stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابات القراء

عيد عماد المسيح

2kviews

987982_2

الأب منويل بدر – ألمانيا

من دواعي السّرور، أنّه غالبا أوّل ما يدور في رأس الوالِدَيْن بعد ميلاد طفلٍ لهما، هو السّؤال عن عمّاده. فما هو العمّاد يا ترى؟ ماذا يُعطي العمّادُ للطفل؟ ماذا ينتظر الأهل من العمّاد وغيرها من الأسئلة. الجواب عليها يعطينا إيّاه عيد عمّاد يسوع اليوم. إن أوّل ما نأسف عليه أنّه لا إنسان بيننا يتذكّر حفلة عمّاده، لأنّ العمّاد يجري في بداية حياة كل إنسان البشريّة وفي أصغر سنّ ممكن، حيث لا إمكانيّة للذاكرة أن تحتفظ بذكرى هذا الحدث الجميل، علما بأنّ العمّاد هو الحدث الأوّل والمُهم، الذي يحدث فيه الإختيار الحاسم للحياة المسيحيّة وذلك للحياة كلّها. بهذا الصّدد قال البابا فرنسيس للمستمعين في عظته يوم الأحد 09/01/2014 في عيد عمّاد المسيح: “كثيرون هم الذين لا يتذكرون شيئاً من الاحتفال بهذا السرّ، لكنه أمر طبيعي لاسيما إذا كانوا قد نالوا سرّ المعموديّة بعد فترة قصيرة من ولادتهم. لكن من الأهمية بمكان أن نعرف تاريخ اليوم الذي دخلنا فيه في تياّر خلاص يسوع، لأننا إن لم نكن نعرفه فهناك خطر أن نفقد ذكرى ما فعله الرب بنا، وذكرى النعمة التي نلناها. فنعتبر معموديتنا عندها مجرد حدث من الماضي، حدث خارج عن إرادتنا لأنه قرار والدينا، وليس له أي تأثير على حاضرنا. علينا أن نوقظ ذكرى معموديتنا فينا”.

المعموديّة هي، بكلمات البابا فرنسيس: “ليست مجرّد طقس بسيط ورسمي في الكنيسة. فها بولس الرسول يكتب في هذا الصدد: “أَوَتَجهَلونَ أَنَّنا، وقَدِ اَعتَمَدْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَدْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة كما أُقيمَ المَسيحُ مِن بَينِ الأَمواتِ بِمَجْدِ الآب؟” (روما 6، 3- 4). إذًا فالمعمودية ليست مجرّد تدبير رسمي! إنه فعلٌ يطال عمق كياننا، ففي المعموديّة نغوص في ينبوع الحياة الذي لا ينضب: في موت يسوع أكبر فعل حب في التاريخ، وبفضل هذا الحب يمكننا أن نحيا حياة جديدة خارج قبضة الشر والخطيئة والموت وفي الشركة مع الّله والإخوة”.

نعم المعموديّة هي بداية حياة جديدة لكلِّ من يتعمّد، حيث يُصبح عُضواً في جسد المسيح السّري (كولوسّي 24:1)، وينضمَّ إلى شعبه الجديد، تماما كما كانت المعموديّة ليسوع في بداية حياته العلنيّة. فقد اندَمج مع الشّعب وتعمَّد كَكُلِّ واحد منهم. هذا الحدث يصفه لنا متى اليوم: فها يسوع ينضمّ على ضفاف نهر الأردن إلى الجموع القادمة من أورشليم إلى يوحنّا ويطلب من هذا أن يُعمّده. فيحدث جدال يدلّ على تواضع كلّ واحد من الطّرفين أمام الآخر. فيوحنّا يُمانع قائلا: “أنا أحتاج إلى الإعتماد من يدك، وأنت تأتي إليّ؟” (متّى 13:3) وأمّا يسوع، الّذي لم يكن بحاجةٍ للمعموديّة فيشرح ليوحنّا باقتضاب، أن هذا هو عَزْم الّله. ثمّ يَحْني رأْسَه أمام يوحنّا، آخرِ أنبياءِ العهد القديم وأوِّلِهم في تبشير العهد الجديد، ويعتمد “لمّا اعتمد الشّعب كلّه اعتمد يسوع أيضا” (لو 21:3). حادثُ المعمودِيَّةِ هذا يذكره الإنجيليُّون الثّلاثة: متّى ومرقس ولوقا، لأَهمِيَّته للحياة المسيحيّة.

