مثل السامري الصالح-الأب د.كميل وليم
يستوحي إنجيل القديس لوقا ، في رد يسوع المسيح على سؤال معلم الناموس عمن هو القريب، الإنجيلين الإزائيين مرقس (28:12-34) ومتى (34:22-40)، ويؤكد إنجيل القديس لوقا، تماماً كما فعل إنجيلا القديسين مرقس ومتى، أن لمركز الشريعة جانبين غير منفصلين: حب الله وحب القريب. ويؤكد، في نفس الوقت على أولوية حب الله وشموليته وامتداده: يقتضي حب الله عبادته تعالى، أما حب القريب فهو محبته واحترامه وخدمته.
كما يؤكد إنجيل القديس لوقا على أن هذا الأمر ليس بجديد ولا غريب، إذ أنه متأصل في الكتب المقدسة ويستطيع الإنسان، ذو الإرادة الصالحة، أن يستنتجه منها. هناك فرق بين إنجيل القديس لوقا وإنجيلي القديسين مرقس ومتى. ينوّه إنجيل القديس لوقا إلى أن معلم الشريعة لم يعجبه رد يسوع: “فأراد أن يزكّي نفسه فقال ليسوع: “ومن هو قريبي؟” (لو 29:10). المسألة ليست بالبساطة التي تبدو عليها. كان الجدال شديداً بين علماء الشريعة، أيام يسوع المسيح، حول من هو القريب: من هو القريب الذي يجب أن يحبه المرء؟ هل هو جاره؟ أم هو مواطنه؟ أم هو شريكه في الدين؟ أم هو البار الصديق؟ أراد معلم الشريعة أن يتعرّف على رأي يسوع بهذا الصدد، رد يسوع، على طلب معلم الشريعة، بمثل السامري الصالح (لو30:10-35).
إن رد يسوع على هذا السؤال ليس فتوى ولا إضافة لرأي لاهوتي جديد لقائمة الآراء السابقة. يصف المتخصصون مثل السامري الصالح بأنه “قصة مثالية”، وهو وصف دقيق وصائب.
يعرض المثل تصرفاً يُحتذى به ولا يحتاج أن يرفع المرء من المجال النظري إلى المجال الديني، إذ أنه بالفعل رد ديني. قبل أن نتناول المثل، يجب أن نعطي بعض الملاحظات. بنية حوار معلم الشريعة مع يسوع رائعة: يطرح معلم الشريعة سؤالاً (25:10)، ويرد عليه يسوع بسؤال آخر (لو26:10). فيعاود معلم الشريعة الحديث بسؤال جديد (29:10)، ويجيبه يسوع للمرة الثانية بسؤال (لو 36:10).
تبرز هذه البنية إحدى خصائص حوارات يسوع، لا بل أصول خصائص الوحي الإلهي: تقتضي ردود يسوع أن يغيّر المستمع اتجاه أسئلته. إن أسئلة البشر محدودة جداً وضعيفة للغاية، قياساً بردود الله. ومرة أخرى لا يرد يسوع بطريقة مباشرة على أسئلة معلم الشريعة. منذ متى يكتفي يسوع بمجرد الرد على الأسئلة؟! تتخطى إجابته حدود الأسئلة الضيقة، وتحلق بالإنسان وتسمو بتفكيره.الكاهن اللاوي “كان رجل نازلاً من أورشليم إلى أريحا” (30:10).
ترتفع أورشليم عن أريحا حوالي 1000متر، وتبعد عنها 30كم. وكان الطريق يشق صحراء يهوذا القاحلة الخالية من أي نشاط بشري. كانت هذه أفضل الظروف التي تتيح، لمن يريد، نصب كمائن ناجحة. شاءت ظروف أحد المسافرين العاثرة أن يسقط في إحدى هذه الكمائن: سلبه اللصوص كل ما يملك وتركوه بين حي وميت.
