لا تَخَف، آمِن فحسب – بقلم الأب نادر ميشيل اليسوعيّ
القراءات الكتابيّة
* حكمة 1: 13-15. 2: 23-24
ليس الموت من صنع الله، ولا هلاك الأحياء يسره، لأنّه إنّما خلق الجميع للبقاء؛ فمواليد العالم انّما كوّنت معافاة، وليس فيها سم مهلك، ولا ولاية للجحيم على الأرض، لأَنَّ البِرَّ خالِد. فإن الله خلق الإنسان خالدا، وصنعه على صورة ذاته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم.
* 2 قورنتس 8: 9.7. 13 – 15
أيّها الأخوة: كَما يَتَوافَرُ عِندَكم كُلُّ شَيء: الإِيمانُ والبَلاغَة والمَعرِفَةُ والإقْدامُ على كُلِّ شَيء وما أَفَدْناكُم بِه مِنَ المَحبَّة، فلْيَتَوافَرُ كذلِك سخاؤكم في عَمَلِ البرِّ هذا. فأَنتُم تَعلَمونَ جُودَ رَبِّنا يسوعَ المسيح: كيفَ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه. فلَيسَ المُرادُ أَن يَكونَ الآخَرونَ في يُسْرٍ وتَكونوا أَنتُم في عُسْر، بَلِ المُرادُ هو المُساواة. فإِذا سَدَّتِ في الوَقتِ الحاضِرِ سَعَتُكُم ما بِهِم مِن عَوَز، سَدَّت سَعَتُهُم عَوَزَكُم في المُستَقبَل، فحَصَلَتِ المُساواةُ، كَما وَرَدَ في الكِتاب: «المُكْثِرُ لم يَفْضُلْ عَنه والمُقِلُّ لم يَنْقُصْه شيء».
* مرقس 5: 21 – 43
في ذلك الزَّمان: رجَعَ يسوعُ في السَّفينَةِ إِلى الشَّاطِئِ المُقابِل، فازدَحَمَ علَيه جَمعٌ كثير، وهو على شاطِئِ البَحْر. فجاءَ أَحَدُ رُؤَساءِ المَجْمَعِ اسمُه يائِيرس. فلَمَّا رآهُ ارتَمى على قَدَمَيْه، وسأَلَه مُلِحًّا قال: «اِبنَتي الصَّغيرةُ مُشرِفَةٌ على المَوت. فتَعالَ وضَعْ يَدَيكَ علَيها لِتَبرَأَ وتَحيا». فذَهبَ معَه وتَبِعَهُ جَمْعٌ كثيرٌ يَزحَمُه. وكانت هُناكَ امرأَةٌ مَنزوفَةٌ مُنذُ اثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة، قد عانَت كثيرًا مِن أَطِبَّاءَ كَثيرين، وأَنفَقَت كُلَّ ما عِندَها فلَم تَستَفِدْ شَيئًا، بل صارت مِن سَيِّئٍ إِلى أَسوَأ. فلمَّا سَمِعَت بِأَخبارِ يسوع، جاءَت بَينَ الجَمعِ مِن خَلْفُ ولَمَسَت رِداءَه، لأَنَّها قالت في نَفسِها: «إِن لَمَسْتُ ولَو ثِيابَه بَرِئْتُ». فجَفَّ مَسيلُ دَمِها لِوَقتِه، وأَحَسَّت في جِسمِها أَنَّها بَرِئَت مِن عِلَّتِها. وشَعَرَ يسوعُ لِوَقْتِه بِالقُوَّةِ الَّتي خَرجَت مِنه، فالتَفَتَ إِلى الجَمعِ وقال: «مَن لَمَسَ ثِيابي؟» فقالَ له تَلاميذُه: «تَرى الجَمْعَ يَزحَمُكَ وتقول: مَن لَمَسَني؟» فأَجالَ طَرْفَهُ لِيَرَى الَّتي فَعلَت ذلك. فخافَتِ المَرأَةُ وارتَجَفَت لِعِلمِها بِما حدَثَ لَها، فَجاءَت وارتَمَت على قَدَمَيه واعتَرفَت بالحَقيقَةِ كُلِّها. فقالَ لها: «يا ابنَتي، إِيمانُكِ أَبرَأَكِ، فَاذهَبي بِسَلام، وتَعافَي مِن عِلَّتِكِ». وبَينَما هُو يَتَكَلَّم، وَصَلَ أُناسٌ مِن عِندِ رئيسِ المَجمَعِ يقولون: «ماتَتِ ابنَتُكَ فلِمَ تُزعِجُ المُعَلِّم؟» فلَم يُبالِ يسوعُ بهذا الكَلام، بل قالَ لِرئيسِ المَجمَع: «لا تَخَفْ، آمِنْ فحَسبُ». ولَم يَدَعْ أَحَدًا يَصحَبُه إِلاَّ بُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا أَخا يَعقوب. ولَمَّا وَصَلوا إِلى دارِ رئيسِ المَجمَع، شَهِدَ ضَجيجًا وأُناسًا يَبكونَ ويُعْوِلون. فدَخلَ وقالَ لَهم: «لِماذا تَضِجُّونَ وتَبكون؟ لم تَمُتِ الصَّبِيَّة، وإِنَّما هيَ نائمة»، فَضَحِكوا مِنهُ. أَمَّا هو فأَخرَجَهم جَميعًا وسارَ بِأَبي الصَّبيَّةِ وأُمِّها والَّذينَ كانوا معَه ودخَلَ إِلى حَيثُ كانَتِ الصَّبيَّة. فأَخَذَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وقالَ لها: «طَليتا قوم!» أَي: يا صَبِيَّة أَقولُ لكِ: قومي. فقامَتِ الصَّبيَّةُ لِوَقتِها وأَخَذَت تَمْشي، وكانتِ ابنَةَ اثنَتَي عَشْرَةَ سَنَة. فَدَهِشوا أَشَدَّ الدَّهَش، فَأَوصاهم مُشَدِّدًا أَلاَّ يَعلَمَ أَحَدٌ بذلك، وأَمَرَهُم أَن يُطعِموها.
العظة
“لا تخف، آمِن فحسب”، يقول يسوع للرجل الذي يعلمه الناس بأنّ ابنته الصغيرة قد ماتت. لقد انتهى كلّ شيء، ولم تُستجب صلاة الأب المكلوم. تأخّر يسوع في الطريق، ولم يصل لنجدة الفتاة قبل أن يخطفها الموت ويقضي على كلّ الآمال. فما نفع الإيمان بعد الموت؟ هل كانت صلاة الأب غير مُجدية؟ هل يكترث يسوع حقًّا بآلام الناس وأوجاع قلبهم؟ هل يسمع صرخات البشر في أنحاء بلادنا المنكوبة؟ هل من حدٍّ للشرّ، للكذب، للعنف؟ هل يمكننا أن نعرف طعم الفرح مجدّدًا؟ كمّ وكمّ من التساؤلات التي تثار في داخلنا أمام المعاناة والمصائب التي تحلّ بنا وبالناس من حولنا.
يطلب يسوع من والد الطفلة المائتة أن يؤمن بالمستحيل، وهو أنّ الموت لا يغلب الحياة، وإن ماتت ابنته فأنّها ستحيا. الموت هو تحدّي الإيمان، ولا يظهر الإيمان الحقيقيّ إلا في مواجهة الموت. محقٌّ هو كاتب سفر العبرانيّين حين قال: “الإيمان هو الوثوق بما نرجوه وتصديق ما لا نراه” (عب 11: 1). وفي قلب يسوع تعمّقت القناعة بأنّ الله آباه “خلق الإنسان خالدًا، وصنعه على صورة ذاته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم” (حك 1: 23-24)، وبأنّ محبة أبيه للبشر لا يمكن أن يقوى عليها أيّ شرّ. يسوع هو كلمة الله المتجسّدة، هو الحياة الفيّاضة لكلّ إنسان يؤمن بأنّه ابن لله، وبأنّه موضع محبّة فائقة لا توصف ولا تدرك.
