كتاب تاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية – القسم الاول ( نشأة كنيسة الاسكندرية ودورها وإزدهارها )
( 48 م – 451 م )
بقلم : القمص اسكندر وديع
ينقسم هذا القسم الى خمسة فصول :
1. نشأة الكنيسة ونموها فى الأجيال الثلاثة الأولى .
2. مدرسة الاسكندرية .
3. ملحمة الشهداء .
4. نشأة الرهبنة .
5. دور أساقفة كنيسة الاسكندرية فى المجامع المسكونية الأولى .
الفصل الاول
نشأة الكنيسة فى مصر
ونموها فى الأجيال الثلاثة الأولى
اولاً : مقدمة
نظرة عامة الى وضع مدينة الاسكندرية
أسس الإسكندر الكبير مدينة الإسكندرية سنة 332 ق . م . كمرفأ تجارى ، وزينها بالمبانى والقصور الفخمة والشوارع المتسعة والبساتين الجميلة . وكانت الإسكندرية درة البحر الأبيض المتوسط ، فجذبت أنظار العالم ، وإستوطنها عدد كبير من اليونانيين واليهود ، فصارت الإسكندرية ملتقى العروق والثقافات والأديان فى حضارة ” هلينية قائمة على اللغة اليونانية .
وسرعان ما إنتشرت فيها المتاحف والمدارس الفلسفية – الميوزيوم والسرابيون – والمكتبات الشهيرة والمدرسة اليهودية بفضل ” فيلون ” الشهير – الذى حاول التوفيق بين الفلسفة والتوراة– وهنا تأسست المدرسة المسيحية الشهيرة التى سميت “الديدسكاليون ” والتى ضارعت المدارس الأخرى وأتى إليها الفلاسفة من كل حدب وصوب .
فى هذه المدينة العريقة تُرجمت أسفار العهد القديم إلى اللغة اليونانية لتكون فى متناول الجميع. وهى الترجمة التى تسمى ” الترجمة السبعينية ” .
وفى هذه المدينة العريقة ، إشتهر الكثيرون من العلماء ، أمثال ” إقليمس ” عالم الرياضيات العظيم ، و”أرخميدس” صاحب قانون الطفو ، وغيرهم . فكانت الإسكندرية حقاً عاصمة العلم والفلسفة لكل الإمبراطورية الرومانية.
وفى هذا الجو بالعلم والفلسفة ظهرت المسيحية التى وجدت أرضاً خصبة ، وسرعان ما جذبت إليها كل هذه العقول المتعطشة إلى العلم والإيمان .
ثانياً : نشأة الكنيسة ونموها
دخل القديس مرقس هذه المدينة بإلهام إلهى حوالى سنة 48 م . بحسب تقليد كنسى قديم يخبرنا عنه المؤرخ المسيحى الشهير “أوسابيوس القيصرى” فى القرن الرابع، وهو يستند إلى أقوال ”يوليوس الأفريقى” فى أوائل القرن الثالث . كما أن لدينا شهادات “أبيفانيوس” ( الرد على الهرطقات 2 -5 ) وهيرونيمس ( الرجال العظام ) .
وجد مرقس فى الإسكندرية، وسط الجالية اليهودية، بعض الأشخاص الذين وصلتهم الرسالة المسيحية مُنذ يوم العنصرة (أعمال الرسل 2 : 10 )، وقد تمكن بعضهم من معرفة السيد المسيح وأخذوا يبشرون به. ويذكر سفر أعمال الرسل أحدم وهو “أبلوس” إسكندر الأصل، رجل فصيح اللسان (أعمال الرسل 18 : 24 -26 ). فنظم القديس مرقس هذه الجماعة الناشئة ورسم لها شمامسة وكهنة، وواصل التبشير فى كل القطر المصرى، ثم دعته غيرته الرسولية إلى التبشير فى ليبيا التى كانت – بحسب بعضهم -موطنه الأصلى .
وغزدهرت فى تلك الديار الغربية جماعات مسيحية ضخمة، حتى أصبح للمدن الخمس – وهى قيرنيه وبطلمايس وأرسينوية وسوزوزا وبردينة – مُنذ القرن الثانى، خمسة أساقفة تابعون لأسقف الإسكندرية . وعند رجوع مرقس البشير إلى الإسكندرية ، هاج عليه الوثنيون . وفى أثناء الإحتفال بعيد القيامة سنة 68 م . هجم عليه الأعداء، وجرجروه فى الشوارع حتى نفسه الطاهرة إلى باريها، فنال إكليل الرسولية وإكليل الشهادة، بعدما أضاء القطر المصرى بنور الإنجيل وغرس فيه بذرة كنيسة مجيدة .
