كتاب تاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية -القسم الاول - الفصل الثالث
نشأة كنيسة الاسكندرية ودورها وإزدهارها
الفصل الثالث
ملحمة الشهداء
( 48 م – 451 م )
بقلم : القمص اسكندر وديع
قاست الكنيسة منذ نشأتها عذاب الإضطهاد، وذلك فى العالم كله ولا سيما فى مصر. وكان طبيعياً أن تصطدم الكنيسة بالنظام الوثنى المتفشى فى الإمبراطورية الرومانية.
وردت بعض الأسباب مذكورة فى سفر أعمال الرسل، وبعضها الآخر يذكرها لنا التاريخ : نرى أولاً أن تمسكهم بالاله الواحد ورفضهم للأصنام أثار عليهم تجار المنحوتات والمصنوعات الوثنية ( أعمال الرسل 19 : 23 -24 ).
ثم كانت المسيحية تفُرض على أتباعها سلوكاً يختلف عن سلوك الوثنيين. فكان لابد من إعلان الإختلاف القائم بين المسيحية والمجتمع الذى أخذت تنتشر فيه. وكان هذا الإختلاف بالفعل يتغلغل فى داخل الأسرة، فمن كان يهتدى إلى المسيحية فيها، كان يتعرض لمقاطعة أهله جميعاً، لأنه لا يشاركهم فى عبادتهم الوثنية. فلا تلبث الأسرة أن تتهمه بالكفر، فترفع الشكوى على المسيحيين وتشيع فيهم القصص الكاذبة عن إجتماعاتهم وعن آدابهم.
أولاً : بدء الإضطهادات
بدأ إضطهاد الكنيسة منذ القرن الأول. وإشتد على عهد نيرون سنة 64 م، ودزميتيانوس سنة 92 إلى 96، ومرقس أوربليوس سنة 163.
إلا أن مصر سلّمت إلى حد ما فى هذه الفترة من الإضطهاد، مما جعل الكنيسة المصرية تمتد إلى الأقاليم جنوباً وغرباً، ولكن تغيرت الأحوال فى القرن الثالث.
ففى سنة 202، جلس على عرش روما الإمبراطور “سبتيموس ساويروس”. تخوف من إنتشار المسيحية فى إمبراطوريته. فأراد إيقاف إنتشارها، فحرم التنصر، وأمر بالقبض على المهتدين إلى المسيحية والهادين إليها. وكان لهذا الإضطهاد وقع خاص فى كنيسة مصر، ولا سيما فى المدرسة الإسكندرية التى كانت تقوم بتعليم الموعظين وتجذب الكثيرين إلى المسيحية، فأغلقت أبوابها بعض الوقت، وهرب مديرها “اكلمنضوس”، واستشهد الكثيرون من الموعظين. زمن أهم ضحايا هذا الإضطهاد “ليونيداس” والد أوريجانوس، والعذراء “بوتاميانا” التى ألقوها هى وأمها فى الزيت المشتعل.
وسكنت العاصفة بموت “سبتيموس ساويرس” سنة 212، وعاشت الكنيسة نحو أربعين سنة فى سلام. فقد بدأت الإمبراطورية الرومانية تتبع المصالحة مع المسيحية فى عهد “فيلبس العربى” سنة 244. كان الإمبراطور الجديد فلسطينى الأصل، وكانت بينه وبين أوريجانوس معلم الإسكندرية الشهير، مراسلات متواصلة.
وزعم القديس هيرونيموس أن فيلبس العربى كان اول إمبراطور مسيحى، ولو إنه لم يعلن ذلك جهراً.
ثانياً : الإضطهادات الكبرى
بعد فترة من السلام دامت أربعين سنة تقريباً سنة تقريباً، توّلى العرش الإمبراطور “داقيوس” سنة 250. كان داقيوس سليل أسرة عريقة تقوم على نهر الدانوب، فراعه ما رآه من إنحلال الإمبراطور، وعزم على أن يجدد نظمها الوثنية ويوحدّ سكان إمبراطوريته الشاسعة الأطراف حول العبادة الإلهية لروما وللإمبراطور، وذلك بقرار إمبراطورى ينطبق على جميع تحت طائلة أقسى العذابات والنفى أو الإعدام للمتمردين.
