stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابات القراء

في مديح الإلحاد

787views

atheisme1_-00

بقلم يوسف عبدالنور اليسوعيّ

بعض الأفكار المغلوطة عن الله

كثير من الذين يعلنون عن إيمانهم بإله خالق ومحرِّر، ينظرون إلى المُلحد في مجتمعاتنا نظرة دونيّة أو نظرة رافضة، بل إنّ بعضهم يراه أبرصًا ينبغي الابتعاد عنه كي لا ينقل إليهم العدوى. ولذلك ارتأينا أهميّة الإشارة إلى بعض الصور المغلوطة عن الله نردّدها في حياتنا سواء بالفكر أو القول أو الفعل، وتشكّل في نظرنا خطرًا قد يفوق الإلحاد في حدّ ذاته.

فهناك من يرى الله كطبيب لا يقدِّم علاجًا، بل يعطي المُسكّن، فتتحوّل الخبرة الإيمانيّة إلى علاقة عاطفيّة فيها الله يتفرّج، ويجيب عن الأسئلة بصورة مهدّئة، ولكن من دون أي مشاركة في الواقع. وهناك من المؤمنين من يرتبط بالله لعجزه عن دفع الظُلم، فهو الإله الذي يعاقب أعدائنا عاجلاً أم آجلاً، نصبر على الشرّ لأنّ الله يجازي الشرير. وفي كثير من الأحيان نشعر أنّ الله لا يفهمنا ولا يقدِّر أفعالنا بحسن نيّة ولذلك علينا أن نبرّر أنفسنا، فنقدِّم له الحسنات والهبات والقرابين. ومَن يعتقد من بيننا أنّ الله أعطي الإنسان حريته، ولكن إذا رفضه بهذه الحرّيّة يكون العقاب هو الابتلاء بالمرض والموت. ثمّ هناك مَن يتعاملون مع الله مثل ماكينة البيبسي، بمعنى أنّني أضع العمل النقديّة- التي هي صلاتي- منتظرًا خروج المكافأة وهي تَحقُّق رغباتي الخاصّة.

بماذا أؤمن؟

إنّه أحد التساؤلات المهمّة التي يطرحها عليّ الإلحاد. هذا السؤال لا أطرحه على أخي المُلحد، ولكن على نفسي. وإجابته لا تبتغي إفحام المُعارضين، بقدر ما تُعطي لحياتي فرصة للدخول إلى عُمق المعنى من خلال علاقة شخصيّة حيّة مع مصدر إيمانيّ. كوننا مسيحيّين يعني أنّ المسيح هو مركز الإيمان بالله. هناك مَن يرفض البحث عن الله باستخدام العقل، لأنّ الله من حيث كونه كامل فهو خارج الزمان والمكان، وخارج إطار العقل، وبالتالي لا يمكن التفكير فيه. أمّا المسيح كلمة الله المتجسِّدة، فهو دعوة لنا إلى الدخول في علاقة روحيّة مبنيّة على أساس عقليّ مع هذا الإله المتجسِّد. إنَّ التجسُّد وحده يفتح أمام الإنسان القدرة على اكتشاف إله يدخل تاريخه ويعطيه المعنى. من دون التجسُّد تبقى فكرة وجود الله من عدمه مسألة بعيدة تمامًا عن حياتي اليوميّة، مجرّد مسألة حسابيّة قائمة على الثواب والعقاب والخوف من إله أوجدني لينفّذ خطّة غامضة تتخطّى عقلي ولا أملك أمامها سوى الاستسلام. إنّ الفلسفات والتوجّهات الحديثة لم تقدِّم إجابة عن سؤال مهمّ: لماذا يفقد الإنسان حرّيته بيده ويصنع عكس خيره ويؤذي حاله والآخر؟ إنّ الإنسان المُلحد مثله مثل المؤمن، يبحث عن المخلِّص ويرى أنّه بذاته وعقله لا يستطيع ذلك. إنّ اكتفاء الإنسان بذاته لم يقدِّم المعنى له. وهنا يكشف لنا المسيح عن طبيعة الله، الله محبّة، ولأنّ إلهنا هو محبّة فهو الإله الوحيد الذي تستطيع أن تقول له لا. مع المسيح انتقلنا من الله القادر إلى الله المحبة؛ فلا حديث عن قدرة الله ولا حكمته، إلا انطلاقًا من كونه محبّة، وهذا هو الأساس. هذه المحبّة لا تستطيع إلا أن تُعطي ذاتها بالتمام، وكونها المحبّة القديرة، فهي تعجز عن الأذى. فالخلاص هنا هو أنّ الله صار إنسانًا لكي يصير الإنسان إلهًا. فمع المسيح صار كلّ إنسان مدعو للألوهة في الصميم، والمسيح كونه الإله الإنسان، فهو المرجع أمام كلّ أسئلة الإلحاد، إنّه “أنا الله”، فإذا أردنا أن نفهم الله ونقدِّمه للآخرين، فالمسيح وحده هو الله الذي نستطيع أن نخبر عنه، ومعه نختبر الله الآب وهو الابن الذي يهبنا الروح القدس. فليس بولس ولا الرسل ولا العهد القديم ولا بطرس، إنّه المسيح الذي تؤمن به الكنيسة.

