عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرّاعي – الديمان
الاحد ١٤ يوليو – تموز ٢٠١٩
“كونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام” (متى 16:10)
1. فيما يرسل الرّبّ يسوع المؤمنين به لنشر ملكوت الله في عالم الخطيئة والشرّ يقول لهم: “أرسلُكم كالخراف بين الذّئاب. كونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام”(متى 16:10). أجل، يعيش النّاس اليوم، في معظم البلدان والمجتمعات، وعندنا أيضًا في لبنان، كأنّهم بين ذئاب الظّلم، والتّعدّي على الحقوق، ونهب المال العام، والفقر، وفوضى النّفوذ السّياسيّ، وسواها من الأمور التي لا تُطاق. ولذا يدعو الرّبّ يسوع في إنجيل اليوم إلى التّحلّي بثلاث فضائل: الحكمة والوداعة والصّبر.
2. يُسعدني أن أحيّيكم جميعًا، ونحن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة في الدّيمان، على مشارف وادي القدّيسين. فيه عاش آباؤنا البطاركة والأساقفة والنسّاك وشعبُنا المارونيّ، معتصمين بالصّلاة، متأصّلين في الأرض، ومقاومين بتمسّكهم السّلميّ بالإيمان المسيحيّ والاستقلاليّة الحرّة.
أحيّي بنوعٍ خاصّ رعيّة حصرون العزيزة الحاضرة بكهنتها ومؤمنيها، هذه البلدة التّاريخيّة التي أعطت وجوهًا مشرقةً في الكنيسة والوطن. أعطت بطاركةً وأساقفة ومن بينهم العلّامة الكبير يوسف سمعان السّمعانيّ حافظ المكتبة الفاتيكانيّة وصائغ نصوص المجمع اللّبنانيّ المنعقد سنة 1736 في دير سيّدة اللّويزه، وكان موفدًا بابويًّا إلى هذا المجمع، فضلاً عن الأحبار السّماعنة الآخرين. كما أعطت كهنةً ورهبانًا وراهبات، وشخصيّاتٍ مثقّفةً لمعت في المجتمع المدنيّ. ويطيب لي أن أحيّي ابن حصرون سعادة النّائب المهندس جوزف إسحاق، ورئيس بلديّتها المهندس جيرار السّمعانيّ. والآباء الأنطونيّين، وراهبات المحبّة شاكرًا إيّاهم على الرّسالة التّربويّة التي يقومون بها على أرضها.
أتمنّى لهذه البلدة العزيزة دوام النّموّ والازدهار. ونذكر في هذه الذّبيحة الإلهيّة كلَّ أبنائها وبناتها المقيمين والمنتشرين، ونلتمس الرّاحة الأبديّة لموتاكم الذين سبقونا إلى بيت الآب.
ونحيّي لجنة وقفيّة سيّدة العناية التي تأتي من أدونيس جبيل. وما زلنا نتذكّر طيب اللّقاء بكم خلال زيارتنا الأخيرة للوقفيّة.
3. يتنبّأ الرّبّ يسوع عن واقع المصاعب التي نواجهها في الحياة من مثل: التّعدّي الجسديّ، والتّعذيب، والاضطهاد، وخيانة الأقربين، والبغض والظّلم.
ولذا يدعونا لنتسلّح بالحكمة وهي أولى مواهب الرّوح القدس السّبع. وتعني الفطنة في القول والعمل، وفي مواجهة المصاعب ولاسيّما تلك الآتية من النّاس. إنّها التّنبّه للشّرّ والاحتيالات والمكايد، باليقظة والاحتياط.
تُطلب الحكمة أوّلاً من المسؤولين، أكانوا في الكنيسة أم المجتمع أم الدّولة. إنّ العقلاء عندنا يطالبون المسؤولين السّياسيّين التّحلّي بالحكمة والفطنة، مدركين الخطر الكبير الذي يواجهه لبنان: أوضاع المنطقة التي تعيش على فوهة بركان، الخطر الاقتصاديّ الذي يهدّد الاستقرار الماليّ والآخذ بإفقار الشّعب يومًا بعد يوم، و “صفقة القرن” الفاعلة تحت الكواليس من أجل توطين اللّاجئين الفلسطينيّين رغمًا عنهم، ومن أجل توطين النّازحين السّوريّين بترغيبهم وتخويفهم، والخطر الإسرائيليّ الدّائم على الاستقرار والسّلام.