كيف نُعرّف المعموديّة؟ بكلمة أخرى: ما هي المعموديّة؟ في وعظته المذكورَةِ أعلاه، قال البابا فرنسيس: “المعودية هو السرّ الذي يقوم عليه إيماننا والذي يطعّمنا كأعضاء حية في المسيح وكنيسته، ويُشكِّل مع سريّ الافخارستيا والتثبيت ما يُعرف بأسرار التنشئة المسيحية والتي تشكل معًا حدثًا أسراريًّا كبيرًا يجعلنا نتمثل بالرب ويجعل منا علامة حيّة لحضوره ومحبّته”.

إن كتاب الطّقوس الكنسيّة يقول: ألمعموديّة هي عمل كنسي ديني يتمّ باسم الثالوث الأقدس، يَنْتُج عنه غفران الخطايا ويعطي الحق في أن يصبح المعمّد ابن الّله، لا بولادة طبيعيّة ولا بالتّبني وإنما بنعمة إلهيّة. “لقد ولدتم ولادة جديدة” (تيطس 5:3) “هذا هو ابني الحبيب، الّذي به رضيت”. نعم نصبح بالعمّاد أبناء الّله وإخوة مُساوين بالحقوق مع ابنه يسوع. فنحن لا نولد مسيحيّين بل نصبح مسيحيّين. والمعموديّة تؤكد لنا أنّنا نصبح بطبيعتنا البشريّة أبناء الّله وننضمّ إلى أعضاء جسده السّري :”أنتم جسد المسيح وكلّ واحد هو عضو في هذا الجسد” (1 كور 27:12) نعم بميلاده واتّخاذِه طبيعةً بشريّة مثلَنا، وبنفس الوقت ببقائه إلهاً، قد جعل منّا إخوة له، لا بالتّبني ولا بولادة طبيعيّة بل بولادة إلهيّة، وهذه تعمل الأُخُوّةَ أقرب وأرفع وأمتن من القرابة العاديّة. لذلك يحقُّ لكلِّ كاهن يُعمّد طفلا أن يُسْمِعَه كلمة القدّيس أمبروزيوس أسقف ميلانو ليلة عيد الفصح” يا معمّد! قدّر قيمتك، فأنت قد أصبحت ابن الّله!”. هذا هو مفعول المعموديّة.

إنّ قبول أيَّ سِرٍّ من الأسرار لا يعني فقط اللقاء بالّله لفترة قصيرة(كزيارة نقوم بها لصديق) وإنّما هو الإشتراك بحياته الإلهيّة، الّتي تجري فينا إلى الأبد، كما أشار يسوع إلى ذلك بصلاته من أجل الوحدة: “إنّي أتيت لتكون الحياة للناس وتفيض فيهم” (يوحنّا 10:10). وعندها نفهم ما قاله بولس: “لستُ أنا الحيّ، إنّما المسيح حيّ فيّ” (غلاط. 20:2). فَمَنْ قَبِل سرّا مُقدّسا يحصل على شيء إضافي لا يستطيع الحصول عليه بقدرته الخاصّة، وهو غفران خطاياه والإتّحاد الأمتن بالّله، كما هو مذكور في صلاة أوّل أحد من الزّمن الأربعيني. الّلهمّ يا من خلقت الطبيعة البشريّة بنوع عجيب، وبنوع أعجب أصلحتها، هب لنا أن نرضيك بحياتنا وأعمالنا”.

