سلسلة تعاليم قداسة البابا فرنسيس حول العائلة
15. العائلة : العائلة والجروح التي تصيب التعايش العائلي
الأخوات والإخوة الأحباء، صباح الخير!
لقد تكلّمنا في تعاليمنا الأخيرة عن العائلة التي تعيش هشاشة الوضع الإنساني: الفقر والمرض والموت. أما اليوم فسنتأمّل تحديدًا حول الجروح التي تصيب التعايش العائلي، أي حين يتبادل الأفراد الأذى في قلب العائلة. وهو أسوأ الأمور!
نعلم جيّدًا أنه ما من قصة عائلية تخلو من الأوقات التي تتعرض فيها حميمية المشاعر الغالية للإساءة نتيجة لتصرفات أحدِ أعضائِها. أقوالٌ وأفعالٌ (وإهمال!) بدلا من أن تعبّر عن المحية تستأصلها، بل وأسوأ من هذا، تهينها وتذلها. عندما تُهمل هذه الجراح، وهي بعدُ قابلة للعلاج، فإنها تتفاقم: وتتحوّل إلى عجرفةٍ وعداءٍ واحتقار. فتصبح بالتالي جروحًا عميقة، تفرّق بين الزوج والزوجة، وتقودهما إلى البحث، في مكان آخر، عن التفاهم والدعم والعزاء. ولكن هذا الدعم لا يكون دومًا لصالح خير العائلة!
إن إفراغ الحبّ الزوجي ينشر الاستياء في العلاقات. وغالبًا ما يسبب هذا التفكّك “انهيارا” يقع على عاتق الأبناء.
هؤلاء الأبناء. أودّ التوقف على هذه النقطة. بالرغم من حساسيتنا التي تطورت ظاهريًّا، ومن جميع تحليلاتنا النفسية الدقيقة، فإني أتساءل إن لم نكن في حالة تخدير إزاء جروح نفس الأطفال. فبقدر ما نحاول التعويض بالهدايا والحلويات، بقدر ما يُفقَد معنى جروح النفس –تلك الجروح الأكثر عمقًا وألمًا. نتكلم كثيرًا عن الاضطرابات السلوكية، والصحة النفسية، ورفاهية الطفل، وقلق الآباء والأمهات والأطفال… ولكن هل ما زلنا نعرف ما هو جرح النفس؟ هل نشعر بثقل الجبل الذي يسحق نفس الطفل، في العائلات التي يتبادل فيها الأفرادُ المعاملة السيئة والأذى، إلى حد قطع رباط الأمانة الزوجية؟ ما هي مكانة نفس الطفل، حين نقوم بخياراتنا – خيارات مخطئة على سبيل المثال؟ عندما يفقد الكبار رشدهم، عندما يفكّر كلّ واحد فقط في نفسه، عندما يسيء الأب والأم أحدهما إلى الآخر، فإن نفس الطفل تتألم كثيرًا، وهو يشعر باليأس. وهي جروحٌ تترك بصماتها على مدى الحياة.
في العائلة كلّ شيء هو مرتبط ببعضه: حين تكون النفس مجروحة بشكل ما، فإن العدوى تصيب الجميع. فحين يفكر رجل وامرأة -وقد التزما بأن يكونا “جسدًا واحدًا” في بناء عائلة- بهاجس حاجاتهما الشخصية من حرية وإشباع رغباتهم، فإن هذا الاعوجاج يؤثر بعمق في قلوب وحياة الأطفال. فالأطفالُ يختبئون مرات عديدة للبكاء وهم بمفردهم. علينا أن نفهم هذا جيّدًا. الزوجُ والزوجةُ هما جسدٌ واحد. أما أبناءهما فهم جسدٌ من جسدِهما. إذا تأملنا في القسوة التي حذّر بها يسوعُ الكبارَ من أن يكونوا سبب عثرةٍ للصغار –لقد سمعنا مقطع الإنجيل توًا- (را. متى 18، 6)، يمكننا أن نفهم، بطريقة أفضل، كلمتَه حول عظمة المسؤولية في الحفاظ على الرباط الزوجي الذي هو مبدأ العائلة البشرية (را. متى 19، 6 – 9). عندما يصير الرجلُ والمرأة جسدًا واحدًا، فإن كلّ جرحٍ أو كلّ هجر من قِبَلِ الأب والأمّ يؤثّر على جسد الأبناء الحي.
صحيحٌ أيضًا، من ناحية أخرى، أن ثمة حالات لا يمكن فيها تفادي الانفصال. حتى إنه يصبح ضروريًا من الناحية الأخلاقية، حين يتعلق الأمر بإنقاذ الفرد الأضعف أو الأبناء الصغار من جروحٍ أخطر، يسببها التسلط والعنف، الإهانة والاستغلال، الغرابة وعدم الاكتراث.
لكن، بنعمة الله، لا ينقص أولئك الذين، يعضدهم الإيمان ومحبة الأبناء، يشهدون بأمانتهم لرباطٍ آمنوا به، حتى وبالرغم من صعوبة إعادة إحيائه.
بيد أن ليس جميع المنفصلين يشعرون بهذه الدعوة. ولا يعترفون جميعهم، في أوقات العزلة، بدعوة الرب الموجهة إليهم. فنجد من حولنا العديد من العائلات في حالات غير عادية – لا يروق لي هذا التعبير – ونسأل أنفسنا العديد من الأسئلة: كيف نساعدهم؟ كيف نرافقهم؟ كيف نرافقهم كي لا يصبح الأبناء رهائن الأب أو الأم؟
لنطلب من الرب إيمانًا كبيرًا، كي ننظرَ إلى الواقعِ بأعينِ الله؛ ومحبّةً كبيرة، كي نتقرّب من الأشخاص بقلبِهِ الرحيم.
