على هامش الاحتفال بدير سيدة البشارة : الرهبنة التعبدية فى حياة الكنيسة القبطية الكاثوليكية دراسة وتحقيق : ناجح ســمعـان
يحتفل دير العذراء سيدة البشارة للاقباط الكاثوليك بعيده السنوى فى 25 مارس من كل عام تزامناً مع احتفال الكنيسة القبطية بعيد بشارة الملاك لسيدتنا مريم العذراء بالحبل الإلهى . والدير الذى يحمل اسمه اسم هذا العيد السيدى المبارك ، له حضور خاص ورسالة فريدة فى تاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية المعاصر ، إذ يعلن بروحانيته المتميزة تجسيد وجه يسوع المصلى فى البرية، من خلال معايشة الساكنين فيه روحانية الرهبانية التعبدية .
( 1) – الدعوة الاولى :
تحمل الصحراء المصرية شهادة ميلاد الحياة الرهبانية على ارضها مع نهاية القرن الثالث الميلادى ، وذلك عندما اصغى القديس انطونيوس الكبير إلى نداء الرب يسوع إليه ” إن اردت ان تكون كاملاً فاذهب وبع كل شئ لك واعطه للمساكين فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى ” ( متى 21/ 19 ) . وعلى هديه سار القديس باخوميوس ابو الشركة الرهبانية ( 292 – 346 م ) فهو اول من وضع القوانين التى نظمت حياة الرهبان تحت طاعة رئيس واحد ومن ثم حدد نظاماً يومياً دقيقاً خصص خلاله وقتاً للصلاة ووقت للعمل اليدوى . وهكذا اندمج فى الشركة الرهبانية الآلاف من الرهبان الذين دفعتهم غيرتهم المسيحية إلى التجاوب مع نداء الرب لهم إلى طريق الكمال حتى انتشر هذا النهج الروحى إلى العالم اجمع . وفى هذا يقول طيب الذكر القديس البابا يوحنا بولس الثانى فى رسالته نور الشرق هذه الكلمات ” منذ قديم الزمان كانت الحياة الرهبانية روح الكنائس الشرقية ، فالرهبان المسيحيون الاولون ولدوا فى الشرق والحياة الرهبانية كانت جزءاً من نور الشرق الذى نقله إلى الغرب كبار اباء الكنيسة غير المنقسمة ” .
( 2) – خبرة اخوة الكرازة المرقسية :
ولأن الحياة الرهبانية تمثل ضرورة حياتية للكنيسة فلقد ظلت الكنيسة القبطية الكاثوليكية تتطلع على مدى الاجيال إلى وجود رهبنة كاثوليكية للرجال وكان أول من نادى بضرورة تاسيس رهبنة للرجال فى الطائفة القبطية الكاثوليكية هو مثلث الرحمات الانبا كيرلس مقار اول بطريرك للاقباط الكاثوليك فى العصر الحديث إبان انعقاد المجمع السكندرى الاول عام 1898 م ومن بعده المتنيح القمص اثناسيوس سبع الليل والاب باسيلى ناداب . وفى عهد المتنيح البطريرك الانبا مرقس خزام ، لبى ثلاثة من كهنة الطائفة وهم الاب يؤانس ملاك والاب يونان غطاس والاب اسكندر وديع ، النداء فى الدعوة الرهبانية التعبدية وابرزوا نذورهم الاولى فى 30 نوفمبر 1960 وسميت الرهبنة باسم ” اخوة الكرازة المرقسية ” لكن المسيرة توقفت دون ان يموت الحلم .
( 3) – خبرة أخوة المسيرة الرهبانية :
من قلب الكلية الاكليريكية بالمعادى ، وفى جناح الشمامسة المبتدئين ولدت الفكرة من جديد لدى اربعة من الطلبة الاكليريكيين اجتمعوا على هدف واحد ، هو محبة وخدمة الله والقريب فى رهبنة قبطية كاثوليكية نسكية لها بعد رسولى . وقد قام الاكليريكيون بعمل مسيرة روحية لاكتشاف ارادة الله مع اب مرشد وبمباركة السلطة الكنسية تحت مسمى ” اخوة المسيرة الرهبانية ” . وانتهى المطاف بثلاثة افراد منهم يعيشون معاً فى دير العائلة المقدسة بابى الدرداء بالاسكندرية وذلك فى مارس 1994 . كان لتعطش مدينة الاسكندرية للخدمة ان طغى البعد الرسولى على حياة الجماعة وهو ما دفع الاب كيرلس تامر ان يصرح لأخويه ان دعوته لحياة رهبانية بعدها الاساسى فى الحياة التعبدية لذا تقدم بالتماس للسلطة الكنسية لكى تسمح له بأن يبدأ فى مسيرة حياة رهبانية تعبدية ذات بعد رسولى محدود فى مكان تابع للبطريركية يقع على الحدود الغربية لصحراء كينج مريوط بالاسكندرية ، وهنا يبدأ فصل جديد فى قصة الرهبنة التعبدية فى الكنيسة القبطية الكاثوليكية فى تاريخها المعاصر .
