stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابات القراء

صمت الكنيسة المتكلّم- أشرف ناجح إبراهيم

830views

silصمت الكنيسة المتكلّم- أشرف ناجح إبراهيم

كم صعب على الإنسان الشعور بأنَّ حديثه لا يتحدّث لأحد وأنَّ كلامه لا يجد صدى في أذان مستمعيه! فماذا يفعل الإنسان في هذه الحالة؟ وماذا إذا انتقلنا بتساؤلاتنا هذه إلى “حال الكنيسة اليوم”؟ كم يبدؤ مؤلماً حقاً أنْ تشعر كنيسة اليوم بأنَّ حديثها لا يتحدّث لأحد وأنَّ كلامها لا يجد أذان صاغية وقلوب خاضعة مطيعة! فكيف أصبح كلام الكنيسة في العالم المعاصر مجرد “أحاديث في الهواء”؟ وكيف يبدؤ وكأنَّ كلامها أضحي غير معبّر وصامت؟ ولماذا أُجبرت الكنيسة على الانحصار في معسكرها وكأنها مرتعبة مِن شيء ما، وكأنها لا تملك كلامات قوية مؤثّرة ومقنعة للبشريّة المعاصرة؟ هل تشاركنني، عزيزي القاريء، في هذه التساؤلات الصعبة والهموم الثقيلة؟ وهل تجدها مجديّة ومعبّرة عن حال كنيستنا المعاصرة؟ فماذا نقترح إذن على كنيستنا _ أمنا ومعلمتنا_ في حالها هذا؟

أظن _ وربما أكون مخطئاً_ أنه ينبغي على الكنيسة المعاصرة أنْ تفعل مثلما يفعل كلّ إنسان في موقفها وحالها هذا؛ أعني أنه عندما يجد إنسان ما أنَّ كلامه أضحى مجرد كلام فارغ وصامت (بالنسبة للأخرين)، عليه أنْ يلتزم الصمت. أجل، ينبغي عليه أنْ يتخلّى عن الكلام الصامت ويسرع إلى الصمت المتكلّم. إنَّ الكنيسة _ التي نحبها بكلّ قلوبنا وكياننا والتي نحن أعضاء في جسدها_ ينبغي عليها أنْ تقتدي بمعلمها ورأسها؛ فعندما تجد أنَّ كلامها لا يجد أذان صاغية، عليها أنْ تصمت صمتاً متكلّماً. فالصمت الذي نقصده هنا لا يعني صمت الخوف أو صمت الشكّ، وإنما الصمت الحقيقي الحكيم والمتأمل. ودعنا نشرح إقتراحنا هذه بمثالين: السيد المسيح وشعب إسرائيل في العهد القديم.

ولنبدأ بالعهد الجديد، أعني بالسيد المسيح. كم مِن مرة طرحت عليه أسئلة عديدة وكان لا يجيب عليها، بل كان يرد على السؤال بسؤال أخر (راجع متى 21)؟ وكم مِن مرة كان بإمكانه أنْ يعطى دروساً ومحاضرات رائعة أمام مواقف عديدة، ولكنه كان يكتفي بالصمت أو حتى الهروب (راجع لوقا 4/31-37)؟ ولكن دعنا نأخذ موقفاً أخر مِن حياة يسوع أوضح مِن كلّ هذا: محاكمته أمام السنهدريم وهيرودس وبيلاطس (راجع متى 26 و 27؛ مرقس 14 و 15؛ لوقا 22 و 23؛ يوحنا 18 و 19). لا يخبرنا الإنجيل أنَّ يسوع ألقى خطاباً على محاكميه أو قام بعمل مرافعة ليدافع مِن خلالها عن نفسه؛ على العكس، إنه يخبرنا بأنَّ يسوع إلتزم إلتزاماً تاماً بالصمت. وعندما سُئل أسئلة عديدة عن ذاته وأعماله وتعاليمه وتلاميذه لم يجيب بشيء، وأحياناً كان يجيب بكلامات قليلة جداً! فهل كان المسيح عاجزاً عن الحديث في مثل هذه المواقف وهو المعلّم المشهور؟ هل لم تكن لديه الحجج والبراهين الكفيلة بإظهار براءته ومقاصده النبيلة؟ فلماذا أكتفى إذن بالصمت وكان بإمكانه الحديث والكلام؟ أجل، لأنه أدرك _ وهو العارف بقلوب البشر_ أنَّ كلامه في مثل هذه المواقف لن يجدي نفعاً؛ بل على العكس، إنَّ صمته سيكون حديثاً مفعماً بالكلمات العميقة. لقد أدرك أنَّ كلامه سيكون كلاماً صامتاً، أمَّا صمته سيكون صمتاً متكلّماً وحكيماً.

