلى الصالح العامِّ المبنيِّ على العدالة. ويُثير ذلك للكنيسة تطلُّباً مُزدوجاً طالما وضَّحناه في خِطابنا: “تتمثّل رِسالتها في أن تُعبِّر عن الحقيقة وهي المسيح (…) وفي الوقت عينه تُقرُّ وتُثبِّت النِّظام الأدبيّ النابع من طبيعة الإنسان نفسها” (§ 14). ذلك بأنّ إيمان الكنيسة بالمسيح يدفعها إلى الإيمان بالإنسان الذي تتعامل معه وتخدمه. فمن حقِّها، بل ومن واجبها، في الحِوار،
* أن تشهد للمسيح علانيةً، وبشفافيّة وصراحة، وبدون حياء ولا خوف؛
* وفي الآن عينه أن تشهد لقيمة الإنسان في حدِّ ذاته، أيًّا كان مُعتقده ودينه، بدون مُمارسة أيِّ لون من ألوان الضغط، بل باحترام إيمانه المُختلف احتراماً إنسانيًّا كاملاً؛
* واثقةً كُلّ الثِّقة بالمُتحاور معها، أنّه سيتحلّى بالروح عينها في ما يتعلّق بإيمانه بالله وثِقته بالإنسان.
وإنّ حِوار الأديان المرجوّ في الكنيسة هو بالتمام ذلك الحِوار الذي يسعى ليُميِّز ويكتشف ما في دين الآخرين من “حقٍّ وقداسة”، أيًّا كان شكل هذا الحِوار: الحِوار الحياتيُّ أو الروحيُّ أو الفِكريُّ أو الخِدميُّ أو الدينيّ. ويكون هكذا قد شهد حقًّا للمسيح وللإنسان شهادة حياتيّة فِعليّة.
الخاتمة
إنّ وُجود أديان كثيرة ومُختلفة، إلى جِوار المسيحيّة، يُعتبر للمؤمنين المسيحيّين سِرًّا من أسرار الله، كما عبّر عنه بولس في حديثه عن اليهود الذين رفضوا البُشرى، وبالرغم من ذلك لم ينبذهم الله قطّ (روم 9 ـ 11). فإنّ لله خِطّة خلاصيّة على البشريّة جمعاء لن نكتشفها ونكتشف معناها وتحقيقها إلاّ في نِهاية تاريخنا البشريّ. يُرجعنا ذلك إلى السؤال الذي وجّهه التلاميذ إلى يسوع المسيح القائم في آخر ظُهور له عِند صُعوده: “يا ربّ، أفي هذا الزمن تُعيد المُلك إلى إسرائيل؟ “. وأتى ردُّ يسوع قاطعاً يدعوهم إلى احترام قصد الله الحُرّ: “ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي حدّدها الآب بذات سُلطانه “. وإلى جانب قبول قصد الله هذا، عليهم أن ينطلقوا ليؤدّوا رِسالتهم في العالم: “ولكنّ الروح القُدس ينزل عليكم فتنالون قُدرة ويكونون لي شُهوداً في أورشليم وكُلِّ اليهوديّة والسامرة، حتّى أقاصي الأرض ” (رُسل 1/6 ـ 8).
وذلك هو سِرُّ الكنيسة أيضاً المُكوَّنة من أبناء خُطاة ، في حُدود ثقافيّة ودينيّة وتاريخيّة تعيشها، كما عاشها يسوع نفسه طوال ثلاثة وثلاثين عامًّا، في وسط الخُطاة. وفي هذه الظُّروف، يُقدِّس الروح القُدس أبناء الكنيسة، كما أنّه يعمل في سائر المؤمنين، ولن ينكشف عمله، هو الآخر، إلاّ في انقضاء الدهر، عِندما سيكتشف البشر قاطبةً أنّ “جميع الأشياء تعمل لخير الذين يُحبُّون الله ” (روم 8/28).عن مجلة صديق الكاهن العدد الثاني2010