مارى جورجيت.. المسارعة فى الخيرات
عشرات القضايا والظواهر يمكن أن تشغل مئات الصفحات فى الدوريات ومئات ساعات البث على الشاشات، وتعطى المعلقين والكتاب فرصة متسعة لإبداء الرأى وللاشتباك والمعارك.. ولذا قد يكون غريباً عند البعض أن ينشغل كاتب بأمور أخرى غير الدستور وهيئته التأسيسية، وبغير الإخوان وأقرانهم من جماعات إسلامية وسلفية وجهادية.. وأيضا ينشغل بغير تردى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك الأمنية! أقول هذا لأننى منذ انتظمت فى الكتابة لـ«المصرى اليوم»، انشغلت أحيانا بأمور قد تبدو بعيدة عن كل ما سبق وتبدو صوتا من خارج السرب. غير أننى أذهب مذهباً آخر هو أن ثمة أموراً تمثل أسس التكوين المصرى، أو هى المياه الجوفية العميقة السارية المتدفقة تحت طبقات من التراب والطين والحصى والصخور، ولها مسارات معلومة عند المعنيين من خبراء المياه والجيولوجيا.. ومعهم خبراء الاستشعار عن بعد.. ومن عجب أنه مع تقدم التكنولوجيا استطاع الإنسان أن يخرق المكان والزمان، وأصبحت الرؤية أشد قرباً ووضوحاً وجلاء كلما ابتعدت العين، لأننا من خارج الغلاف الجوى نستطيع بوسائل التطبيقات العلمية أن نرصد ونتابع ونحدد بدقة مواضع مواد بعينها فى عمق أعماق اليابسة.. وكذلك البحار والمحيطات، وهكذا هى الاجتهادات العقلية والتوهجات الوجدانية التى تسعى للوصول إلى عمق مكنونات هذا الشعب المصرى العريق! أكتب هذا لأسأل القارئ السماح إذا ظن أن سطور هذه المساحة تمضى أحيانا بعيدا عما تقرعنا به الأحداث والظواهر والمفارقات! فمن لمحات هذا المكنون الوطنى ما ألمحت إليه فى مقال سابق حول الأم الراهبة الراحلة الجليلة، مارى جورجيت حبشى، الرئيسة العامة السابقة لراهبات قلب يسوع المصريات بجمهورية مصر العربية والسودان وتونس، التى بدأت حياتها الرهبانية عام ١٩٥٠ ولم تتخل عن مواصلة تكوينها العلمى لتتولى عام ١٩٦٠ موقع المديرة لمدرسة القديس يوسف الظهور بالعباسية، وظلت تخدم الوطن فى مواقع متعددة حتى انتخبت رئيسة عامة لراهبات قلب يسوع! وعاشت للخير أكثر من ٥٥ سنة، أكتب عنها لأنها صاحبة الوجه المبتسم البشوش مضىء الملامح، التى كنت كلما التقيتها ضمن الجمع المميز من الوطنيين والوطنيات المصريين فتحت ذراعيها مرحبة وشديدة الكرم، ولأنها الإنسانة المتدينة لدرجة الانقطاع عن متع الحياة الدنيا، ناذرة نفسها لله سبحانه وتعالى لتعبده تحت راية المسيح له المجد، ولم أشعر لحظة واحدة بأنها ومن معها من الأخوات الراهبات قد أصابهن الضيق أو علت وجوههن قسمات الاستغراب أو الاستهجان أو التأفف عند التفانى فى خدمة ضيوف الدير من المسلمين لتقديم الإفطار الرمضانى.. أو بسط السجاجيد لصلاة المغرب جماعة داخل دير قلب يسوع للراهبات بمصر الجديدة! كنا نشق ريقنا ببعض الشراب والتمر، ثم نتجه إلى الغرفة التى أعدت كمصلى، وتقف مارى جورجيت الراهبة ومعها راهبات أخريات يخدمن من يريد أن يجدد وضوءه، ويقفن إلى جوار الباب لعل أحدا يحتاج شيئاً.. ثم مع الشاى والقهوة يبدأ النقاش حول أى موضوع يتصل بحياتنا العامة، ويدور الحوار بمنتهى الحرية ودون أى سقف! واستمر الأمر سنين حتى أضحى علامة مميزة. وذات مرة تقدم لإمامتنا فى الصلاة المرحوم الصديق العزيز الأستاذ عادل حسين، ويبدو أنه فتش فى ذاكرته عن سورة يتلوها عقب فاتحة الكتاب فلم يجد سوى سورة «قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون».. وبصراحة شديدة ارتبكت وأنا أصلى من خلفه، فرددت بصوت خفيض «الله أكبر» واستمر عادل ليقرأ فى الركعة الثانية قل هو الله أحد!.. وعندما قضيت الصلاة لم أفلت الموضوع، لأننى اكتشفت أن الأم مارى والراهبات كن واقفات فى الردهة انتظاراً لخدمتنا بعد الصلاة.. وتندرت بقسوة على «عادل» رحمة الله عليه، وأشفقت عليه الأم الجليلة فأطلت بيننا بوجهها المشرق الهادى وضحكت وتحولت بالمناقشة لوجهة أخرى.. غير أنها فى لمحة واحدة قالت له بالقرب من أذنه.. «ليسوا سواء» يا أستاذ عادل.. مذكرة إياه بالآية الكريمة من سورة آل عمران التى تقول: «لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» (صدق الله العظيم آل عمران ١١٣ – ١١٥). هذه هى أحد تدفقات المياه الجوفية المصرية السارية فى أعماق أعماق أرض المحروسة.. هى دفقة الرهبانية التى أبدعتها مصر سبيلا للحفاظ على العقيدة من عسف الظالمين وسبيلا من بعد ذلك لخدمة المجتمع، ولقد كانت مارى جورجيت مؤمنة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتسارع فى الخيرات.. رحمها الله رحمة واسعة. |