فِكر البابا بندكتوس السادس عشر فيما يختص بتحليل ونقد تيّار النِّسبيّة
أولاً: مقدمة
إن كلَّ مَن تابع تصريحات وخُطب البابا الحالي بندكتوس 16 – حتى ولو من بعيد – سيكون قد لاحظ بالتأكيد كلمة: النسبية فقد استخدمها الحبر الأعظم مرات كثيرة في كثير من خُطَبِهِ وكتاباته، لِدرجة تجعلنا نستطيع القول إنَّ ذلك التعبير يمثل عنصرًا أساسيًّا لِفَهم فِكرِه. أيامًا قليلة قبل اختياره كبابا، وعندما كان عميدًا لِمجمع الكرادلة قال: إنَّ النسبية، والتي تعني أن يترك المرء نفسه «يُحمَل بِكلِّ ريح تعليم»، تبدو الآن وكأنَّها التصرُّف الوحيد المناسب لِلأزمنة الحالية. صارت النسبية نوعًا من الدكتاتورية التي لا تَعترف بِأيَّ شيء بصفة نهائية، وتترك المقياسَ الأخير لِلأمور لِلأنا الذاتيّ فقط و ِلأهْوائِهِ.
من حقنا أن نتساءَل وأن نستقصي المعنى الحقيقي والعميق لذلك التعبير. وعلينا خاصَّةً أن نلاحظ الدور الذي يلعبه ذلك التعبير في مُجمَل فكر الحبر الأعظم. من المؤكد أنه ليس مجرد شعار (cliché) أو مصطلح غريب يستخدمه لكي يُعطي تأثيرًا. إن معناه أعمق بكثير من لمحة أولئك الذين ينتقدونه، من داخل أو خارج الكنيسة، أو الذين يفسرونه بطريقة سطحية.
أول شيء يجب علينا أن نَذكره، هو أنه ليس تعبيرًا جديدًا في فكر الكاردينال چوزيف راتزنجر، ولا هو بِدعة أوجدها نظرًا لوضعه الحالي كرأس الكنيسة الكاثوليكية. عندما كان بعدُ كاردينالاً، أكَّد في عام 2003 قائلاً: صارت النسبية بالفعل المشكلة المركزية بالنسبة لِلإيمان في عصرنا . وكذلك، وبصورة أشمل، إذا طُبِّقَت ليس فقط على الإيمان: (…) إنَّها المشكلة الأعظم في عصرنا .
يُقَدِّم الكاردينال ذلك التعبير انطلاقًا من التحليل التاريخي ِلأَيديولوجيات وحركات الأزمنة الأخيرة، وخاصةً الماركسية. فقد جعلت هذه من نفسها بالفعل محاولةً أخيرة لتقديم شكلٍ مقبول عالميًّا لِتزويد العالم بطريقةٍ صائبة للتَّصرُّف التاريخي . مأخوذةً من وُجهة النظر الفلسفية، أي بالضبط كنظامٍ شامل، كان عليها أن تؤثّر كثيرًا لكي تتمكَّن أيضًا من غزو جميع مجالات المعرفة والمُعاملات خلال القرن الـ 20. وقبل الربع الأخير من القرن بقليل، أمسَى تأثيرها اللاهوتي أيضًا واضحًا. ومع ذلك، فإن الأحداث التي وقعت في العالم، بدءًا من عام 1989، خيَّبَت الآمال وشكَّكت في ذلك النظام. يقول الكاردينال كذلك: إنَّ فشل النظام الأوحد الذي كان يقدِّم حلاًّ مرتكزًا على العلم للمشاكل البشرية، كان لا بُدَّ له أن يعطي الحق لِلعَدَميّة وللنسبية التَّامة .
إن كان النظام الذي قدَّم نفسه بذلك الشكل المطلق – وأدَّى إلى ذلك التأثير العظيم على المستوى العالمي – قد آلَ إلى ذلك الفشل الذريع، إذًا أيُّ نظام أو أَيديولوچية أخرى كان يمكنها أن تعطي حلاًّ؟ هذا العامِل هو الذي أطلق الشرارة لجعل النسبية تبدأ في الرَّواج بدءًا من التسعينيات، على الرغم من تواجدها من قبل. ويطابقها الكاردينال بشعورٍ ويسميه «الشعور الأساسي للشخصية المستنيرة (أي التي يُفتَرض أنها تمتلك نورًا عقليًّا)».
