دموع التوبة / أشرف ناجح إبراهيم
دموع التوبة / أشرف ناجح إبراهيم
دموع التوبة
في حياتنا اليومية وواقعنا الإنساني، ترانا نبكي ونبكي وينحدر مِن عيوننا الدمع الغزير! فلماذا الدمع؟! ولماذا عيوننا تدمع؟!
تارة تدمع العين مِن الفشل المرير، وطوراً أخر تبكي على عزيزٍ فُقد بالموت أو انفصل عنا بالرحيل والهجرة، وغالباً ما تدمع تحسراً على النفس وحزناً على الخسرة، وكثيراً ما تبكي بسب الشعور بالذنب الأليم وبوخز الضمير القاسي!! ولكن هل تجدنا نبكي خطايانا؟! وهل يتساقط الدمع مِن عيوننا بسب كثرة آثامنا؟!
ياآسفاه على توبتنا في هذا العصر العقلانيّ، فقد أصبحت توبتنا مثل إيقاع عصرنا السريع، الذي يُحب الأمور الخاطفة، الـ”تاك أواي”، تماماً مثل “السندوش”؛ فتجدنا نتوب فقط لترتاح ضمائرنا!! وياحسرتاه على “كرسي الإعتراف” الذي أضحى كمجرد “جلسة طبيّة” عند طبيب نفساني، فنذهب إليه فقط عندما نريد أن نفرح ونتحرَّر مِن الشعور بالذنب المرير!!
فأين أنتِ أيتها التوبة الحقيقية؟ وأين هي دموعك الغزيرة؟! إنني أتسأل بصدق وبجديّة: هل الدموع كانت فقط في عصر الآباء الأولين؟ وهل مكانها الوحيد هو الأديرة والقلايات؟! مِن أين لنا بأبٍ مِن آباء الكنيسة أو قديسٍ مِن قديسها يأتي إلينا ليعلمنا مِن جديد دروس في الدموع المقدسة، وليرشدنا إلى طريق دموع الندامة الحقيقية؟! إنني لستُ أطالب نفسي أو أطالبك بدموع نابعة عن مشاعرنا الجياشة! كلا، فلستُ ممِن يلعبون بالمشاعر! ولكنني أتعجب غاية التعجب مِن عيوننا الجافة، فأخاف أن يتم فينا القول: «العيون التي لا تغسلها الدموع، يتراكم عليها الصدأ»!
دعني أصتحبك في جولة قصيرة في واقعنا، لتكتشف أنت بنفسك هل حقاً نملك واقعاً يستحق أن نزرف الدموع الغزيرة بسببه ويجعل لسان حالنا نفس كلمات كاتب المزمور الـ(6): «قد تعبتُ مِن تنهُّدي، في كلِّ ليلة أروي سريري وبدموعي أُبلِّل فراشي. أَكَلَ الغمُّ عينى» (مز 6/7-8)؛ أم إنني أبالغ مبالغة شديدة في كلامي هذا؟! ودعني أقولها مُسبقاً إنني لا أنوي مِن خلال عرضي لبعض الوقائع أنْ أدين أحداً، بل أبغي أولاً وأخيراً أن أدعو الجميع إلى البقاء الدائم في حالة “الدموع المقدسة”!فهاك رجال الله مثالاً[1]…
أين هي دموع توبتكم يا رجال الله مِن أجلكم ومِن أجل رعاياكم؟! كيف لا تبكون تحسراً على حالكم وحال شعبكم؟! انظروا أيها الرعاة ماذا يحدث بين قطيعكم الصغير! فكم مِن نفوس تركت الكنيسة وأنتم تقولون: “مَن يذهب اليوم سيأتي غيره غداً”؟! وهل يسوع المسيح “الراعي الصالح” (يو 10/ 10) ترك الخروف الضال الواحد (لو 15/1-7)، لتتركون أنتم ليس خروفاً بل خرافاً، وليس نفساً بل نفوساً؟! وماذا عملتم مع الخراف السمينة، والخراف الضعاف، والخراف المريضة، والخراف المكسورة، والخراف الشاردة، والخراف المفقودة[2]؟!
فماذا عملتم بحق مع الذين تركوا يسوع والكنيسة؟ وأين هم الآن؟ أجل، في المقاهي، والنوادي، والسينما، وأماكن السكر، وبيوت الدعارة … وإلى أخره! وماذا عن شباب يشعرون بأن الكنيسة لم تعد بعدُ المكان الملائم لهم ولسعادتهم؟! أين هي دموعكم الغزيرة؟ وأين هي صلواتكم الحارة؟ وأين هي قُداساتكم المرفوعة معها نياتكم الجادة مِن أجلهم ودموعكم المنزرفة عليهم، حتى يعودوا إلى أحضان الراعي الصالح وأحضان الكنيسة الأم والمعلمة؟! أسمعكم تطالبونني بحلول لكل هذه الصعاب، ولكنني لست بعاط للحلول! إنني أريد فقط أن أضع مِن جديد أمام أعينكم الصلاة الحارة والدموع الكثيرة كطريق لخلاص العالم والبشر! ألا تذكرون بعدُ الآباء القديسين وماذا كانوا يفعلون مِن أجل خاطىء واحد[3]؟
وهاك الآباء والأمهات مثالاً أخر…
أين هي دموعكم على أبناءكم الأعزاء؟! أراكم تتعبون وتكدحون وتعملون مِن أجلهم، وهذا أمر حسن؛ ولكن لِمَ كل هذا؟! هل لكي تتركوا لهم ميراثاً وعلماً وحسباً ونسباً؟! وماذا عن الميراث الروحي، ماذا ستركون لهم؟! أين أبناءكم الآن أيها الأباء والأمهات؟ لماذا تركتموهم يغادرون بيت أبيهم السمائيّ وحضن أمهم الكنيسة إلى قرى بعيدة لا تعرف الرحمة؟ ألم يعد يهمكم بعدُ أمر خلاصهم الروحي؟ أو هل القديسة “مونيكا” لم تعد تعطيكم بعدُ مثالاً للأم التي تبكي مِن أجل خلاص أبناءها؟ انظروا ماذا كانت ثمرة دموعها: القديس أغسطينوس، الذي يُطلق عليه بحقٍ “ابن الدموع”[4]!