يستعمل إنجيل القديس لوقا كلمة “لصوص” ربما يقصد بها مجرمين عاديين، أو قد يكون هؤلاء أشخاص تطاردهم السلطة السياسية فكانوا يعيشون بعيداً معتمدين، في إعالتهم، على ما ينهبونه من المسافرين، الذين يسقطوا في كمائنهم. مر بالطريق كاهن ولاوي (هل كانا عائدين من خدمة الهيكل؟). وصل كل منهما بدوره إلى موضع المسافر الجريح ونظره ثم جاز مواصلاً طريقه. ربما يكون الدافع هو عدم الإحساس بالآخرين، وقد يكون أيضاً للمحافظة على الطهارة الشرعية، حيث كانت تقتضي الشريعة أن يكون الخادم طاهراً، وبالتالي ينجّس لمس الدم. وكان لابد من تفادي هذا الجريح وغيره.
لماذا اختار يسوع كاهناً ولاوياً ليضرب بهما مثالاً عن موقف سلبي؟ يختبئ وراء هذا الاختيار هدف جدالي: لا يجب أن تحول المحافظة على الطقوس والمراسم الدينية دون الشيء الأساسي، وهو محبة القريب. الطهارة التي يريدها الله هي الخلو من الخطايا والظلم، وليس النقاء من دم جريح. إذا صح افتراض أن الكاهن واللاوي ابتعدا عن الجريح خوفاً من أن يتنجسا، فإن المرء يستطيع أن يدرك هدف يسوع الجدالي وأن هدفه هذا موجّه بطريقة دقيقة جداً.
من المؤكد أن معلم الشريعة، الذي كان يصغي بانتباه لما يقوله يسوع، تمتم سراً: “حسناً فعل هذان. فهذا هو التصرّف السليم للمحافظة على الشريعة وعلى الطهارة. إنه وإن كان مؤلماً، إلا أنه التصرّف الصحيح”! هذا هو بالتأكيد رأي معلم الشريعة: أمّا رأي يسوع فهو مخالف تماماً. يظهر هذا أن هجوم يسوع وانتقاده غير موجهين إلى طبقة دينية بعينها (في هذه الحالة الكهنوت)، بل ضد نظرة دينية واسعة الانتشار. السامري مرّ رجل سامري.. توقف.. اهتم بالجريح.
يقدم يسوع السامري كنموذج يُحتذى به وهذا يزيد من دهشة معلم الشريعة. يشير اندهاش المستمع دائماً إلى أن الخطاب تناول نقطة يجب التوقف عندها. كان اليهود يحتقرون السامريين، وكانوا يتفادون التقابل معهم تفاديهم للوثنيين. وشاع مثل بين اليهود يقول: “من أكل خبز السامريين كأنه أكل لحم الخنزير”. بالرغم من هذا، لا بل يمكن القول لهذا السبب، يختار يسوع المسيح سامرياً كنموذج يجب الاحتذاء به ولا يختار فريسياً محافظاً.
لقد قصد يسوع هذا: لا توجد حدود للطيبة وعمل الخير. توجد نماذج يُحتذى بها حتى بين الفئات التي لا نتوقع منها شيئاً صالحاً أو إيجابياً. لا يخضع يسوع لأية أحكام مسبقة. لا يكون الخير كله في جانب واحد، كما أنه لا يكون الشر كله في الجانب الآخر. وسوف يرجع إنجيل القديس لوقا إلى هذه الفكرة مرة أخرى في معجزة شفاء البرص العشرة (را. لو 11:17-19). شفى يسوع عشرة برص وعاد منهم واحد فقط ليشكره وكان سامرياً. فقال يسوع: “أليس العشرة قد برئوا؟ فأين التسعة؟ أما كان فيهم من يرجع ويمجّد الله سوى هذا الغريب؟” (لو 18:17). كان السامري يعتبر غريباً، أو كما يقول النص حرفياً من “جنس آخر”. كان الاختلاف دينياً أيضاً. هذا الغريب والذي ينتمي إلى جنس آخر ودين آخر هو الوحيد الذي عاد لكي يمجّد الله: وهو الامتياز الذي اعتقد معظم اليهود أنه خاص بهم وحدهم.
يوحي النص أن القريب الذي يجب مساعدته هو كل إنسان محتاج يقابله المرء. قد يكون هذا هو الرد الصحيح على سؤال معلم الشريعة “من هو قريبي؟” ولكن اهتمام المثل يوجَه إلى ناحية أخرى، لا يتوقف المثل عند الجريح الذي يقول عنه: “فعروه وانهالوا عليه بالضرب ثم مضوا وقد تركوه بين حي وميت” (لو30:10).
