مجيء القديس مرقس إلى مصر ومهاجرة الأقباط لمصر
مجيء القديس مرقس إلى مصر ومهاجرة الأقباط لمصر
أشرف ناجح إبراهيم
- 1. القديس مرقس “كاروز الديار المصريّة”
يكتب المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصريّ في كتابه المشهور”تاريخ الكنيسة” بخصوص كنيسة الأسكندرية ومؤسسها هذه الكلمات: «1. يُقال أن القديس مرقس عندما أُرسل إلى مصر كان الأول في نشر هناك الإنجيل الذي كتبه وتأسيس كنائس بالأسكندرية ذاتها. 2. وبفضل حكمته وغيرته في أسلوب حياته، إزداد عدد المؤمنين من الرجال والنساء، لدرجة أن فيلون وجد مجادلاتهم وإجتماعاتهم وموائدهم وأسلوب حياتهم جديرة بأن تدوّن»[1].
لقد عاش يوسابيوس القيصريّ ما بين القرن الثالث والقرن الرابع الميلادي (264-340)، وينقل لنا هذه الشهادة الثمينة التي هي بدورها تقليد مسلّم مِن قبل أخرين؛ وهذا يعني أن القول بمجيء القديس مرقس إلى مصر هو تقليد عريق وشهادة قوية لها ثقلها. ولكن يُترك بالطبع مجال للدراسات التاريخية-النقدية للبحث والتعمّق في صحة هذا الأمر. ولكن على حالٍ، كنيسة الأسكندرية أو الكنيسة القبطية يعود تأسيسها إلى القرن الأول الميلادي (راجع أعمال 2/10)، بفضل شهادة وإستشهاد القديس مرقس “كاروز الديار المصرية”. لقد جاء القديس مرقس إلى مصر حتى ينشر فيها إنجيل المسيح والمسيحية؛ وقد جاء بدون جيوش وأسلحة، مؤيّداً فقط بالروح القديس ومسلّحاً بقوة الحجة (راجع مرقس 13/11). ولنتخيل مصر بدون كرازة مرقس الرسول، ونقرأ الواقع المعاكس: ماذا كان سيحدث لمصر بدون كرازة القديس مرقس والمسيحيين الأوائل؟ هل كانت مصر أضحت مسيحية؟ وهل كان بإمكاننا نحن الأقباط أن نفخر اليوم بأننا أبناء الشهداء وأن كنيستنا هي من أعرق الكنائس المسيحية؟!
- 2. هجرة أقباط مصر
لقد أعلنت كثير من الاستطلاعات والدراسات الأجنبية أن أقباط مصر _أبناء مرقس الرسول والمسيحيين الأوائل_ يهاجرون بكثرة مِن مصر في هذه الأيام، كما حدث مع مسيحي لبنان والعراق والبلاد العربية الأخرى. وقد قيل ويقال أن أقباط مصر المهاجرين يزداد عددهم يوماً بعد يوم، وخاصة بعد ثورة 25 يناير (2011)، خوفاً مِن المستقبل الذي تؤول إليه مصر، فهو مستقبل غامض وسيء. وربما تكون هناك مبالغة في أعداد المهاجرين من الأقباط لمصر، ولكن الواقع المرير يشير أن هذا الأمر يحدث بالفعل. وأيان كانت أسباب الهجرة، وأيان كانت الاحتياجات الحقيقة والواقعية للأمان والاستقرار ومستوى المعيشة المرتفع…إلخ، لا يمكننا أن نخدع أنفسننا ونغفل أعيوننا عن رؤية المفارقة الواضحة والفاضحة بين القديس مرقس وبيننا نحن أقباط مصر المعاصريين: فقد جاء القديس مرقس إلى مصر مخاطراً بحياته حتى ينشر فيها إنجيل المسيح والخلاص ونحن مسيحي مصر المعاصريين نهجرها خوفاً على حياتنا وهرباً من الاضطهاد!