موقف من الإلحاد

كيف نتعامَل مع الإلحاد بصورة ناضجة وإيمانيّة؟

قبل كلّ شيء، تمّ اتّهام المسيح بالإلحاد وبكونه حجر عثرة للمجتمع بمختلف أطيافه: فاليهود رفضوه، إذ قال إنّه الله. وعلماء الشريعة اتّهموه بحريّة التفكير واستقباله الخطأة والعشّارين. وأمام آلامه وموته، فَقَد الرسل رجاؤهم فيه وتخلّوا عنه واختفى معظمهم أمام الصليب. حتّى الشعب رفضه وطالبوا بصلبه للتجديف. إلى ماذا يقودنا ذلك؟ نحنُ لسنا أفضل من غيرنا أبدًا، لا ينبغي أبدًا أن ننظر إلى إيماننا نظرة راحة واطمئنان ونهاجم الآخر رافضين تساؤلاته لمجرّد أنّها تهزّ بعض الأركان المتحجّرة في إيماننا. نضيف إلى ذلك ضرورة النظر إلى الآخر كجزء منّي فهذا بداية الحوار العقلانيّ الروحيّ. الآخر ليس بعيدًا عنّي بالكامل، وها نحن قد رأينا أنّنا مدعوون للتحرّر من الأفكار المغلوطة عن الله، لذلك علينا أن نعود إلى إلحادنا الشخصيّ ونتساءل أين المُلحد داخلي؟ أو ما هي تلك الأفكار المغلوطة؟

بعد ذلك علينا أن نختبر أنّ إيماننا ليس بحاجة إلى تبرير، ليس الهدف من الحوار هزيمة الآخر، أو تقديم الدلائل والبراهين. فالتبرير طريق مسدود، فأنا مدعو للبحث عن تساؤل أهمّ: كيف يساعدني إيماني على أن أكون أكثر إنسانيّة؟ بهذا أستطيع أن أقدّم شهادة تفوق كلّ تبرير. ولمّا كان الآخر هو جزء منّي، فأنا مدعو أن أصغي إليه من أجل أن أفهم وليس من أجل اصطياد الأخطاء. وبهذا تصبح أسئلة الآخر هي أسئلتي، ومن منطلق إيماني الشخصيّ يصير بحثي هو: كيف يمكنني أن أجد الحقيقة من خلال تلك التساؤلات؟ بهذا تساعدني تساؤلات الآخر أن أفهم ذاتي وأفهم الآخر وأتعمَّق في علاقتي مع الحقيقة. هكذا تصير تلك الأسئلة مصدر تغذية وليست مكانًا للتحدّي وكسر إرادة الآخر، لأنّها تجد صداها في قلبي.

أخيرًا علينا أن نتعلّم جميعنا أنّ الإيمان بالله هو التزام من صميم الكيان، وليس مجرّد القناعة مثل القناعة بوجود الصحون الطائرة. ومن ثمّ فإنّ هذا الإيمان هو محاولة الدخول في علاقة روحيّة مبنيّة على المشاعر والعقل والضمير الشخصيّ. إنّه ليس مجرّد إرث تحمّلناه، ولكنّه ديناميكيّة مثل نبض القلب، ديناميكيّة تتخطّى التساؤلات، وتدخل في قلب واقعنا اليوميّ لنفهمه بكلّيتنا وبهذا نلتقي فيه بالخالق المحرّر الذي هو حبّ فوق كلّ شيء.

يسوعيون