يركز المثل الانتباه على السامري. لا يتوقف عند وصف من هو، إذ يكتفي بالقول إنه سامري، بل يتوقف على ما عمل. القصة سريعة الإيقاع. وعندما يهدأ الإيقاع، يعني هذا أن الراوي قد وصل إلى مشهد هام، يجب عدم التعجل في تركه. يركّز النص الاهتمام على تصرّف السامري: إنه يرى الجريح، ويشفق عليه، ويقترب منه، ويضمّد جراحه، ويحمله على دابته، ويذهب به إلى الفندق، ويهتم به، ويدفع لصاحب الفندق. يبدو كأن يسوع لا يجيب على سؤال معلم الشريعة: من هو قريبي؟ بل على سؤال آخر: كيف أتصرف مع قريبي وكيف أعامله؟ أو ماذا يعني أن أحب قريبي؟ إن اهتمام يسوع المسيح مركّز على الوصية الكبرى: أحبب الله والقريب، لا على فضول معلم الشريعة.
لم يسأل السامري عن هوية الجريح، وكانت مساعدته له مجانية وكريمة وملموسة. هذا هو معنى “حب القريب”: إنه حب لا يقوم في الكلام بل في العمل. أن يحب المرءُ الغريبَ هو أن يهتم بحالته اهتماماً تاماً كاملاً وشاملاً. يتضح اهتمام يسوع بالعمل من رده على معلم الشريعة: “بالصواب أجبت، اعمل هذا فتحيا” (لو28:10) و”اذهب فاعمل أنت أيضاً مثل ذلك” (لو 37:10). حاول معلم الشريعة أن يوجّه المسألة إلى النظريات، أمّا يسوع فيقوده إلى العمل. من كان من الثلاثة قريبه يمكن أن نقول: انتهى الأمر، سأل معلم الشريعة: مَن هو القريب؟ وأجاب يسوع: أنَ كل محتاج هو القريب. ولكن يسوع، الذي بلغ إلى نهاية المثل، يطرح سؤالاً مفاجئاً، يتضمن تعليماً هاماً جداً. صيغة السؤال لا يتوقعها المستمع: إنه لا يقول: “مَن من الثلاثة تعرف في الجريح على القريب”، بل: “مَن كان في رأيك من هؤلاء الثلاثة، قريب الذي وقع بين أيدي اللصوص؟” (لو 36:10)، يبعد يسوع، بسؤاله هذا، سؤال معلم الشريعة عن مركزه: أولاً من التعليم النظري إلى التصرّف العملي والآن من الخارج (من هو القريب) إلى الباطن (من أنا؟).
يرى يسوع أن السؤال: من هو القريب؟ هو سؤال خاطئ: القريب موجود وهو قريب ومنظور. ما ينقص هو العيون التي تراه. المسألة الحقيقية والأساسية هي أني أنا يجب أن أقترب من الآخر، وأن أتجاوز الحدود والمسافات الباطنية التي أتحصن بها من الداخل والخارج.
عليّ أن أتصرّف مثل السامري الذي شعر بأنه قريب، واهتم بأخيه الذي لا يعرفه. انطلق معلم الشريعة من فضول المعرفة وانتهى بأنه يجب أن يتوب ويتغيّر. يعتقد البعض أن السؤال الأخير هو إضافة لاحقة، ذلك استناداً على أن إجابة يسوع لا تطابق تماماً سؤال معلم الشريعة. وكلنا نقول إن سؤال يسوع الأخير لا يتجاهل سؤال معلم الشريعة بل يكمله. إنه ببساطة يقلبه رأساً على عقب. وهذا يثير الدهشة ولا يخل بالرواية. لا بل قد رأينا أن زحزحة سؤال معلم الشريعة عن مركزه هو موضوع حوار المثل. إن قلب الحديث رأساً على عقب، وإثارة دهشة المستمع هما أهم خاصتين لعبقرية الراوي وعمق خبرته الدينية، التي يريد أن ينقلها للمستمع. عموماً ما كان مثل السامري الصالح ما هو عليه بدون هذا السؤال الأخير.