وقد يعترض البعض قائلاً: لقد هرب السيد المسيح مِن أمام وجه هيردوس الطاغية، فلماذا لا نهرب نحن من أمام المعاملات السيئة والاضطهادات التي نعانيها في مصر؟ لماذا يجب علينا أن نتحمّل المشقات طالما هناك مجال أخر للعيش في سعادة ورخاء مع بقائنا مسيحيين في بلاد المهجر؟ الردّ على هذا الاعتراض قد يبدؤ قاسياً، ولكنه لا يخلو من الصحة. أجل، لقد هرب السيد المسيح مع العائلة المقدسة مِن أمام هيردوس، ولكنه ليس لمجرد الخوف من الموت والرغبة في التنعم بالحياة الأرضية؛ وإنما لتحقيق رسالته التي جاء من أجلها؛ أعني أنه هرب من الموت مؤقتاً، ولكن لم يهرب من رسالته! لا وبل يمكننا القول أنه هرب من أمام وجه هيردوس في سبيل تحقيق رسالته التي أُرسل من أجلها؛ فهو لم يهرب إطلاقاً من الموت عندما جاء الموت في طريقه؛ وعلينا أن نراجع نصوص البشائر الأربعة لنتأكد أنه منذ أن بدأ حياته العلنية ورسالته حتى موته على الصليب كان مستعداً لقبول الموت مِن أجل تحقيق رسالته وخطة أبيه في حياته!
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل مَن يهاجر مصر مِن الأقباط في هذه الأيام يشعر بأن هذه الهجرة هي إرادة وخطة الله في حياته، وأنها تخدم دعوته ورسالته في هذه الحياة؟ وأخشىء _وأرجو أن أكون مخطئاً_ أن هجرة الأقباط لمصر في هذه الأيام تتشابه مع هجرة موسي النبي لمصر هرباً من فرعون وخوفاً على حياته (خروج 2/14-15)!
إنني أتخيل القديس مرقس “كاروز الديار المصرية” يعاتبنا قائلاً: «لقد جئتُ إلى مصر منادياً لكم بالمسيحية، وقد أستشهدتُ أيضاً فيها؛ ولكنكم أنتم _أبنائي المعاصريين_ تتركونها خوفاً من الاستشهاد؟ هل سترتاح ضمائركم أمام الله عندما تهربون مِن مصر وتتركون فيها كارزها وآباءها وقديسونها وقديساتها وأديرتها وكنائسها ومعالمها المسيحية؟»!
وإنطلاقاً مِن قناعتنا العميقة لأهمية وضروة بقاء الأقباط في مصر، لا يمكننا أن نعطي الحق لأنفسننا بأن ندين الأقباط الذين غاداروا ويغادورن وسيغادرون مصر. ولا يجوز إستخلاص مِن حديث مثل هذا أفضليّة الأقباط المتمسّكين بالبقاء في مصر على الأقباط الذي فضّلوا مهاجرتها. فالقديس بولس في رسالته إلى رومة يحذرنا مِن الوقوع في مثل هذه الخطيئة، أعني “إدانة الأخرين” (رومة 14)! فلا ينبغي علينا التمسّك بالحقيقة فقط ونترك المحبة؛ فإنْ لم يُلام علينا مِن جهة الحقيقة، فسيُلام علينا مِن الجهة المحبة!
- 3. القديس بطرس مثال لنا
ولعل قصة إستشهاد القديس بطرس المشهورة تكون لنا درساً مفيداً؛ فهو أراد _مثل كثيرون منا_ الهروب من الضيقات، أعني الهروب من روما خوفاً من بطش نيرون الطاغية. ولكنه في أثناء سيره في أحد مخارج روما القديمة (طريق أبّيا) تقابل معه السيد المسيح حاملاً الصليب، فسأله القديس بطرس: “إلى أين أنت ذاهب، يارب؟”. فرد عليه يسوع قائلاً: “ذاهب إلى روما لأصلب مِن جديد!”[2]. وهنا عاد القديس بطرس إلى روما وتم إعتقاله وصلبه منكس الرأس تحقيقاً لرغبته[3]!
لعل القديس بطرس والقديس مرقس بمثالهما وشفاعتهما يعضدان أقباط مصر في هذه الأيام العصيبة، ويجعلان الأقباط أكثر حباً وتمسكاً بأراضهم المقدسة وتاريخهم العريق بمصر!