( 4 ) – مسيرة دير سيدة البشارة :
منذ 15 اغسطس 1996 بدأ الاب كيرلس تامر مسيرته فى صحراء كينج مريوط وعن هذا اليوم يقول الاب كيرلس تامر ” بدأ الرب بى هذه المسيرة فى هذا المكان يوم عيد انتقال امنا مريم العذراء بالنفس والجسد إلى السماء ، اول ما فكرت فيه عندما حضرت لهذا المكان هو عمل مغارة لأمنا مريم فى مكان يشرف على الدير كله مع وضع تمثالها فيها، ووضع الدير والمسيرة كلها تحت حمايتها وشفاعتها ، لتضعهم بدورها بين يدى الرب وان يحمل الدير اسمها ” دير العذراء سيدة البشارة ” ، ومنذ ذلك الحين تعهدتنا امنا مريم بمعونة خاصة ، لم تغفل عنا لحظة . وهكذا ابرز الاب كيرلس تامر نذوره الرهبانية حسب الطقس القبطى فى 25 مارس 1999 وفى 31 مارس 2000 اثناء احتفال الكنيسة الجامعة باليوبيل العظيم لسر التجسد قام طيب الذكر المتنيح البطريرك الانبا اسطفانوس الثانى غطاس بتدشين الدير باسم ” دير العذراء سيدة البشارة ” . وتكريس كنيسته على اسم ” القديس باخوميوس ” . ومنذ ذلك التاريخ ويواصل الدير احتفالاته السنوية تزامنا مع عيد بشارة الملاك لمريم العذراء فى اعلان صادق عن عمل الله بالمكان وعطيته الفريدة للكنيسة القبطية الكاثوليكية على ارض مصر مهد الحياة الرهبانية .
( 5) – راهبات القديس باخوميوس :
فى هبة إلهية مغايرة للتوقعات البشرية ، أرسل الروح القدس نسمة دعوة جديدة فى رحاب الدير وذلك عندمات بدأت فتاة تدعى ” نادية لطفى ” فى التعرف على المسيرة الروحية للدير من خلال المرشد الاب كيرلس تامر . وسعت الانسة نادية إلى اكتشاف دعوتها وبموافقة السلطة الكنسية قامت بعمل خبرة لمدة عام فى مكان منعزل بأرض تابعة للدير حتى ثبت لها صدق الدعوة . وفى هذا يقول المرشد الاب كيرلس تامر ” بعد ترددها على الدير ، ومتابعتى لها كمرشد روحى لشهور كثيرة ، افصحت الاخت نادية عن شعورها ان الرب يدعوها لحياة تعبدية ، لم يكن الامر سهلاً ، فنحن لم نفكر فى وجود فرع نسائى ، كذلك عدم وجود شابات معها . عرضت الامر على مثلث الطوبى الانبا سطفانوس الثانى ، عارض فى البداية ، ثم وافق على شرط ان تقوم بعمل خبرة لمدة عام بمفردها فى الارض المقابلة للدير ، والتى تبلغ مساحتها اكثر من عشرة الاف متر مربع ، استصعبت انا الامر ، لكنى عندما عرضت عليها جواب سيدنا ، نظرت الى قائلة : حضرتك بتقولنا دايماً كونوا بنعمة ربنا أقوى من اى صعوبات تواجهكم ، سوف اعيش هذه الخبرة ” . أبرزت الاخت نادية نذورها الرهبانية المؤقتة فى 27 سبتمبر 2006 متخذة اسم نادية للصليب وبدأت تأسيس فرع نسائى للرهبنة وانضم إليها عدد من الاخوات حتى تم اعتماد جمعية سيدة البشارة للقديس باخوميوس من السلطة الكنسية باسم ” راهبات القديس باخوميوس ” فى 19 فبراير 2008 بيد صاحب الغبطة الكاردينال الانبا انطونيوس نجيب بطريرك الاقباط الكاثوليك آنذاك . كجمعية رهبانية تعبدية لها بعد رسولى محدد وتابعة للايبارشية البطريريكية ورئيسها غبطة البطريرك .
( 6 ) – انشطة الدير وخدماته فى الكنيسة :
فى ختام هذه القراءة لمسيرة الرهبنة التعبدية فى الكنيسة القبطية الكاثوليكية واستقرارها الحالى بدير العذراء سيدة البشارة بالاسكندرية ، وجب التأكيد على ان طبيعة الدعوة للرهبنة التعبدية تقود صاحبها رجل كان أو امراة إلى الحياة التأملية ملتمساً وجه يسوع المتأمل فى البرية . كذلك تجسيد الراهب لدعوته فى واقع لاخرين من خلال بعد رسولى يتمثل فى استقبال الدير لضيوفه للارشاد الروحى والرياضات والخلوات الروحية ، فضلاً عن قيام الراهب بالعمل اليدوى اليومى الذى يكسبه معيشته من عمل يديه . كما يضطلع دير البشارة بعمل روحى فريد من خلال اصداره لكتاب سلسة التأملات اليومية فى الكتاب المقدس على مدى واحد وعشرين سنة . تحمل التأملات هذا العام 2019 عنوان ” تكفينى نعمتك ” . ومن بين اوراق هذا الكتاب نختتم دراستنا هذه بقراءة الصلاة التى خصصها الدير للاحتفال بعيده ” نضرع إليك ايتها العذراء سيدة البشارة ان تلتمسى لنا ولكل البشرية نعمة الروح القدس حتى نجسد بحياتنا حضور ابنك يسوع وسط العالم . باركى وطننا ، وكنيستنا ، وعائلاتنا ، ورهبنتنا الناشئة وارسلى لنا دعوات صالحة ” .