لذا فأين دموعكم المنزرفة لأجل أبناءكم؟!
وأنتم أيها المدرسون والمدرسات… أيها المحاميون والمحاميات… أيها المهندسون… أيها الأطباء… أيها العمال… وياكل مَن يشغل وظيفة ويقوم بخدمة ما، ماذا عن دموعنا لأجل أنفسنا المريضة بداء الخطيئة ولأجل النفوس الكثيرة الأخرى البعيدة عن حضن يسوع الرأس وحضن الكنيسة جسده (أف 5/23)؟!
إخوتي وأخواتي الأعزاء، اغفرو لى! فما كلُّ هذا إلا مشاعري التي تزدحم بداخل قلبي وأفكاري التي تجول بعقلي؛ لقد أردت أن أعبر عنها بهذه الطريقة التلقائيّة العفويّة! ولنتذكر القول المقدس الصادق: «الذين بالدموع يزرعون بالتهليل يحصدون» (مز 126/5)! فتأكدوا أن بكاءنا لن يذهب هباء مع مهب الريح! وتأكدوا أيضاً أن دموعنا يجب أن تثمر ثمراً وفيراً! ولا تنسوا أن ابن الدموع لا يمكن أن يضيع! وثقوا أن كل مَن يولد في الصليب وفي الألم وفي البكاء والدموع، يبقى إلى الأبد! هيا معاً نعود إلى قلوبنا نشحنها بالحب، حتى تفيض عيوننا بالدمع المقدس؛ فلكما زدنا حباً، كلما زدنا دمعاً وآلماً! فمتى تصبح دموعنا حباً، ويصبح حبنا دموعاً؟!
وها أنا، أخيراً، أضع أمامكم مثالاً ليس بعده مثال: إنه يسوع المسيح قائدنا (1بط 2/21 )…
لقد بكى ليس مرة أو مرتين، بل مراراً عديدة (عب 5/7)، فالإنجيل لا يذكر لنا منها إلا مرتين: الأولى، كانت عند مدخل أورشليم (لو 19/41)؛ والثانية، كانت أمام قبر لعازر (يو 11/35)! وفي كلتا الحالتين نجده يبكي ليس لمجرد شفقة عابرة، وإنما يبكي بدافع الحب العميق الذي يحمله في قلبه الحنون تجاه كل واحد منا، إنه يبكي مرض وموت وخطيئة الإنسان! فهيا أيها المسيحيون، اقتدوا بمسيحكم، وابكوا على غرار ومثال معلمكم!!
«اعْطنى ياربُّ ينابيعَ دموعٍ كثيرةٍ، كما أعْطيتَ منذُ القديمِ للمرأةِ الخاطئةِ [لو 7/36-50]. واجعلني مُستحقاً أن أبلّ قَدميكَ اللتين أعتقتاني مِن طريقِ الضّلالةِ، وأُقدّمُ لكَ طيباً فائقاً، وأقتني لكَ عُمراً نقياً بالتوبةِ، لكي أسمع أنا [أيضاً] ذلك الصّوت المُمتلىء فرحاً: إنّ إيمانكَ خلّصكَ»[5]!
——————————————————————————–
[1] رجال الله: اُنظر (1طيم 6/11؛ 2طيم 3/17).
[2] «هكذا قال السَّيد الربُّ للرُّعاة: ويلٌ لرعاة إسرائيل الذين يرعون أنفسهم. أليس على الرُّعاة أنْ يرعوا الخراف؟» (حز 34/2).
[3] مُوجِّهاً كلامه لشيوخ كنيسة أفسس، قال القديس بولس: «فقد عملت للرَّبِّ بكلِّ تواضع، أذرف الدُّموع وأعاني المحن التي أصابتني بها مكايد اليهود. […] فتنبَّهوا واذكروا أنِّي لم أكُفَّ مدَّة ثلاث سنوات، ليل نهار، عن نُصح كلٍّ منكم وأنا أذرف الدُّموع» (رسل 20/19،31). وقد كتب هو عينه إلى أهل كنيسة قورنتس قائلاً: «ففي شدَّة عظيمة وضيق صدرٍ كتبتُ إليكم والدُّموع تفيض مِن عينيَّ، لا لأُسبِّب لكم غمّاً، بل لتعرفوا مبلغ حُبِّي العظيم لكم» (2 قور 2/4).
[4] لقد قال أحد الأسافقة الأتقياء، وكان ذا دراية عميقة بالكتب المقدسة، إلى القديسة مونيكا الأم الباكية الحزينة على ضياع ابنها الوحيد بعيداً عن المسيح والكنيسة: «إذهبي بسلام؛ ويمكنكِ أنْ تعيشي طويلاً، حيث أنَّه مِن المؤكد أنَّ ابن هذه الدموع لا يمكنه أنْ يُفقَد».Sant’Agostino, Le confessioni, Libro III, Cap. 12, 108.
[5] الأجبيّة، كتاب السبع صلوات النهاريّة والليليّة، مكتبة المحبة، شبرا، القاهرة، د.ت، 194.