لماذا نعتمّد أو أيضا لماذا نُعمّد أولادنا؟ في كلّ ديانة طقس قُبولِ عضو فيها، يبرهن له علاقته مع إله هذه الدّيانة، إذا صحّت تسميته إلها، لتسهيل الصّلاة والإتصال به. فهناك مثلا في اليهوديّة كما في الإسلام طقس الطّهور وطَقْسَ غسل الأيدي والفم قبل دُخول الهيكل أو الجامع للصّلاة. في الدّيانة الهنديّة الوثنيّة هناك طقس الحمّام الكامل الشّامل مرّة في السّنة في نهر كبير يرتمي في مائه ملايين النّاس، يعتقدون أن مياهه تجرف خطاياهم معها وتبعدها عن قلوبهم. هذا وهم يعتبرون الموت غرقا في ذلك اليوم نعمةً كبيرةً من إلههم. أما عندنا نحن المسيحيّين فهناك عدّة إمكانيّات وطقوس للحصول على التّنقية من الخطيئة. أوّل هذه الطّقوس هو العمّاد، وذلك بغسل الجبين بالماء المقدّس. ويعتبر الجبين هو مركز الإرادة الّتي هي تُقرّر ارتكاب أو مخالفة وصايا الّله. فغسل الجبين الخارجي يعني تطهيرَه الدّاخلي من الآثام وتقوية الإرادة لمقاومة الشّر. يخبرنا بولس عن قصّة ارتداده العجيبة على طريق دمشق، وكيف أن الكاهن حنانيا أمره قائلا: “لماذا تتردّد؟ قم واعتمد لتحصل على غفران خطاياك” (أعمال 16:22).

إنّ المعموديّة هي أغنى الأسرار بالرّموز والإشارات الخارجيّة، الّتي ترمز إلى ارتباطنا المتين مع المسيح. يبدأ طقسها برسم إشارة الصّليب على جبين الطّفل، الّتي ستذكّره بأن حياته لن تخلى من الصّلبان اليوميّة الّتي عليه أن يحملها “من أراد أن يكون لي تلميذاَ فليحمل كلَّ يوم صليبه ويتبعي” (مر 34:8) وأنَّ المسيح خلّصه بموته من أجله على الصّليب. ثم يتبع طقس المَسْح بالزّيوت المقدّسة مرّتين: الأًولى قبل العمّاد، وهذا الزّيت هو زيت أعشاب طبيعيّة كانت تُسْتَعْمَل في الطّب القديم لمعالجة الجروحات والآلام والأوجاع، حيث لم يكن الطّب متقدّما مثل اليوم ويقدّم لنا آلاف الحبوب والعلاجات من أمراضنا. هذا الزّيت هو رمز لشفاء نفسنا من جرح الخطيئة الأصليّة.

وأمّا مسح الزّيت الثاني، وهو زيت زيتون صاف (وللعلم: هذا الزيت يأتي من شجرات زيتون الجسمانيّة في القدس، يُكرِّسه الأُسقف يوم خميس الأسرار في القبر المُقدّس ويُوزَّع على كلّ رعايا أبرشيّته. فمن ناحية هو يعني ارتباط الأسقف بجميع كنائس ومؤمنيّ أبرشيّته، الّتي يمثّلها الكاهن الّذي يمنح الأسرار نيابَةً عنه. ومن ناحية ثانية أن زيت الزيتون إذا وقعتْ نقطة منه على ثوب أبيض يُحدِثُ بقعة عليه لا يوجد مادة تُزيل آثارَه نهائياً عنه، فهو كَحِبْر الَخْتم الّذي يبقى على الوثيقة المختومة به مؤبّدا. فهذا رمز أن المعمّد هو مختوم برمز المسيحيّة إلى الأبد. المسحة بالزيت المُقدّس تتمّ مباشرة بعد رشّ ماء المعموديّة على الجبين، يَمْسَحُ الكاهِنُ الجبين أيضاً. هذا الزّيت لعب دوراً كبيراً في الدّيانات. بهذا الزيت كانت تُمسَح رؤوسُ وأيدي الكهنة والملوك والأنبياء المختارين لوظائف معيّنة في الشّعب المُوكَلِ لهم. فيمسح المعمّدُ المُخْتار بهذا الزّيت لينضمّ إلى شعب الّله الجديد، فتُوكَلُ إليه مُهمَّةُ التّبشير والشّهادة في حياته للإنجيل وتعاليم المسيح. في ملكوت الّله، الّذي هو الكنيسة.

