فاعتزل بتلاميذه – الأب وليم سيدهم
حينما نقول إن الإنسان حيوان إجتماعي بطبعه، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن الإنسان متفرد بطبيعته، وأبسط مثل على ذلك إستخدام بصمة اليد للتمييز بين الشخص والآخر، بين هوية شخص وهوية الآخر.
نعم، يخبرنا الإنجيل مرات كثيرة عن “عزلة يسوع” بمعنى أنه يترك كل الجموع والأصدقاء والأسرة لكي ينفرد مع نفسه ومع الله، وماذا يفعل حينما يصبح وحيدًا مع نفسه. في هذا الوقت فقط يستطيع الشخص أن يُصغي للأصوات التي في عمق كيانه. ويستطيع أن يتأنى ويركز ويميز بين صوت الله وصوت الشيطان، صوت الحق وصوت الباطل، خبرة التميز هذه برع فيها القديس أغناطيوس دي ليولا، وسجل ذلك في ذكرياته الشخصية.
وتتلخص هذه الخبرة في اختلاف مشاعره الذاتية، من رضا وانبساط حينما كان يقرأ سير القديسيين، واستمرار هذا الانبساط لمدد طويلة، وخبرة الانقباض حينما كان يقرأ سير الفرسان وسيدات البلاط حيث لا يدوم الانبساط إلا مدة صغيرة ثم يحل محله خبرة الانقباض والحزن.
وقد ضمن إغناطيوس خبرة التميز هذه في كتابة “الرياضة الروحية”، لقد فعل إغناطيوس ما فعله يسوع نفسه حين كان يعتزل ليصلي إلى الآب وهكذا إهتدى إغناطيوس إلى مضمون صلاة يسوع من خلال خبرته الشخصية.
الاعتزال في حياتنا المصرية، خبرة روحية ظهرت بقوة مع ظهور الرهبنة في مصر على يد القديس انطونيوس الكبير في القرن الرابع الميلادي، لقد نشأت رهبنة العزلة عن العالم ورفض كل الخبرات الأرضية في سبيل الاتحاد الكلي مع الله، في عصر كثر فيه الأغنياء وطفت فيه الحياة المادية على الحياة الروحية فكان الناس الأسوياء يهربون من ضجيج وترف المدينة إلى غياهب الصحراء في وادي النطرون في مصر أو بالقرب من ينابيع المياه من شاطيء البحر الأحمر.
في ثقافتنا الحالية في مصر والعالم العربي، نرفض العزلة والصمت وهجر العالم، نحن لا نعرف أن نعيش بلا ضجيج داخلي وخارجي، تعودنا أن نسمع أصواتًا بائسة، يائسة، أو صريخًا يصم الآذان، وتعلو أصوات الميكروفونات العالية والزاعقة في كل وقت سواء بالصلاة أو بالغناء و الاحتفال، لا نستطيع أن نبقى في حالة صمت أو تامل أو عزلة لأننا نعتبر من يصمت هو الأصم، ومن يعتزل هو المريض، ومن يتأمل فهو قليل الحيلة وليس لديه كلام يقوله، وفي الحقيقة نكره الصمت لأنه إذا أصغينا لأنفسنا .. سنخاف، انه الهروب.
إن قداستنا ضجيج وعطائنا ضجيج وانفعالاتنا ضجيج صراخًا كان أم بكاء. إننا آلفنا هذا النوع من الحياة، ونسينا أن يسوع يأمرنا بأن ندخل بيتنا ونغلق بابنا وأن أباك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك.
نحن نأبى أن نأخذ تعزيتنا من الله، نريدها تعزية فورية من الناس مثل أن نسمع الناس يقولون عنا، رجل صلاة، صوته كروان في القداس، عظاته تشنف الآذان، آذانه يشفي العليل.
وعلى الرغم من مئات المرات التي يتحدث فيها الكتاب المقدس عن الصمت، فإن هذه الوصايا الإلهية لا تهمنا في شيء، وإننا لا نأخذ القدوة في الحياة اليومية، بل نكتفي بالظاهرة الصوتية.