فلا يحقّ لرجال السّياسة تسخير نشاط المؤسّسات الدّستوريّة لرغائبهم ومطالبهم، وبالتالي تعطيل عملها، مثل اجتماع الحكومة وعقد جلسات المجلس النّيابيّ، فيما الأخطار المذكورة وسواها من الأزمات توجب أن تكون هاتين المؤسّستين الدّستوريّتين في حالة انعقادٍ دائمٍ لدرء هذه الأخطار.
إنّ أمور البلاد تحلّها السّلطة الإجرائيّة لا الوساطات المشكورة وحدها التي ربّما لا تنتهي، وبالتالي تبقى الحكومة ممنوعةً من الاجتماع أو مقيّدةً بمطالب الإفرقاء المتناقضة، فيما هي المسؤولة أوّلاً وآخرًا عن طرح المعضلات ودرسها واتّخاذ القرار الحاسم الأخير. وفي كلّ حال، إنّ الممارسة الشّاذّة عندنا تشوّه مفهوم الدّيمقراطيّة التّوافقيّة.
4. ويدعونا الرّبّ يسوع لنتحلّى بالوداعة التي توحي الثّقة للغير، وتعطيهم الطّمأنينة، فلا تضمر أيّ غشٍّ وازدواجيّة. وهذه أيضًا فضيلةٌ مطلوبةٌ لدى كلّ مسؤول. فهو ليس ناظرًا، وليس من أصحاب النّهج البوليسيّ، ولا هو مجرّد مراقب. مثل هذه التصرّفات لا توحي بالثّقة لدى من هو مسؤول تجاههم وعنهم. المسيح المعلّم والرّبّ يدعونا باستمرارٍ “للذّهاب إليه، في همومنا وصعوبات مسؤوليّاتنا ومتعاعب الحياة “ونتعلّم منه أنّه وديعٌ ومتواضع القلب، فنجد راحةً لنفوسنا” (متى29:11).
الوداعة وإيحاء الثّقة وإعطاء الطّمأنينة لا تعني إهمال السّهر المطلوب من المسؤول، لكي لا تدبّ الفوضى، ويُطاح بالقانون، ويتصرّف كلُّ واحدٍ على هواه.
غير أنّ الوداعة تعني أساسًا التّجرّد من المصلحة الذّاتيّة. عندما يتجرّد المسؤول من مصالحه الخاصّة، يتّصف بالتّواضع، ويكون قدوةً ومثالًا، ويصبح قويًّا حقًّا لأنّه لا يريد إلّا الخيرالعام الذي منه خير كلّ إنسانٍ وكلّ المواطنين. ويكون المسؤول أضعف المواطنين عندما ينأسر لمصالحه الخاصّة أو الفئويّة أو العائليّة أو الحزبيّة؟
5. ويدعونا الرّبّ يسوع أخيرًا لنتحلّى بالصّبر بوجه المحن. إنّ فضيلة الصّبر هي الثّبات في الإيمان والرّسالة والشّهادة. وهي التّمسّك بالحق والعدل. فبهذه القيم نستطيع المواجهة ونقاوم الشّرّ، ونبدّل وجه المجتمع، ونبني عالمًا أكثر إنسانيّةً وجمالاً.
6. المسيح الرّبّ خلّص العالم، والمسيحيّة نمت واتّسعت وسع الكرة الأرضيّة بقوّة هذه الفضائل الثلاث: الحكمة والوداعة والصبّر، لا بقوّة السّلاح والمال وسلطان النّفوذ.
إلى هذه المسيحيّة ننتمي ونواصل رسالتنا بقيمها في لبنان وبلدان الشّرق الأوسط وحيثما حلَّ المسيحيّون. وبهذه الشّهادة والرّسالة نجعل من حياتنا في حلوها ومصاعبها نشيد شكرٍ وتسبيحٍ للثالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
نقلا عن موقع البطريركية المارونية بكركي