إنَّ النسبية، والتي يمكننا تعريفُها – لكن بطريقة مُبهمة – بكونها النظرية التي تَعتبر «أنَّ كلَّ الأفكار حقيقية (وإن كانت متناقضة)»، تبدو في المقام الأول على مستوى الفكر والفلسفة إذْ تُولَد على أنَّها ارتيابيّة (escepticismo) فلسفية. الحقيقة النهائية، إن وُجدت، هي على الأقل غير قابلة للقياس لدرجة أنه لا يمكن تحديدُها. لا يمكن أن تُوجَد الحقيقة ككيانٍ يمكن التوصُّل إليه لكي يربط بين جميعِ البشر؛ بحيث يؤدّي ذلك إلى تأثير ثقافي قبل كلِّ شيء: «إنَّ تعدُّد الثقافات هو دليل على صِحّة كل واحدة منها»، وبهذه الطريقة توضع الثقافة في مواجهة الحقيقة . ولكن من هذا المفهوم السَّلبي نمرُّ سريعًا إلى مفهوم إيجابي، كنتيجة منطقية: إلى مفاهيم التسامُح، ومبدئيًّا بهدف الحوار والحرية. ويكون هذا هو أساس التعايش السِّياسي والاجتماعي، أو بكلمات أخرى ما نسميه اليوم بالديموقراطية، والتي تستند إلى أمرٍ واقع هو أنه لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه يعرف الطريق الصحيح (…)، [هكذا يُعطَى] نِظامُ حريةٍ مُكوَّنٌ من مواقف نسبية تتَّفِق وتتبع تحالفات تاريخية، وتبقى من جهة أخرى منفتحة على تطورات جديدة في المحيط الاجتماعي/السِّياسي، شيء من ذلك القبيل قد يكون حقيقيًّا؛ ولكن حتى في ذلك المجال لا يمكن فَهمه بطريقة غير محدودة، كما تفعل النسبية اليوم .
ثانيًا: النسبية في اللاهوت
بما أن النسبية صارت زَعمًا غيرَ محدود، حاول البعض تطبيقها أيضًا على اللاهوت. والنظرية المُسمَّاة بنظَرية تعدّد الديانات، وإن كانت قد وُلدت في الخمسينات، إلاَّ أنها اكتسبت انتشارًا عالميًّا في الأعوام الأخيرة، كعنصرٍ مُكوِّنٍ للنسبية من الناحية اللاهوتية، مُحتلَّةً بذلك المكان الذي كان يَشْغَله من قَبل ما يُسمَّى بلاهوت التحرُّر .
أحد المُرَوِّجين لذلك اللاهوت – هو الكاهن الأمريكي «هيك» – ويبين بوضوح وجود فَرْضيّة غُنُوسية (أي فَرْضيّة فلسفية تتعلَّق بالمعرفة) في أساس تلك النظرية، وذلك عند القَبول بنقطة الانطلاق المأخوذة من كانْت (Kant) والتي تقول بأنَّ ما ندركه ليس هو الواقع الحقيقي بالضبط، كما هو في حدِّ ذاته، بل هو فقط انعكاس لِطريقة قياسنا. حينئذ يُجعَل يسوع نسبيًّا، ومساويًّا لواحد بين العديدين من «العباقرة الدينيين». والتفكير بِأنه من الممكن أن توجد حقيقة، سواء في شخص المسيح أو في عقيدة الكنيسة، سوف يوصَف بِالأُصولية (fundamentalismo)، وهو ما يمثِّل تعدٍّ على الروح الحديثة بما تحمل من تسامح وحرية . مفهوم «الحوار» نفسُهُ، الذي كان مِحوريًّا بالنسبة للتقليد المسيحي، تعرَّض هو نفسه لِتعديلٍ كبيرٍ؛ صار تلخيصًا لِفكر الأكليروس المؤمنين بالنسبية ويمثِّل النقيض التَّام لِمفاهيم ‹التَّوبة› و ‹الرِّسالة›. «الحوار» سيعني حينئذ وضع موقف الشخص نفسه في نفس المستوى مع الآخرين، يليه بعد ذلك وضع إيمانه الذاتي ومعتقداته على نفس مستوى إيمانهم ومعتقداتهم؛ وكمبدإٍ أساسيّ يجب عدم اعتبار إيمانِنا أو معتقداتِنا أكثر حقيقةً ومُتفوِّقةً على الآخرين. هكذا يصير الحوار تبادلاً بين المواقف النسبية، بهدف مواجهتها فيما بينها واستيعابها في الكلِّ المتعدّد.
