دموع قلب جريح- أشرف ناجح إبراهيم
دموع قلب جريح- أشرف ناجح إبراهيم
لقد رأيتُ كثيرين يبكون؛ وقد شاهدت مراراً عديدة الدموع تتساقط مِن العيون بغزارة. ولكنها لم تكن دموعاً حقيقية، لأنها كانت دموع نازلة من العيون فقط؛ فمن يبكي بالعين فقط لا يبكي حقاً. انظروا إلى التماسيح، فستجدوها هي أيضاً تبكي! أو ألقوا أمام العيون بعضاً مما تسمى “مثيرات الدموع”، فستبكي عندئذ بطريقة تلقائية! ولا تنسوا ممن يبكون أيضاً من كثرة الضحك!
أريد أن أقول ببساطة وبدون تعقيدات: إن دموع العين ليست دموعاً، فالدموع الحقيقة هي دموع القلب، وخاصة الدموع التي تخرج من قلب جريح. وبالحقيقة، من يبكي بالعين ليس كمن يبكي بالقلب والكيان.
عندما يبكي القلب، لا يرى أحد دموعه؛ فهو يبكي في السكون والصمت. فبكاء القلب لا يُحدث ضوضاء، إنما يمزق فقط قلب الإنسان الذي يقوم به. لقد تأملت في تاريخ البشرية جمعاء: فكم من أناس بكت؟! لا شك في أنهم كثيرون، وكثيرون جداً؛ ولكن_ للأسف_ بكاءهم ذهب مع مهب الريح، لم يعد له آثر؛ والسبب ببساطة لأن دموعهم كانت دموع العين! لكنني أذكر، لا وبل أشعر وأرى حتى الآن دموع كل أولئك الذين بكوا بكل قلوبهم، وأزرفوا يوماً الدموع الغزيرة من قلوبهم. لأن الدموع التي تزرف من القلوب لا تقدر أن تمحيها علامات الدهر القاسي؛ فهي دموع غزيرة، تتجمع كلها حيث يوجد الحبّ. ألا تذكرون معي دموع المسكين بطرس، الذي بعد ما خان معلمه خارج خارجاً وأخذ يبكي بكاء مراً (مر 14/72)! أو ألا تذكرون أيضاً دموع القديسة مونيكا، التي بدموعها الغزيرة النازفة من كل جوارح قلبها، ساعدت في عودة ابنها الضال إلى ذراعي يسوع وإلى أحضان الكنيسة[1]! أتذكَّرون كيف يتحدَّث عن دموعها ابنها أغسطينوس التائب، في إعترافاته لله: «قد أرسلتَ يديك مِن عليائك وانتشلتني [(مز 144/7)]، وقد أنقذتَ نفسي مِن عمق مثوى الأموات [(مز 86/13)]، لأنَّ أمي، خادمتك الأمينة، كانتْ تبكي إليك مِن أجلي بمرارةٍ تفوق مرارةَ بكاء الأمهات على جسد أولادهم المائت. ففي روح الإيمان الذي حصلتْ عليه مِن لدنك، كانتْ ترى جيداً موتي. وأنت، يارب، استجبتَ لها؛ استجبتَ لها، ولم تستهين بدموعها المتساقطة مِن عينها لحدّ أنها [دموعها] كانت تبلل الأرض حيث كانت تركع للصلاة؛ أجل، استجبت لها»[2]!
أقول، ولا أبالغ في قولي: إنَّ كل من بكى ولا يزال يبكي من قلبه، دموعه محفوظة إلى الأبد في قلب ذاك الذي لا يبرح يبكي البشرية كل لحظة؛ فكل الدموع محفوظة في قلب الله، وهناك تجد لها مكاناً (مز 56/9). إنَّ دموعنا ليست بلا فائدة أمام أعين الإله الذي نادي به يسوع المسيح. فإن الله يبكي، أيها الإنسان! أجل، هو يبكي بكل جوارح قلبه، ولذا فهو قادر على أن يرى ويسمع أولئك الذين يزرفون الدموع من قلوبهم. فما الدماء والماء اللذان خارجا من جنب يسوع المطعون بالحربة (يو 19/34)، إلا دموع قلبه المحب العطوف. فالمسيح، الإله الكامل والإنسان الكامل، بكى مراراً عديدة ولا يزال يبكي! لا..لا يبكي تحسراً وندماً، إنما يبكي حباً؛ فهو يبكي لأنه يحب، ومن يحب حقاً يبكي كثيراً! لقد تعلمت كيف أبكي من قلبي، أي كيف أبكي حقاً، عندما تعلمت كيف أحب حقاً! إنني أبكي يومياً، أبكي لأنني أحب؛ فالحب يبكي مَن يحبهم، يبكي طالباً لهم الضحك والفرح والسعادة!
إن قلبي يبكي حقاً معكم ويشارككم البكاء يا مَن تبكون الأطفال الأبراء الذين راحوا ضحايا لعقول مغسولة وقلوب مملؤة بالحقد والضغينة.
إن قلبي يبكي معكم أيضاً يا مَن تبكون البشر الذين يستغلون الذكاء في تدمير الحياة وزرع الخوف والرعب في قلوب الأبرياء.
إن قلبي يبكي بحرارة معكم يا مَن لا تبرحون أنْ تبكوا كل من نسى أنَّ ثَمَّة إله وخالق، أحب البشر فخلقهم وفدهم، ولا يزال يحبهم لأنه يبقيهم في الحياة حتى الآن.
إنني أؤكد لكل من يبكي من قلبه أنَّ هناك من يسمعه ويشعر به! فإن بكاء القلب هو بكاء عزيز على قلب ذاك الذي يبكي، في كل لحظة، على أولاده المخلوقين على صورته ومثاله.
—————————–
[1] في كتابه المشهور “الاعترافات”، يخاطب القديس أغسطينوس الله، متحدثاً عن أمه، بهذه الكلمات: «[…] بهدؤٍ وبقلبٍ مملؤ بالثقة قالتْ لي أنها تعرف في المسيح أنها قبل أنْ تسافر مِن هذه الحياة، سترأني مؤمناً كاثوليكيّاً. هذا ما قالته لي؛ وأمَّا لك أنت، يانبع الرحمة، فكانت تُكثِّف صلواتها ودموعها، حتى تُعجِّل عونك، وتنير ظلماتي».
Sant’Agostino, Le confessioni, Traduzione di Carlo Vitali, BNR, Milano 2001, Libro VI, Cap. 1, 156.
[2] Ibidem, Libro III, Cap. 11, 106