من يملك الحقيقة؟ هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ هل الحقيقة كاملة أم مُجزأة؟
الحقيقة ما هي؟ الحقيقة أين هي؟ من يملك الحقيقة؟ هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ هل الحقيقة كاملة أم مُجزأة؟ هل الحقيقة أحيانًا هي نقيض الواقع؟ هل الحقيقة يقينية أم احتمالية؟ هل الحقيقة تختلف من شخصًا لآخر حسب الأهواء والرغبات؟ هل الحقيقة واقع أم خيال؟ هل الحقيقة ذاتية أم موضوعية؟ من أين تستمد الحقيقة قيمتها وجوهرها؟ الحقيقة كيف نجدها؟ وأخيرًا وليس آخر هل للحقيقة وجود وقيمة بين بني البشر اليوم؟!
بدأنا مقالنْا بهذه الأسئلة، لأنهُ عندما نذكر كلمة الحقيقة، أو عندما نقف أمام موقف أو ظرف ما أو ربما حديث شخصًا ما، في الوقت ذاتهُ يتبادر إلى ذهننا كل هذه الأسئلة المُتنوعة! فينتابنْا الشك لوهلةٍ، ونبدأ بالسؤال بيننا وبين أنفسنْا، هل ما يقولهُ هذا الشخص أو ذاك، أو ما نسمعهُ منهُ هو الحقيقة؟! هل ما حصل في ذاك الموقف هو الحقيقة بعينها؟! أو بالأحرى هل ما يحدث في هذا الوجود هو الحقيقة الواقعية؟
لا نستطيع أن نحدد بالضبط، كما لا نستطيع أن نبني افتراضات لمُجرد واقعة لم تكتمل ولمْ تُثبتْ وتُستُوضح مُعالمها، لأن الحقيقة كما عرفها الفيلسوف (لالاند) هي:\” خاصية ما هو حق (القول المُطابق للواقع)، وهي القضية الصادقة، وما تحت البرهنة عليه، وشهادة الشاهد الذي يُحكي ما فعلهُ أو رآهُ، والشيء الأًصيل في مُقابل المُزيف\”. وكما نعلم أن الحقيقة أو الحقائق ليست واحدةٍ، بلْ كثيرة ومتنوعة، منها: حقيقة علمية، حقيقة اجتماعية، حقيقة نفسية، حقيقة فلسفية، حقيقة تاريخية، حقيقة دينية، حقيقة كونية، حقيقة سياسية ….. هذه الحقائق جميعها طبعًا نسبية، أي بمعنى تختلف وتتغير وتتعدد تبعًا لاختلاف الأزمان والمُجتمعات والبشر.
وإذا تبنينا موضوع الحقيقة من وجهة نظر فلسفية فإننا سنصادف عدة طروحات ووجهات نظر للكثير من الفلاسفة، وسنحتاج إلى الكثير من التفسيرات. لكن يبقى سؤال ما هي الحقيقة بمُجملها؟ هو السؤال الوحيد المُلازم للإنسان، وحولهُ تدور بقية الأسئلة! لأنهُ إن كانت الحقيقة كاملة، أكتمل الواقع بها! وهذا ما سنبينهُ من خلال طرحنْا البسيط هذا.
لنتأمل قليلا في الكون والحياة والناس، نعم إنسانها توصل إلى شتى العلوم وأرقىّ الاكتشافات وأصبح العالم قرية صغيرة بفضل التطورات الكثيرة، ولكن بالمُقابل يهمل أو بالأحرّى يُضيع أجمل وأنقى صفة خصها الله لهُ وهي إنسانيتهِ! نعم يُضيعها في أمور دنيوية لا تُجدي نفعًا. إنساننْا هذا عندما يعيش الفراغ في حياتهِ والتهميش والسطحية لحياة الآخر، ويلهث وراء غايات ورغبات تافهة في سبيل إرضاء نفسهِ قبل الآخر، خادعًا ذاتهُ بمباهج هذه الحياة وملذاتها! طبعًا بها يُضيعُ حقيقة الوجود وحقيقتهِ كإنسان خُلق من أجل أن يكون إنسانًا. مُعتقدا أن حياتهِ في هذه الدنيا ستقترب في أية لحظة وعندها بالتأكيد سينتهي كل شيء وكأنهُ لم يكنْ، واهمًا نفسهُ بأنهُ لابد أن يعيشها كيفما تكون!
حياتهِ طبعًا ستنتهي وهذا الطبيعي، ولكن اعتقادهِ هذا أكيد خطأ 100% لأن الإنسان في هذا الوجوّد لم يوجد بشكل عشوائي أو نتيجة صدفة، كما ولمْ يُخلق من أجل لا شيء، فمُجرد وجوده في هذا الكون هو الحقيقة ذاتها، لأنهُ في هذا الواقع مُوجود فعلاً وهو الكل من الحقيقة وليس الجزء. لكن بسبب عدم إدراكهِ غاية الوجود والحياة، والغاية التي من أجلها خلقت جميع الكائنات، يبنيِّ تصورات من وحيِّ فكرهِ الخاص وينفرد بها ويُطبقها ويعيشها بعشوائية وسطحية في حياتهِ، مُتناسين روحهم ومُهتمين بجسدهم، مُتناسين الآخر كذلك وحقوقهِ عليهم.
كذلك نلاحظ أن البحث عن الحقيقة بشتى السبل من طبع البشر، ولكن قولها كاملة ليس من طبعهم، ألا القلة القليلة! لأن هنالك من يزيف الحقيقة، ولأن طبائع البشر كما نعلم تختلف مع اختلاف قدراتهم المعرفية، وبالنتيجة اختلاف كل واحدٍ في طريقة تبليغهِ الحقيقة للناس كما هي، لأن كل مُتلقي للحقيقة الواحدة بين مجموعة مُوجودين تختلف وتتباين حسب المستوى الفكري والمعرفي، فتكون قابلة للزيادة أو النقصان بها.
ودائما نلاحظ في النقاشات القائمة بين مجموعة من الناس حول موضوع معين، تدور الحوارات وتختلف الآراء ويُصبح كل واحدٍ في موقف الدفاع حين يشتد الكلام، مُحاولاً كل واحدٍ إقناع الآخرين برأيهِ، وبأنهُ على حق وبأن ما يقولهُ هو الحقيقة المُطلقة من وجهة نظره! ولكن كما قال الفيلسوف اليوناني (أرسطو):\” من الصعب على الإنسان أن يمتلك الحقيقة الكاملة …\”. طبعًا لا يوجد إنسان يمتلك حقيقة كاملة لأنهُ لا وجود لإنسان كامل، وأيضًا لأنهُ ربما لا يوجد من يمتلك التفاصيل كاملة، أو لأنهُ أحيانًا هناك من يُريد أن يُبقيَّ الحقيقة مُستترة أو خافية بسبب غرورهِ وتصوراتهِ!
فالحقيقة هي غاية في ذاتها، يُسعّى إليها في سبيل الكشف عن كل ما هو غير واضح، ولا يختلف إثنان في أن الحقيقة هي أخلاق وفضيلة وقيمة. والحياة واقع جميل، والموت هو الحقيقة المطلقة التي لا مفّر منها. إذن منْ مِنْا يمتلك الحقيقة، أو من مِنْا على حق؟! ويبقى الإنسان يبحث عن الحقيقة في كل وأي شيء في حياتهِ!
فرنسيسكان مصر