صارت حياة يسوع إعلانًا عن الإيمان هذا، رغبة حارة في إيقاظه في القلوب، وبحثًا شغوفًا عنه. وفي الطريق مع أبو الفتاة المريضة، تأتي امرأة لتلمس رداء يسوع طلبًا للشفاء، إذ تضيع حياتها في نزيف لا ينقطع منذ اثنتي عشرة سنة، وأنفقت كلّ مالها على الأطباء بلا جدوى، بل صارت من سيّء إلى أسواء. وصلت المرأة النازفة إلى آخر حدودها، وتلامست مع اليأس وفقدان كلّ أمل. سار الموت يعمل فيها بلا هوادة، بقوة وعزم وتصميم، وكأنّه استولى عليها وانتصر. غير أنّه وسط الليل الدامس، قالت المرأة في نفسها: ”إن لمست ولو ثيابه برئت” (مر 5: 28). فهكذا فعلت، جاءت من الخلف ولمست رداءه، فشعر يسوع بقوّة تخرج منه، قوّة حياة وشفاء، وشعرت المرأة بأنّها برئت من دائها.
فرح يسوع وتهلّل بإيمان المرأة، لأنّ واحدة من وسط زحام الجموع، قفزت بالإيمان نحوه، بعدما أغلقت سائر الأبواب في وجهها، وتعلّقت بشعاع الكلمة التي ترنّ في قلبها: “لا تخافي ولا ترتابي، آمني به فحسب، فهو يمنحك الحياة، وأنت لا تعرفين كيف يكون هذا؟”. ألحّ يسوع في طلب رؤية من آمن به، فجاءت المرأة “وارتمت على قدميه واعترفت بالحقيقة كلّها. فقال لها: يا ابنتي، إيمانك خلّصك، فاذهبي بسلام، وتعافي من علّتك” (مر 5: 33-34). ترجع المرأة في سلام لأنّها آمنت بيسوع، فقد وجد القلب نوره وفرحه وسلامه، قبل أن يجد الجسد شفاءه.
الإيمان هو نور حياتنا وقوّتها، يصيبنا الموت بأشكالٍ متعدّدةٍ ووجوهٍ كثيرة، والأحداث من حولنا لَهي أبلغ دليل. ولكن لا تسقط صلاة ولا يضيع طلب خلاص وشفاء وتعزّية. ماتت الفتاة الصغيرة، إلا أنّ يسوع يطلب من أبيها أن يؤمن فحسب، مثل المرأة النازفة، بالرغم من الموت الذي نزل بابنته. يبكي الناس ويُعولون، ولمّا يعلمهم يسوع أنّها لم تمت بل تنام، يضحكون منه (مر 5: 40). يستهزأ الناس بيسوع لأنّه يؤمن بأنّ الإنسان لم يخلق للموت بل للحياة، وبأنّ الموت لا يسود عليه أبدًا حتى وأن تفشّى وانتشر.
“أخذ يسوع بيد الصبيّة وقال لها: طليتا قوم! أي يا صبيّة أقول لك قومي” (مر 5: 41). يكفي إيمان شخص واحد لتظهر الحياة جليّة بهيّة بالرغم من الموت. واليوم، في حياتنا وحياة الكثيرين من حولنا، يعمل الموت بجلبة وشدّة، ولكنّ الإيمان بيسوع يسري أيضًا في القلوب، ويجعلها تنبض بهذه الكلمات: آمن فحسب. نحن لا نعرف كيف تظهر الحياة بالرغم من الموت، ولكنّنا على يقين بأنّ يسوع معنا، يشفي حين تنهار قوانا، ويحي عندما نشعر بالعجز المطلق، ويخلق حياة جديدة أحلى وأروع من كلّ تصوّراتنا وانتظاراتنا. هكذا هو، أسلم ذاته بين يدي أبيه حتى الموت على الصليب، فدُحرج الحجر من على باب القبر، وقام من بين الأموات سيّدًا على الحياة التي لا تنتهي. لنستودع ذواتنا وحياتنا بين يديه، ولنؤمن فحسب، فهو يأخذ بيدنا ويدعونا لنقوم.
يسوعيون