ثانياً : نشأة الديدسكاليون
وبعد القديس مرقس يذكر “أوسابيوس” المؤرخ قائمة تضم عشرة أساقفة ترأس كل منهم الكنيسة لمدة إثنى عشر عاماً دون أن يذكر شيئاً عنهم بالتفصيل . إلا انه يمكننا ان نستنتج أنهم قاموا بنشاط كبير على مستوى القطر كله . وقد أسسوا مدرسة تعليمية لإعداد الموعوظين للعماد، كان لها شأن كبير فيما بعد بإسم “الديدسكاليون” .وإزداد عدد المسيحيين ولا سيما فى صعيد مصر حيث ترجمت الكتب المقدسة من اللغة اليونانية، التى لم يعد يفهمها الشعب، إلى اللغة القبطية، ولدينا بعض المخطوطات للإنجيل ترجع إلى ذلك العهد .
وبإنتشار المسيحيين، إزداد عدد الأساقفة اللازمين لرعايتهم، ووصل عدد الأساقفة إلى خمسين فى سنة 250 م . وغلى مائة فى سنة 320 م . وأخيراً ظهر إزدياد المسيحيين بعدد الشهداء الذين رووا أرض مصر بدمائهم الزكية فى ملحمة الشهداء . وأول أسقف يكلمنا عنه التاريخ بشئ من التفصيل هو “ديمتريوس الكرام” ( 180 – 230 ) .
وقد عنى عناية خاصة بمدرسة الأسكندرية، وعين لها مديراً شهيراً فى شخص “أوريجانوس” بعد هروب “أكليمنضوس” أثناء الإضطهادات . ودخل “ديمتريوس” فى موضع المشكلة الفصحية – مسانداً “فكتور” اسقف روما – فى تحديد يوم القيامة ( يوم الأحد التالى الرابع عشر من شهر نيسان )، ورداً على كنائس أسيا التى كانت تعيد فى يوم الرابع عشر من شهر نيسان .
وبتلك المناسبة نظم الحساب القبطى الذى حدد عيد الفصح لكل سنة، وهو الأحد الواقع بعد إكتمال القمر من الإعتدال الربيعى، كما أنه اول من رسم فى مصر أساقفة للمدن الأخرى التابعة له، وأول من إتخذ فى الكنيسة لقب “بابا الإسكندرية” .
وخلفَه “ياروكلاس” أحد تلامذة ” أوريجانوس” فى مدرسة الإسكندرية . وكان فليسوفاً متضلعاً فى شتى العلوم الفلسفية، كما كان خطيباً مفوهاً . وكان له تأثير كبير فى النفوس حتى إنه إكتسب عدداً كبيراً من الوثنيين إلى المسيحية . وقام برحلة رعوية طاف خلالها فى مدن القطر المصرى، وبسبب إزدياد عدد المسيحيين، رسم لهم عشرين اسقفاً .
وهناك وجه مشرف للكنيسة فى ذلك الزمان، وهو “القديس ديونيسيوس الكبير”
(248 – 262) . كان أسقفاً عظيماً وكاتباً قديراً، ترك لنا مجموعة رسائل تدل على إهتمامه بمختلف شئون الكنيسة فى زمانه، وعلى سمو أمانته اللاهويتة فى دحض الهرطقات التى ظهرت فى وقته . وحارب القائلين بالنظرية الألفية، ولا سيما الهرطقة الصبيلية التى تنكر الثالوث وتتكلم عن إقنوم واحد إتخذ ثلاثة أشكال مختلفة .
وكان معتدلاً وصانع سلام بين الأطراف المختلفة . يحارب التشدد فى النسك وفى معاملة المرتدين. وأبرز قيمة الزواج المسيحى ، رداً على الذين يرون فيه دنساً وشراً . كما انه حثّ على قبول الخطأة الراجعين إلى اللّه بتوبة صادقة بعد أن إرتدوا عن المسيحية بسبب ضعفهم أثناء الإضطهادات، متخذاص موقف أسقف روما ضد “نوفاسيوس” المتشدد .
لذلك وقف مسألة تعميد الهراطقة فى صف “إسطفانوس” اسقف روما ضد “قبريانوس” اسقف قرطاجة. وقد شكاه اخصامه إلى البابا “ديونيسيوس”بأنه يقلل من قيمة الإبن بالنسبة للآب. فطلب إليه البابا إيضاحاً عن موقفه، ورد عليه بطريرك الإسكندرية، وتم التفاهم بينهما.
وتعرض فى أيامه لإضطهاد “داقيوس”، فهرب مرة، ثم نفى مرة ثانية إلى الصحراء الليبية، حيث بشر وجذب الكثيرين إلى المسيحية. ثم أفرج عنه فى عهد “إليانوس”، فرجع إلى الإسكندرية مكرماً. وإستمر فى خدمة كنيسته بكل أمانة حتى لقى ربّه سنة 262.
ومن بعده إنتشرت المسيحية فى مصر إنتشاراً واسعاً حتى صار عدد المسيحيين ثلث عدد السكان فى أواخر القرن الثالث. وزاد عدد الأساقفة على المائه فى السينودس الذى عقده البطريرك ”الكسندروس” ضد “أريوس” سنة 320 .