بِطريقة خاصة بالنسبة للعلاقة مع الديانات الآسيوية، وخاصةً الهند، تُعتبر صورة المسيح كأُسطورة إضافيةٍ من أساطير الخلاص الهندية، فلا يكون من بَعدُ هو الكلمة (اللوجوس) المطلَق («اللوجوس» سيتحقَّق في مختلف الثقافات). وكون النسبية – بخاصةٍ عند التقائها بمختلف الثقافات – تبدو كأنها الفلسفة الحقيقية للبشرية، فذلك يعطيها مقدرة كبيرة على التَّغَلغُل سواء في الشرق أو الغرب. ومَن يناهضها يبدو كخَصْمٍ للديموقراطية والتسامح – وهما مبدآن أساسيان للتعايش البَشري – ويكون أيضًا غير قادر على الاشتراك في لقاء الثقافات.
كانت هناك محاولات أخرى – مثل ب. نِتَّر (P.Knitter)، وهو كاهن كاثوليكي سابق – للتقريب بين النظرية التَّعدُّديَّة للديانات و لاهوت التحرُّر، بِواسطة مبدإٍ واحد هو «أوَّلِيَّة استقامة الممارَسة (ortopaxis) على استقامة التعليم (ortodoxia)» «استقامة الممارسة» هذه تتمثَّل في مجموعة قواعد طقسية (codigo de ritos) هي مرادفة لـ ‹التصرُّف السَّليم›، وتقف في مواجهةٍ وعلى النقيض من الالتصاق بعقيدة إيمانٍ تربط بين الكلِّ. بحسب رأى هؤلاء الكُتّاب، فإنَّ ذلك النظام هو الخاص بديانات الهند، حيث من الممكن ممارسة تلك المجموعة من القواعد الطقسية بدون الالتزام بقبول قانون عقيدةٍ إيمانيةٍ محدَّدةٍ. الجدير بالذّكر أن ذلك التّناقض اللُّغوي بين استقامة الممارسة (ortopraxis) واستقامة التعليم (ortodoxia) ليس دقيقًا. في الأصل، كان التعبير (ortodoxia) يشير إلى المجد المستقيم (recta gloria)، وكان يتمثَّل في معرفة وممارسة الطريقة المحدَّدة التي بها يجب أن يُمَجَّد الله. في نظام نيتَّر (وغيره)، الجزء الخاص بالقواعد الطقسية في الـ (ortopraxis) يتمُّ استبداله بالعمل الأخلاقي والسياسي، ومن هنا تأتي قرابته مع لاهوت التحرُّر. ولا بدّ أيضًا من القول بأنَّ ذلك التفضيل المُعطَى للممارسة الأخلاقية أو السِّياسية هو على النقيض تمامًا من الميل العام للديانات الآسيوية الكبيرة.
نسبيَّة هيكْ وكذلك نسبية نِتَّر وعلوم اللاهوت المماثلة هي في نهاية الأمر مؤسَّسَة على عقلانية غُنوصيَّة بحسب مثال كانْتْ؛ بمعنى أن العقل لا يمكنه معرفة ما هو ميتافيزيقيّ (ماوَرائيّ) في حدِّ ذاته، وبالتالي فإنَّ الديانة الجديدة يجب أن تتَّخذ نظرة بْراجماتِيَّة (تشكيكية) من النوع الأخلاقي أو السياسي على حَدّ سواء. ولكن يُوجد رَغم ذلك ردُّ فعلٍ مُضادٍّ للعقلانية – وهو عاطفيٌّ أكثر من كَونه عقلانيًّا – مبنيًّا على حُكمٍ مُسبَق هو «كلُّ شيءٍ نِسبيُّ»، ويتلخَّص في شعارٍ قابلٍ لتفسيرات متعدّدة هو «العصر الجديد» (New Age). ذلك الفِكر يُرَكّز على تَخَطّي «الفرد» وحدودَه بدَمْجِهِ في كلٍّ كَونيٍّ جامع. إنَّ المطلَق لا يمكن خلقُه لكنّه يُختبَر، ولذلك يَظهر من خلال صَبغةٍ عمليّة. الله ليس إلهًا شخصيًّا، بل هو الطاقة المطلقة التي تَملأ العالم. موضوع الدين هو تخطّي كلَّ الانقسامات، بحيث يَندمج الفرد في ذلك الواقع الكونيّ. على العقل أنْ يرافقه في هذه المسيرة، ليفتح المجال لطريق الواقع. إنَّ هذا يمثّل غُنوصيّة جديدة كما يتّضح لنا (الغُنوصيّة: هي السَّعي الفلسفي إلى التوفيق بين الأديان بالمعرفة).