فننزل بالمسيحية كلها ولا سيما بمصر ضروب من الإرهاب والإكراه لم يسبق لها مثيل. فكان الجنود فى الإسكندرية يقطعون رؤوس النساء على مشهد من الجموع إشباعاً للغرائز، ويدفعون البنات المسيحيات إلى أقبح صنوف الهوان والعار. ومن لا يُلقى من المسيحيين إلى الوحوش كان يُحرق حياً فى مواقد مستعرة. ومن لم يُحكم عليهم بالموت، كانوا يوثقون بالقيود، إثنين إثنين، جموعاً كبيرة كالمواشى إلى المناجم والمحاجر، مع اللصوص والمجرمين، ويعيشون تحت الأرض حتى الموت عيشة إحتضار مستمر.
وقد إستُشهد الآلوف من المسيحيين بكل بسالة. ولكن أمام هذه العذابات المريعة ضعُف بعضهم، ولا سيما ذوو المراكز العالية، حتى من بين الإكليروس.
ثالثاً : الصراع الأخير
إضطهاد ديقليديانوس وغلاريوس (303 – 313 )
لم يبدُ “ديقليديانوس” فى العشرين سنة الأولى من ملكه ذا نزعة دموية. فكان عدد المسيحيين يتزايد بين جميع الطبقات حتى فى القصر الإمبراطورى نفسه، إذ كانت زوجته برسكا،وإبنته فاليريا فى عدد الموعوظين.
ولكنه إنقلب فجأة على المسيحين لأسباب غير واضحة تاريخياً. ويُرجع تأثير معوانه ”غلاريوس” الذى كان وثنياً متعصباً وحانقاً على الجنود المسيحيين لرفضهم تقديم الذبائح للآلهة. وسعى عند مولاه بدهائه للحصول على أمر يقضى :
1. بمنع الإجتماعات المسيحية.
2. بهدم الكنائس.
3. بحرق الكتب المقدسة.
4. بإرغام جميع المسيحيين الموظفين فى المصالح العمومية ان يجحدوا.
ثم ألحق بالمسيحيين تهمة حرق الإمبراطور. فجّن جنود ديقلديانوس وأصدر ثلاثة أوامر أخرى تُجبر جميع المسيحيين فى الإمبراطورية كلها على أن يقدموا الذبائح للآلهة،وتُنفى أو تُعدم المتمردين على هذه القوانين.
وبدأ إضطهاد لم يكن له مثيل، وإستُشهد فيه ألوف وألوف من المسيحيين فى أهوال فظيعة يرويها “أوسابيوس القيصرى” فى كتابه « التاريخ الكنسى – الكتاب الثامن – الفصل التاسع ».
وإستمر هذا الإضطهاد عشر سنين فى حكم ديوقلديانوس ومعاونه. ثم خلفه غلاريوس، إلى أن صدر قرار قسطنطين سنة 313 الذى يمنح الحرية لجميع الأديان.
إن هذا الإضطهاد قد شمل كل الإمبراطورية الرومانية. إلا انه ظهر بطشه بوجه خاص فى الشرق، ولا سيما فى مصر، حيث كانت أشهر ضحية القديس بطرس بابا الإسكندرية، الذى لُقب بلقب ( خاتم الشهداء).
ولا نستطيع ان نحدد عدد الشهداء الذين سفكوا دماءهم من أجل المسيح. إلا أنهم يُعدون بالآلوف، وكانت دماؤهم، كما يقول “طرطليانس” : « بذاراً للمسيحيين ».
ولم ينس أقباط مصر هذا الإضطهاد الشنيع. ولكى يظل دائماً فى الذاكرة، ويذاكرهم ببسالة أجدادهم الشهداء، صنعوا لهم تقويماً خاصاً يبدأ فى سنة 284، وهى سنة إعتلاء ديقليديانوس العرش الرومانى، ويسمونه ( تقويم الشهداء). ومن تلك الايام بدأ تكريم الشهداء وجمع رفاتهم ووضعها فى الأماكن المقدسة، والإستشفاع بهم.