ولنذهب الآن إلى العهد القديم، وبالتحديد إلى كارثة “السبى البابليّ”. وكلنا نعرف أنْ الشعب اليهودي ذهب إلى بابل مرغماً، لأنه سُبي هناك في عام 587  قبل الميلاد، على يد ملك بابل نبوخذ نصر. وبسبب هذا السبي البابلي المأساوي ذهب شعب إسرائيل بعيداً عن أرضه (أرض الموعد) وهيكله (مكان حضور الله) وذبائحه وكهنوته (لأنَّ مكانهما الحقيقي هو الهيكل)؛ وهناك أُجبر على الصمت والانحسار. فينقل لنا أحد مزامير السبي هذه الصرخة المرة: «كيف ننشد نشيد الرب في أرض غريبة؟» (مزمور 137/4)! وما معنى هذة الصرخة؟ أجل، لقد أدرك الشعب اليهودي في سبيه أنَّ كلامهم أضحى صامتاً وصمتهم أصبح متكلماً؛ فبدلاً مِن الجلوس على كرسي موسى وإلقاء الأحاديث الرنانة، إكتفوا بالصمت أمام الله وأمام مَن سبوهم؟ وكان صمتهم صمت الإنسان المتأمل الواثق في عناية إلهه الحقيقي الذي في يده تاريخ البشر ومصيرهم والذي يقود التاريخ البشري نحو مشروعه الخلاصي. وكان صمتهم أيضاً صمت مَن يريد أنْ يسبر أغوار الأحداث ويقرأ علامات الأزمنة، ليدرك بعيون جديدة ماذا يحدث وكيف يتصرّف تجاهه؟

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو التالي: ماذا نريد أنْ نقترح بالتحديد على أمنا ومعلمتنا الكنيسة التي تحيا في هذا العصر الصعب المكتظ بالأحاديث المعقدة؟ إننا لا نقترح عليها ولا ننصحها بأحاديث أخرى أكثر تعقيداً؛ وإنما نقترح عليها الصمت المتكلّم. وهذا الصمت المتكلّم الذي نعنيه هو “صمت الحكماء”؛ فهو صمت سقراط الحكيم أمام مَن أرادوا قتله. وهو صمت السيد المسيح الحكيم والمحبّ الذي يترك مساحة للإنسان لكي يختار ويقرر، حتى ولو أخطأ الاختيار والقرار؛ فهو صمت مَن يعرض ولا يفرض. وهذا الصمت المتكلّم هو أيضاً “الصمت المتأمل”؛ أعنى ذاك الصمت الذي يريد أنْ يصغي إلى أحداث التاريخ وعلامات الأزمنة. وهو الصمت الذي يساعدها في استيعاب متغيرات عصرنا وظروفه الراهنة وتوجهاته الأكيدة؛ ويساعدها أيضاً في مشاركة عالم اليوم في همومه ومشاكله ومخاوفه. وكلّ هذا يساهم بدوره في إيجاد “لغة جديدة” تتحدّث بها الكنيسة مِن جديد إلى عالم اليوم؛ وبواسطة هذه اللغة الجديدة سيدرك عصرنا رسالة الكنيسة الصادقة وإنجيل يسوع المسيح الذي «هو هو أمس واليوم وللأبد» (راجع عبرانيين 13/8). فصمت الكنيسة المتكلّم سيتحدّث ببلاغة إلى البشريّة المعاصرة صراخاً أمامهم: إنَّ يسوع المسيح هو «الطريق والحقّ والحياة» (راجع يوحنا 14/6)!    

ويتبقى، أخيراً، أنْ نلفت الانتباه بأننا لا نطالب الكنيسة بأنْ تضحى “كنيسة خرساء”، وإنما “كنيسة صامتة”. فشتان الفرق بين “كنيسة خرساء” و”كنيسة صامتة”؛ فالأولى هي مَن أُجبرت لسبب ما على عدم الكلام، أما الأخرى فهي مَن اختارت طوعاً عدم الكلام والصمت الحكيم المتأمل حتى تتكلّم إلى البشر المعاصريين من خلال صمتها. ولكي لا أطيل في الكلام، فيصبح كلامي كلاماً صامتاً فارغاً، سأفضّل الصمت، حتى يصبح صمتى متكلّماً!