نستأنف مع هذا التعليم تأمّلاتنا حول العائلة. بعد أن تحدّثتُ، في المرّة الأخيرة، عن العائلات المجروحة بسبب انعدام التفاهم بين الأزواج، أودُّ أن نوجّه اهتمامنا اليوم إلى واقع آخر: كيف نعتني بمن دخلوا في علاقة اتحاد جديدة بعد الفشل النهائيّ لرباطهم الزوجيّ.
إنّ الكنيسة تعلم جيّدًا أنّ وضعًا كهذا يتعارض مع السرّ المسيحيّ. بيد أنّ نظرتها كمعلّمة مستمَدّة دائمًا من قلب أمّ؛ قلب وإذ يحرّكه الروح القدس، يبحث دائمًا عن خير الشخص وخلاصه. لذا تشعر بواجب “تميّيز الأوضاع جيّدا” … “محبّةً بالحقيقة”. هذا ما عبّر عنّه القدّيس يوحنّا بولس الثاني في الإرشاد الرسوليّ “وظائف العائلة المسيحيّة” (رقم ٨٤)، مشيرًا على سبيل المثال إلى الفرق بين من عانى من الإنفصال ومن سبّبه. لا بدّ من القيام بهذا التميّيز.
وإذا ما نظرنا إلى هذه العلاقات الجديدة بأعين الأبناء الصغار – لأن الصغار ينظرون – أي بأعين الأطفال، نرى بوضوح أكبر ضرورة تنمية قبول واقعيّ في جماعاتنا للأشخاص الذين يعيشون أوضاعًا مماثلة. لذا، من الأهميّة بمكان، أن يولي أسلوب الجماعة ولغتها ومواقفها إهتمامًا أكبر بالأشخاص، بدءًا من الصغار. فهم الذين يتألّمون أكثر في هذه الحالات. ثمّ كيف يمكننا أن نوصي هؤلاء الوالدين بأن يقوموا بما في وسعهم لتربية أبنائهم على الحياة المسيحيّة، مقدّمين لهم مثالاً للإيمان الواثق والمعاش، إذا أبقيناهم على مسافة من حياة الجماعة، كما ولو أنّهم تحت الحرم؟! ينبغي ألاّ نزيد أحمالاً أخرى على تلك التي يتعيّن على الأبناء حملها في مثل هذه الأوضاع! للأسف إنّ عدد هؤلاء الأطفال والفتيان كبير فعلاً. من الأهمية بمكان أن يشعروا بأنّ الكنيسة تهتمّ بالجميع كأمّ وهي دومًا مستعدّة للإصغاء والتلاقي.
خلال العقود الماضية، لم تكن الكنيسة في الواقع عديمة الشعور أو خمولة. بفضل التعمّق الذي قام به الرعاة، بإشرافٍ وتثبيت من أسلافي، نما كثيرًا الإدراك حيال ضرورة القبول الأخويّ والمتنبّه، في المحبّة والحقيقة، تجاه المعمَّدين الذين أقاموا تعايشًا جديدًا بعد فشل الزواج الأسراري؛ في الواقع، إنّ هؤلاء الأشخاص ليسوا إطلاقًا تحت الحُرم: ليسوا تحت الحرم! ولا ينبغي أن يُعامَلوا على هذا الأساس: إنّهم جزءٌ من الكنيسة على الدّوام.
لقد تطرّق البابا بندكتس السادس عشر إلى هذه المسألة حاثًّا على تبنّي تميّيز متنبّه ومرافقة راعويّة حكيمة، مدركًا أنّه لا توجد “وصفات بسيطة” (الخطاب لمناسبة اللقاء العالميّ للعائلات، ميلانو، ٢ حزيران (يونيو) ۲٠۱۲، الإجابة رقم ٥).
من هنا الدعوة المتكرّرة للرعاة إلى التعبير بشكل علنّي ومتماسك عن استعداد الجماعة لقبول هؤلاء الأشخاص وتشجيعهم كي يعيشوا وينّموا دائمًا انتماءهم للمسيح والكنيسة من خلال الصلاة والإصغاء لكلمة الله والمشاركة في الليتورجيّا والتربية المسيحيّة للبنين وأعمال المحبّة وخدمة الفقراء والإلتزام لصالح العدالة والسلام.
إنّ الأيقونة البيبليّة للراعي الصالح (يوحنا ۱٠، ۱۱-۱٨) تختصر الرسالة التي نالها يسوع من الآب: ألا وهي بذلُ الحياة في سبيل الخراف. هذا الموقف هو نموذجيّ أيضًا بالنسبة للكنيسة التي تقبل أبناءها كأمّ وتبذل حياتها في سبيلهم. “الكنيسة مدعوّة لأن تكون دائمًا بيت الآب المفتوح (…) – ليس هناك أبدًا أبواب مغلقة! – ويستطيع الجميع أن يشاركوا بطريقة ما في الحياة الكنسية، وأن يكونوا جزءًا من الجماعة. الكنيسة (…) هي البيت الأبويّ حيث يوجد مكان لكلّ شخص مع حياته الشّاقة” (الإرشاد الرسوليّ فرح الإنجيل، رقم ٤٧).
كما أنّ كلّ المسيحيّين مدعوّون إلى التمثّل بالراعي الصالح. بالأخصّ تستطيع العائلات المسيحيّة التعاون معه معتنيةً بالأسر المجروحة ومرافقةً إيّاها في حياة الجماعة الإيمانيّة. فليَقُم كلّ واحد بدوره متبنّيًا موقف الراعي الصالح الذي يعرف كلّ واحد من خرافه ولا يستثني أيًّا منها من محبّته اللامتناهية!