ثمّ يُوضَع ثوب أبيض على الطّفل، وهو رمز خارجيّ لنظافة القلب والنّفس من الخطيئة الّتي كانت تسكُنهما “، كما يقول بولس”لقد لبستم المسيح” (أفسس 24:4)، أي نعمته قد حلّت عليكم. في الزّمان القديم كان المُعمّدون يلبسون هذا الثوب لأسبوع كامل، من سبت النّور يوم اعتمادهم وإلى الأحد اللاحق لأحد الفصح، المُسمّى بالأحد الأبيض، حيث يُرْجِعُ المعمّدون هذا الثوب إلى مكان اعتمادِهم ويعدون بدخول حياة جديدة في العالم بأن يكونوا شُهود للإيمان الّذي نالوه بالعُمّاد، الّذي غَفَرَ لهم خطاياهم فصارتْ بيضاء كهذا الثّوب الّذي لبسوه لأُسبوع كامل. فالمعموديّة تغفر الخطايا للتّائبين، كما قال بطرس للجموع يوم العنصرة: “توبوا، وَليَعتَمِد كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس” (أعمال 2، 38). الطّفل الّذي يُعطى الثوب الأبيض في هذا الإحتفال هو الآن مُجَلَّلٌ بنعمة المسيح لكي يسير ورائه وبنوره، ولذا تعطى له شمعة العمّاد الّتي تضاء من ضوء الشّمعة الفصحيّة، ليسير خلف المسيح، الّذي قال عن نفسه: “أنا نور العالم، من سار معي فلن يرى الظّلام أبداً” (يو 12:8). هذا ولا ننسى دور الأهل في التربية الدّينية للطفل، فهم أوّل المسؤولين عن غرس بذرة الإيمان في أبنائهم. سيساندهم لاحقاً الأشابين، اللّذين يختارهم الأهل، لا لأنّهم أغنياء وبوسعهم شراء أو إحضار هدايا للطفل كلّما جاءوا لزيارته، وإنّما هم المُعاونون للأهل في إعطاء المثل الصّالح والتّربية المسيحية الضّروريّة. فأوّلُ الصّفات الّتي يجب أن تتوفّر فيهم هي أن يكونوا هم أيضاً مؤمنين مقتنعين، قبل أن يكونوا أغنياء، حتّى يساندوا ويدعموا الأهل في التربية الدّينية ويكونوا مثلاً يُحتذى به خارج البيت الأبوي، حيث يتأكّد الطّفل من أن ما يُمارِسُه الأهل أو ما يسمحون له به أويمنعونه من ممارسته، هو مُطابِق أيضا عند الآخرين خارج البيت الأبوي، فيقتدوا بِهِم.

فحياة تبدأ مدعومة برموز وعلامات قويّة كهذه، لا بدّ أن تأتي بثمار كثيرة في ملكوت الّله الأرضي، أي في الكنيسة، الّتي يعيش فيها المعمّد. فعلينا أن نبقى شاكرين طيلة حياتنا لهذا الإختيار الإلهي المجّاني لنا منذ صِغَرِنا لنكون من شعبه الجديد المختار. فهذه هدِيَّة الّله لنا، بل نِعمة مجّانية في بداية حياتنا البشريّة. هذا وأختتم هذا المقال بكلمات البابا فرنسيس نفسها في الوعظة المذكورة أعلاه: “لنطلب من الرب أن يجعلنا نختبر أكثر فأكثر وفي حياة كل يوم هذه النعمة التي نلناها في العماد”.

موقع ابونا