في النهاية، أمام كلّ تلك النظريات نَجد البْراجماتيّة في الحياة اليومية للكنيسة، حيث يبدو أن كلّ شيءٍ على ما يُرام، بينما الإيمان آخذٌ في التَّدَنِّي يومًا بعدَ يومٍ. هنا تتَّضح ظاهرتان، بحسب تنبيه الكاردينال : الأولى في توسيع تطبيق «مبدإ الأغلبية» على الإيمان وعلى العادات، وبالتالي تطبيق «الديمقراطية» على حياة الكنيسة بمُجْمَلِها. إنَّ ما لا يبدو واضحًا للأغلبية يكون غيرَ مُلْزِمٍ. ولكنْ، حين نقول «أغلبية»، أيَّ أغلبيّةٍ نَقصُد؟ ولماذا لا تكون هذه قابلة للتَّغيُّر؟ والظاهرة الثانية تخُصُّ الليتورجيّا حيث يبدو وكأنَّ كلَّ شيءٍ يُمكن تبديله بحسب ذَوق كلِّ واحدٍ وما يَحلو له، والشرط الوحيد يكون الحِفاظ مثلاً على كلمات التّقديس .
يَختِم الكاردينال هكذا: إن لاهوت التحرير كان عليه أن يقدّم للمسيحية – التي تعِبت من كَثرة العقائد – دَفعةً جديدةً تجعل الفداءَ يصير بواسطتِهِ «حَدَثًا» من جديد. لكنّه، بدلاً من إِرساءِ الحرّيّة، فإن ممارستَه خَلَّفَتْ دمارًا على كل جانبٍ . إنَّ النّسبية في اللاهوت سوف تُولَد بالتالي كمحاولة للتَّكَيُّف مع هذه الظاهرة. يَلفِتُ الانتباه كيف يَختم بسؤالٍ يذكرّنا بِأفكارٍ من الأب خوليو مِينْفيِيِّي (Meinvielle): «لماذا، تُرى، ظهر اللاهوتُ الكلاسيكي (التقليدي) قليلَ الاستعداد لمواجهة فرضيّات مثل هذه؟ أين كانت توجد نقاط الضّعف فيه بحيث جعلت منه غيرَ مُتَنَبِّهٍ وضعيفَ المِصداقية؟».
ثالثًا: النسبية الأخلاقية والسياسية وغيرُها
شكلٌ آخَر من النّسبية يَظهر في أخلاقياتها المُتَدَنّية وأيضًا في أخلاقها السياسيّة. نَذْكُر هنا بعض المقاطع من المحاضرة البَرّاقة التي ألقاها قداسة البابا بِنِدِكتُسْ السادس عشر لأعضاء اللجنة اللاهوتية الدّولية :
«تَواجه الشريعة الطبيعية مفاهيمَ أُخرى تَشكّل نُكرانًا مباشرًا لها.
ولِكلُّ ذلك نتائج هائلة وخطيرة في المحال المدني والاجتماعي. يُسَيْطر لدى الكثير من المفكرّين اليومَ مفهومٌ وضعيٌّ إيجابيٌّ (positivista) للقانون. فبحسب نظرهم، إن البشرية، أو المجتمع، أو الأغلبية بين السّكّان، تصير هي المنبع الرئيسي للشريعة المَدنية. والمشكلة المطروحة ليست البحث عن الخير بل مشكلة السلطة، أو بالحَرِيّ توازن القوَى.
في أساس هذه النَّزعة هنالك النسبية الأَخلاقية، التي يتوصّل البعض إلى حَدِّ أن يَروا فيها أحد الشروط الرئيسية للديمقراطية، لأن النسبية في نظرهم تَضمن التسامح والاحترام المتبادَل بين الأشخاص. ولكن لو كان الأمر حقًّا كذلك، لَصارت الأغلبية الحالية في زمنٍ مُعَيَّن هي المصدرَ الأساسي للقانون. والتاريخ يُبيّن بوضوح كبير أن الأغلبيّات يُمكن أن تُخطِئ. إن العقلانية الحقّة لا يَضمنها الاتفاق بين عددٍ كبيرٍ غالبٍ من الأشخاص، بل فقط شفافيّة العقل البَشريّ أمام «العقلِ» الخالق مع الإصغاء لمَصدر عقلانيّتنا هذا.
عندما يتعلّق الأمر بالمتطلّبات الأساسية لكرامة الشخص البَشري ولحياته، وللمؤسسة العائلية وللعدالة في التنظيم الاجتماعي – أي الحُقوق الأساسية للإنسان – فما مِن شريعة يضعها البَشر تستطيع أن تتلاعب بالقاعدة السلوكية التي طبعها الخالق في صميم قلب الإنسان، دون أن يؤدّي ذلك إلى إصابة المجتمع نفسه بشكلٍ مأسَويّ في ما يمثّل ركيزته التي لا غِنَى لها. يَصبح القانون الطبيعي هكذا الضَّمانة الحقيقية لكل شخص حتى يعيش حرًّا ولكي يحتَرم في كرامته، مَحميًّا من أيِّ نوعٍ من التلاعب الأيْدِيولوجي ومن كلِّ غوغائية أو استغلال من قِبَلِ من هو الأقوى.
ما من أحدٍ يستطيع أن يَتَمَلَّص من هذا المُقتضَى الضَّروري. إذا افترضنا أنَّ عمًى مُفْجِعًا للضمير الجماعي قد يجعل التّشكيكية (escepticismo) والنّسبية الأخلاقية تتوصَّلان إلى محو المبادئ الأساسية للشريعة الطبيعية، فإنَّ التنظيم الديمقراطيّ نفسَه سيُصاب بشكلٍ مميتٍ وجذريّ في أُسُسِهِ. لمواجهة ذلك العمَى، الذي هو أزمة في الحضارة البشريّة قبل أن يكونَ أزمة مسيحية، لا بدّ من أن نحرّك كلّ ضمائر البشر ذوي الإرادة الصالحة، علمانيين كانوا أم منتَمين إلى ديانات غير مسيحية، لكي يلتزموا معًا وبشكلٍ عمليّ لخلق الشُّروط الضرورية في الثقافة وفي المجتمع المدني والسياسي، لكي يتمّ التوصّل إلى وَعْيٍ كاملٍ لقيمة الشريعة الطبيعية التي لا يمكن نكرانها. إذْ إنَّ تقدّم الأفراد والمجتمعات في مسيرة التطوّر الحقيقي يرتكز على احترام هذه الشريعة، بشكلٍ يُطابق العقل المستقيم الذي هو اشتراكٌ في عقل الله الأزليّ».
من الواضح أنه قد كرّر أكثر من مرَّة ما كان قد أكّده من قبلُ البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة «السنوات المئة» (Centesimus Annus)، متحدّثًا عن المظهر السياسي للديمقراطية: «إنَّ ديمقراطيةً بدون قِيَمٍ تتحوّل بُسهولة إلى نظامٍ قَهْرِيٍّ شاملٍ (totalitarismo) ظاهرًا كان أم مُسْتَتِرًا، كما يُثبتُهُ التاريخ» .
بالطبع، إن النِّسبية لها تأثير في مجالات أُخرى أيضًا، بالذات اليوم في مجال العائلة والزواج: إنَّ «حقيقة الزَّواج» – كما يقول البابا – تفقد حاليًّا «وَقْعَها الوُجودي في إطارٍ ثقافيّ سِمَتُهُ هي النسبيّة، والوضعيّة الإيجابية (positivismo) في التَّشريع، حيث يُعتبرَ الزواج مجرَّد شكليّةٍ اجتماعية للرَّوابط العاطفية». «بالتالي – كما ينبِّه البابا أيضًا – ليس أنه يتحوّل فقط إلى شيءٍ عارضٍ، مثلما قد تكون العواطف البشرية، بل إنه فوق ذلك يقدّم نفسه كنِظامٍ قانوني فائق يَجوز للإرادة البشرية أن تشكّله حَسَبَ هواها، حتَّى إنْ جرَّدوا الزواج من طابعه الجنسي المختلَط». «أزمة معنى الزواج هذه (…) تؤثّر في طريقة تفكير مؤمنين كثيرين ». بالنسبة للإفخارستيا نفسِها أيضًا: «إن الخَطَرين الكبيرين اللذين يتربَّصان اليوم بالإفخارستية بين الجماعات المسيحية هما «عَلمنة الخلاص» والنسبية الدينية» . من المفهوم بالتالي أنها تؤثّر أيضًا في الحوار المسكوني، خاصّةً بسبب المفاهيم المختلفة التي لَدَى المذاهب المسيحية المتنوّعة حول الحياة والحَمْلِ بالإنسان، وحول كرامة مصيرِهِ .